في ذكرى وفاة المرشد الإيراني والإمامي و"الجمهوري" الأول روح الله خميني، خطب خالفه، علي خامنئي، جمهوراً من الأنصار. وتناولت خطبته حركة الاحتجاج الشعبية الواسعة على قتل الشابة مهسا أميني، في أواسط أيلول/ سبتمبر 2022، وعلى قانون الحجاب، وتولي جهازي تعبئة الشرطة والحرس مراقبة اللباس النظامي والشرعي، وعلى "الديكتاتور" وخنق أجهزته "الحياة، المرأة، الحرية"، على ما هتف المتظاهرون طوال نحو ثلاثة أشهر إلى أربعة.
ولا ريب في أن أزمات النظام الكثيرة، السياسية والأيديولوجية والاقتصادية والديبلوماسية، غذت الحركة المدنية والديموقراطية التي عمت عشرات المدن، ودامت الأسابيع الطويلة التي دامتها، وتطاولت إلى فئات شعبية واجتماعية وقومية كثيرة، ومدتها بالمتظاهرين والمتظاهرات من غير انقطاع، وأعانتهم على التماسك والاستمرار والابتكار في وجه أجهزة قمع شرسة ومستميتة.
وتطرّق رأس الأجهزة، مرة أولى، إلى الحركة المدنية، في رأس السنة الإيرانية. وكانت تراجعت بعد أن أظهرت على الملأ الإيراني، والعالمي من بعد، ضعف النظام وخواءه السياسي والأخلاقي، وبُعدَه من الإيرانيين والإيرانيات وانكفاءه على جماعاته، ومصالحها الفئوية والمتضاربة. فلم يزد عن ترديد القول فيها إنها قتلت حراس النظام "الأبطال" و"الشهداء"، ومالت إلى مثال "متوهم" في الحكم. وهو يعني الديموقراطية "الغربية".
وعاود الرجل، في الأسبوع الأول من حزيران/ يونيو الجاري، الكرّة. ولكنه، في الأثناء، شحذ تهمته ودعواه، و"عسكر" مضبطته ومرافعته، وبلور مقالته، ومقالة الأجهزة الكثيرة والمتفرعة التي يتربع في رأسها، في المنازعات الداخلية والسياسية التي تتهدد نظامه والأنظمة الأخرى التي تشبهها، على مقادير متفاوتة.
النفي من الداخل
فهو يحرص، أولاً وقبل أي اعتبار آخر، على إخراج الحركة كلها، من ابتدائها إلى كمونها الموقت على الأرجح، من الداخل الإيراني، ونفيها من مجتمعه أو مجتمعاته. فلا ينبغي أن تُحسب احتجاجات الداخل وتظاهراته، ولو تناولت أحوالاً أو حوادث شديدة المحلية أو الظرفية، ثمرة نضجت في تربة تضافرت على إخصابها عوامل رعتها احتياجات أو إحباطات أو تطلعات تنبّه لها أو أرادها أهل البلد، أو مواطنو الدولة، من تلقائهم، وعفوَ التنبّه والإرادة.
فيجزم الخطيب، وصاحب الكلمة الفصل، من علياء إرشاده وولايته و"فقهه" (والفقه هو الفهم)، بأن "أعمال الشغب"- أي الحركة المدنية والديموقراطية التي حملت الأجهزة على اعتقال 22 ألف متظاهر ومتظاهرة في نحو 190 مدينة، ودعت النخب الثقافية والفنية والرياضية إلى التضامن مع المتظاهرين رغم تهديد النظام حريتها ومصالحها وفي بعض الأوقات سلامتها- هذه الأعمال هي وليدة "خطة شاملة (...) صممت في مجامع التفكير الغربية".
يستوي الدليل الخامنئي البيّن على أحسن منطق. الغرب يتصور ويخطط ويريد وينفذ. ومن يبلغهم من الإيرانيين، أو تتطاول إليهم يده، ليسوا من إيران والإيرانيين في شيء.
