شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل يبتلعني أطفالي وأختفي؟

هل يبتلعني أطفالي وأختفي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 3 يوليو 202312:18 م

إذا كنت تريدين أن تعرفي المعنى الحقيقي للهذيان كوني أمّاً، حينها فقط تستطيعين الحكم على نفسك وقواك، فالأمومة من أكثر التحديات التي تواجه المرأة، تُخرج من داخلها شياطين سوداء وملائكة بيضاء، يتصارعان معاً في حرب دائمة لا تنتهي.

الأمومة أكثر ما صفعني على وجهي في هذه الحياة، رغم ما تعرّضت له من صعوبات وفقد، فكانت ومازالت الاختبار الحقيقي الذي أقف أمامه عاجزة، داعية الله أن أجتازه ولو حتى بدرجات الرأفة. صعوبة هذا الإحساس بالنسبة لي أنه أدخلني في مرحلة التوهان الفعلي: لم أعد أعرف من أنا. أقف داخل المنزل مرات عديدة لأسأل نفسي من أكون، ثم أنظر إلى أبنائي وأسأل: من هؤلاء، ومتى أنجبتهم؟

الصدمة الأولى

ما زلت حتى الآن لا أصدق أنني تجاوزت مرحلة البكاء المتواصل لساعات متتالية التي عشتها مع ابنتي الكبرى لشهور طويلة، لم أعرف وقتها ماذا عليً أن أفعل. كنت أبكي باستمرار، وطوال الوقت أتصل بأمي وصديقاتي لينقذوني، ولكن مهما بلغت مساعدة الآخرين عرفت في النهاية أنها حربي الخاصة التي يجب أن أدخلها وحدي، وأنه لن يستطيع أحد سواي تحمل ما أعيشه.

أكثر ما أزعجني في هذه المسألة أنني لم أكن مستعدة لها بأي شكل .كنت أظن أن الموضوع بسيط: يبكي الطفل قليلاً ثم يسكت مع الرضاعة أو بالاحتضان والمداعبة، ولكن الأمر كان حقاً كارثي، ففي الكثير من الأحيان لم يكن هناك مبرّر للبكاء المتواصل، ولم يكن الاحتضان يحل أي مشكلة.

أجبر العملُ زوجي على الابتعاد أغلب عدد ساعات اليوم. كان يساعدني قدر الإمكان فور عودته إلى المنزل. أكثر مشكلة واجهتني هي عدم قدرتي على النوم وسط صراخ الطفلة. كنت أنام في اليوم حوالي ساعتين فقط وأمضي باقي اليوم وأنا أحملها وأدور بها في المنزل، وأقاوم إحساس النوم وأغسل وجهي بالماء كل فترة حتى لا أنام رغماً عني.

كنت أظن أن الموضوع بسيط: يبكي الطفل قليلاً ثم يسكت مع الرضاعة أو بالاحتضان والمداعبة، ولكن الأمر كان حقاً كارثي، ففي الكثير من الأحيان لم يكن هناك مبرّر للبكاء المتواصل، ولم يكن الاحتضان يحل أي مشكلة

في مرة ،كان زوجي ذاهباً إلى العمل في الصباح، رآني وأنا أحمل ابنتي وأجلس في الصالون. كان جسدي يئنّ من التعب وعيناي تنغلقان دون إرادة مني، وقتها وضع البطانية على السجادة في الأرض تحت قدمي حتى لو سقطت مني ابنتي تسقط عليها، وهذا ما حدث في الواقع