ويرتّب الولي الفقيه سلسلة الأسباب التي أدت إلى "الشغب"- والشغب هو الإسم الفقهي لقيام قوى حية من الشعوب الإيرانية على من يحكمونهم بالعسف والتمييز والازدراء- على مثال نفساني يُدرس في حوزات "العلم"، وسبق للشيخ محمد جواد مغنية (1904- 1979) والسيد هاشم الأمين (1962-2017) أن وصفاه وصفاً دقيقاً. فالتصور الشامل يسبق الخطة، والإرادة تنقل الفكرة من التصور إلى الخطة. وتتولّى المجامع، أو الهيئات، الوصل بين الخطة وبين التنفيذ. وليس بين "التفكير" الغربي، المفترض بعيداً من إيران، وجماهير مسلميها، الذين اقترع 97 في المئة منهم لدستورها على ما جاء في مقدمة الدستور، بعداً فلكياً، وبين المشاغبين إلا المسافة التي تفصل التصور والفكر من الإرادة، أي لا شيء.
وتحوّل الخطة والتفكير حركةً يتشاركها ملايين الإيرانيين والإيرانيات، ويسددون ثمن تشاركها من حريتهم ودمائهم وأمنهم، هذا التحوّل الصعب والبالغ التعقيد يصوره كبير فقهاء الأمة الإسلامية، على قوله في نفسه، في صورة عملية غربية بين الغرب والغرب على المثال النفساني والتعليمي. فالخطة الشاملة "جرى تنفيذها بدعم (المجامع الغربية) المالي والسياسي والأمني والإعلامي الواسع للأجهزة الغربية. فلا توسط ولا وساطة بين تصور الغرب أو تفكيره وبين تنفيذه أو عمله. ففكرته هي فعله أو خلقه، على مثال كلامي إسلامي نفى الكثرة عن "الذات"، واستغلق عليه تصور علاقة العالم السفلي، دنيا الكون والفساد، بخالقه الواجب الوجود، على قولهم.
الوسائط
ويتعثّر السيد والإمام الإيراني اليوم بالمسألة التي اعترضت تعليل أسلافه. ويوجب "حلاً" لها على طريقتهم. فهو يقترح، واقتراحه أمر لا راد له، وسائط بين الغرب وبين المشاغبين (وهؤلاء "تشكيلة من عدة مغرضين، وعدد من الغافلين والعاطفيين والسطحيين، وجمع من الأراذل والأوباش"، على قوله الفقهي الرفيع و"المتعالي"، على قول ملاصدرا الشيرازي، فيهم).
فيتخطى العازل الوجودي بين الغرب وبين الشرق، وإيران قلبه، من طريق صنف هجين من الناس هو بعض الإيرانيين المعارضين المقيمين في المهجر، المنفيين حقيقةً طوعاً أو كرهاً وخوفاً من بطش الأجهزة. وهؤلاء هم "عملاء (الأجهزة الغربية) من الخونة والمرتزقة الذين أداروا ظهرهم لوطنهم، وعملاء السياسات المعادية لإيران".
وعلى هذا، استوى الدليل الخامنئي البيّن على أحسن منطق. الغرب يتصور ويخطط ويريد وينفذ. ومن يبلغهم من الإيرانيين، أو تتطاول إليهم يده، ليسوا من إيران والإيرانيين في شيء. فهم خارج إيران وشعوبها، على وجوه الخارج والخارجية كلها: إقامةً، ورشداً، ومرتبة اجتماعية، واستقامة أخلاقية، ومِلكاً للنفس، وتماسكاً فيما بينهم، إلخ. ويختم حلية الفقهاء هجاءه الفرزدقي، على ما كانت كتب مادة الأدب العربي قالت، بصفة عسكرية تشل العدو الملتبس، وتحمله على "غض الطرف (أنه) من (حركة المرأة، الحياة، الحرية)"، على قول جرير في النميري الذي هجاه: ليس المشاغبون إلا "مشاة هذا الحراك في الداخل".
وازدراء "الإمام الخامنئي"، وهذا أحد ألقابه، المشاةَ- وهو أحد وكيلي سلفه الخميني، مع رفسنجاني، على رعاية الباسدران ومراقبتهم في الأهواز وأهوار العراق وجزر مجنون ومشارف البصرة في الحرب العراقية- الإيرانية (1980- 1988)- هذا الازدراء أمر غريب. ولعله مرآة غلبة الطبع، الشريف والسِّيِّدي (من السِّيِّد علي) على التطبّع. ولكنه، على الأرجح، حبة عنقود من عناقيد الغضب الذي أعمله الحراك المدني الديموقراطي، والنسائي والشبابي في المرتبة الأولى، في نفس المرشد الثاني. ومن مصادر الغضب الكثيرة على الحراك تعسّر تشخيصه على منطق آية الله العظمى ومرجع التقليد المفترض.
سدة اللادولة
فخطبته في صفة أهل الشغب على سلطانه وعلى أجهزته التي لا تُحصى، لا تفلح في وصل الغرب، ومجامعه الفكرية وآلاته التنفيذية، بداخل إيران المقيم على ولاء ناصع لـ"الجمهورية الإسلامية"، أو لـ"الديكتاتور" الذي يتربّع قلقاً ومزوراً في سدة "لا دولتها"، أي جملة الأجهزة والإدارات المزدوجة والشلل والعصبيات العاجزة عن الائتلاف الفعلي في دولة مشتركة. فكيف لغرب، على هذا القدر من العداوة والاختلاف والمفارقة، أن يَنْفذ إلى داخل إيراني على القدر الذي يعتقده "نائب إمام الزمان"، على ما لم يتهيّب روح الله خميني القول في مرتبته، من التقوى والإيمان وحب الشهادة في سبيل "الجمهورية"؟
يحسب المرشد الثاني أن الغرب تخطى حدود إيران الخمينية- الخامنئية الصفيقة، وتسلق جدرانها العالية والمنيعة، من طريق حيلة تليق بـ ألف ليلة وليلة، وبساط ريحها وفانوسها السحري وألاعيبها الهوليوودية الأخرى
وتوسيط الخطيب "أراذل وأوباشاً" و"مشاة"، إيرانيين ظاهراً وصدفة وغير إيرانيين جوهراً وحقيقة، بين خارج الغرب، الفاسد المعدن والطينة، بين داخل الشرق، الطاهر والنقي، أي توسيطه نوعاً من "الجواهر المركبة" والمختلطة، لا يفعل إلا نقل مشكلة المختلِط والمركب- مزيج الداخل والخارج، الماضي والحاضر، الفردي والاجتماعي، الغريزي والإرادي...- من مستوى عام إلى مستوى خاص.
ويحسب المرشد الثاني أن الغرب تخطى حدود إيران الخمينية- الخامنئية الصفيقة، وتسلق جدرانها العالية والمنيعة، من طريق حيلة تليق بـ ألف ليلة وليلة، وبساط ريحها وفانوسها السحري وألاعيبها الهوليوودية الأخرى. فيَقبض على الغرب، الجماعي طبعاً منذ أن جلا الحليف الروسي الأقرب طبيعته وسمّاه، متلبساً بـ"تعليم صريح لصناعة القنابل اليدوية" في وسائل إعلامه، و"إشاعة شعارات انفصالية وحركات مسلحة"، وبالتقاط بعض الرؤساء الغربيين صوراً فوتوغرافية تجمعهم بـ"مرتزقة يتظاهرون (يتظاهرن، والحق يقال!) بأنهم إيرانيون".
فهذه، الإشاعة وبث الصور والتعليم، لا تحتاج لعنصر صلب في مستطاع حدود إيران السيادية، وحرسها وجمركها اليقظَين، صدّها، وتقتصر على وسط أو عنصر أثيري وخفي. فخامنئي يحمل الانتقال، والقفز على الحدود والفواصل بين البلدان، على معناه المادي والحسي. وينزل به من المكانة الكلامية والخطابية: كيف يفهم "الإلهي" البسيط عن الدنيّ المركب؟ وكيف ينفذ الفاسد إلى المتألّه؟ إلى مسألة تتولى حلها دائرة وضيعة من دوائر وزارة البرق والبريد.
التغريدة والتاريخ
والسيد الخامنئي، وهو من قلائل الإيرانيين الذين ينفردون بحساب على "إنستاغرام"، من غير بروكسي، يظن أن الشبان الإيرانيين والإيرانيات تعلموا صناعة قنابل مولوتوف (اليدوية) من إذاعة إيران الحرة، أو تلفزيونها. ويبدو المفوض الحربي، والميداني طوال الأعوام الثمانية التي دامتها حرب الجارين اللدودين، جاهلاً بأن بعض الحركات الإسلامية المسلحة، وعلى رأسها "قاعدة" بن لادن والشيخ عبدالله عزام، أذاعت، في سي دي ودي في دي وأشرطة لا تُحصى، بالصوت والصورة، طرق استعمال أسلحة كثيرة، بعضها جرثومي وكيميائي، وطرق صناعتها.
ويعزو مرجع تقليد وفقه وتفكير وإحساس مئات الآلاف من المسلمين الحركات الانفصالية والمسلحة- وكان بعضها يسمى، إلى وقت غير بعيد، حركات تحرر وطني، مجيدة، وحركات غير نظامية وريفية فلاحية تطوق مدن العالم الصناعي الإمبريالي، وكبار دعاتها وأئمتها هم ماوتسي تونغ، سلف شي جينبينغ، وستالين "العظيم" المبشر بفلاديمير بوتين "الناصر"، وتشي غيفارا، وتشافيز ومادورو... إلى إعلام الوسائل الأجنبية "المهزومة"، على قوله.
والمعضلة نفسها تتكرر: أنّى لـ"شعب" يتحلى بـ"الإيمان والأمل"، وهزم "(جبهات) الغطرسة والصهاينة والمتنمرين"، المرة بعد المرة، وخرج، مرة واحدة، من "التبعية وانعدام الهوية"، أن يصاب بلوثات "الغرض والغفلة والعاطفة والسطحية" جراء "تعليم" إذاعي أو متلفز أو إنترنتي يرشده إلى المولوتوف، أو الانفصال، أو يوصيه بالتقاط صورة فوتوغرافية مع رئيس أو وزير؟ وهل يلقي المئات والآلاف وعشرات الآلاف بأنفسهم إلى القتل أو الجرح أو التعذيب والسجن، انقياداً لدعوات إذاعية...؟
والحق أن فقيه الفقهاء الإماميين يختزل الحركة المدنية والديموقراطية الأخيرة- وهي الحلقة الخامسة منذ الحركة الخضراء في 2009- بعض الشيء. فيقصرها على صناعة "مولوتوف"، شاع العلم بها في أوساط التلامذة الثانويين منذ خمسينات القرن العشرين. ويساوي بين "المولوتوف" وبين المطاليب الاستقلالية والانفصالية، المعروفة والشائعة منذ سومر وأكاد وحثّيي هطاي، على زعم أتاتورك في القول الكبير، والأمران على مرتبتين مختلفتين، وجمعهما في باب واحد تعسف محض.
وحمل مخالفة السلطة، ومعارضة نهج طاقم الحكم، على العداوة والحرب، أو "الحرابة" وهي نظير الخروج والفتنة وجزاؤهما القتل أو العفو، ينكر (الحمل) انقسام الكيان السياسي والاجتماعي إلى حكام ("أولي الأمر") ومحكومين ("رعية"). ويترتّب على الانقسام الأساسي والأولي هذا تباين في المواقع والمصالح والتوقّعات. والقول إن المعارضة والاحتجاج والخلاف، على أنواعها، لا تصدر إلا عن "مشاة العدو"، و"الأراذل والأوباش" و"(المتظاهرين) بأنهم إيرانيون"، وهي مقالة الخمينيين منذ استيلائهم على الدولة والمجتمع، وعلى ثورة الإيرانيين من قبل، هذه المقالة لا تقر للمحكومين بأضعف الحقوق على الحكام، كما لا تقر بجواز قيد على "السلطان"، مرشداً كان أم رئيساً أم ملكاً أم ولي عهد.
الجبهات
ففي مثل هذه "الجمهورية"، "المطلقة" على شاكلة قول محمد بن سلمان آل سعود في ملكيته، لا قيد على الأجهزة ولا حق للمجتمع. ولا فرق بين أجهزة السلطة وبين جماعات المحكومين. ولا معنى للظلم ولا للعدالة. ولا داخلاً، اجتماعياً أو سياسياً يتميز بمطاليبه وأولوياته ومادته، حكمه وحكم وقائعه وحوادثه وحاجاته وقواه غير حكم العلاقات الخارجية، بين الكيانات والدول والشعوب.
ورد السلطان الخميني-الخامنئي على خنق إرادة الحياة في النساء والشباب، وانهيار العملة والاقتصاد الإيرانيَّيْن، ودوام غلبة النفط على الإنتاج، وتعاظم البطالة، وتفاقم أزمة السكن والتفاوت بين الطبقات الاجتماعية، وتحويل المرافق العامة إلى ربوع زبائنيه، وتسلّط الرقابة على الإعلام والثقافة والوسائط الاجتماعية، وعزل إيران عن الدول والأمم- وعلى النتائج الاجتماعية والسياسية التي تؤدي إليها هذه الأحوال المشهودة ومنها الحراكات المتعاقبة منذ تزوير انتخاب محمود أحمدي نجاد إلى ولاية ثانية- هذا الرد هو على الدوام، إخراج الاحتجاجات والمحتجين من "إيران"، وإلحاقها (وإلحاقهم) بالجبهات الثلاث (الغطرسة....) والعدوة.
قضى السلطان بأن الفروق في المجتمع الوطني الواحد، بين "أهل القوة"، و"أهل الضعف"، ليست ذا بال، ولا يترتب عليها أثر في ميول الناس وآرائهم
فأبطل السلطان، بالقوة البوليسية والشبكات الريعية والتعبئة الدعائية "الصوفية" وتقطيع أوصال المجتمع، جواز نزاع اجتماعي أو نزاع أهلي داخلي. وقضى بأن الفروق في المجتمع الوطني الواحد، بين "أهل القوة"، من يَتربّعون في مراتب الثراء والنفوذ والخبرة و"العزوة" والعصبية، وبين "أهل الضعف"، من يفتقرون إلى هذه أو يقتصرون على القليل منها، ليست ذا بال، ولا يترتب عليها أثر في ميول الناس وآرائهم وأهوائهم، وفي اجتماعهم وتفرّقهم وخلافاتهم...
ويُقضى بالقضاء أو الرأي نفسه في الفروق بين الأقوام، الفرس والكرد والأذريين والبلوش واللار، وأقسامهم البلدية والمحلية، وتواريخهم ومذاهبهم. فلا "يحق" لبلوش الشمال الشرقي من إيران، ومعظمهم من السنّة والفقراء المقيمين على الجهة الغربية من بلاد قوم واحد، يقيم شطره الآخر في باكستان، الاحتجاج على هامشيتهم المذهبية والسياسية والمعاشية، والتنديد باختصارهم إلى مهرّبي مخدرات وسلع رخيصة. ولكن "يحق" لضباط "الباسيج" والشرطة الأمر بإطلاق النار على مصلّي الجُمْعة، وقتل تسعين مصلياً في أقل من نصف ساعة، على شاكلة استعمارية، فرنسية في ساقية سيدي يوسف، وبريطانية في مصر والسودان، وروسية في أذربيجان، وأميركية في أركنساو...
التلبيس
فالعلل الاجتماعية الناجمة عن فروق في بنية الجماعات، الأهلية والمرتبية والقومية والبلدية والمهنية، وعن نسيج روابطها وخلافاتها، يحكم السلطان الفقيه فيها بالبطلان. فـ"أسباب المعاش" و"طرقه" شيء، والسلطان شيء آخر. وتدخل الأولى في باب "الحيض والنفاس"، على قول روح الله خميني مزدرياً تشاغل الفقهاء بمسائل الفقه الحياتية، أو "(حقائق) المشكلات الاقتصادية والمعيشية"، على قول المرشد الثاني. وتنفرد الثانية بباب الولاية العظمى والشريفة. وهي باب الحرب على "الجبهات"، على ما تقدم القول.
ووراء النزاعات الداخلية، الأهلية والاجتماعية، المستحيلة على معنى الباطلة والتافهة، تُشخّص عين الفقيه الثاقبة حرباً خارجية على الولاية، وعدواناً مستكبراً على "المستضعفين"، من أصحاب الأنياب النووية، على قول الحزب الشيوعي السوفياتي في ردّه على استخفاف خصمه الصيني يومذاك بـ"النمر (الغربي) من ورق"، ودعوته إلى تطويق "الإمبريالية" بثورات العالم الثالث.
والحق أن هذا مذهب في السياسيات (أو علم سياسة المدن وتدبيرها في السلم والحرب وعلم دساتيرها، على افتراض يوناني قديم). وفي العلم الشرق أوسطي، قبل الخميني وبعده، أن المشكلات الداخلية، ظاهراً وسطحياً، في الدول المجاهدة ومجتمعاتها هي من صادرات الغرب المقحمة على الشرق. فلا تنشأ مشكلة، حراك أو إضرابات أو مطالبة مشتركة، في هذا الصنف من الدول إلا وأصحابها من "المتظاهرين بأنهم إيرانيون"، أو سوريون، أو عراقيون أو لبنانيون، إلخ.
وهذا ضرب من التلبيس (لباس جلد غير الجلد الحقيقي). وحين يقتل الباسيجي التلميذة الحاسرة، ذات الخمسة عشر ربيعاً، في أحد شوارع طهران أو مشهد، فهو يقتل، مطمئنا، من يتقنّع بالتلميذة البريئة، وبقسماتها الهادئة وعينيها الواسعتين، ويُدلّي على ظهرها حقيبة مدرسية، وهو "المدفعي" الذي "(يشغل) مدافعه ضد الانتخابات (الإيرانية)"، وحفّار "(الوادي) الخطير أمام الأمة"، ومستدرجها إلى "(تلقي) الضربات" جزاء نسيانها هذا الوادي، على قول الولي في خطبته الاسترجاعية نفسها.
وإرساء النظام السياسي الخميني، أو الأسدي أو الحوثي أو الحزب اللهي، وربما التبوني والسعيِّدي والدقلوي أو البرهاني... على نسيان الحرب الأهلية (على قول الفرنسية نينون غرانجيه، باريس، 2015)، ودمج النزاعات الداخلية، الأهلية والاجتماعية، في الحرب الخارجية، وعدوان "الغرب" على الاستقلال والهوية "الشرقيين"، يفتح الأبواب على مصاريعها أمام حروب داخلية لا قيد فيها ومنها على سحق أجهزة الحكم المزدوجة، أجهزة الجماعات الأهلية وأجهزة "الدولة"، المعارضين والمتحفظين والحياديين واللامبالين والخائفين والمستدخلين. ولا قيد كذلك على خلافة هذه الأجهزة نفسها، ودوامها في انتظار "حل سياسي"، حيث السياسة حرب استئصال، ممتنع على إيقاع "خطوة مقابل خطوة"، على ما ذكر بيان "الوزاري الخليجي" الطويل والأخير (في 12 حزيران/ يونيو).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.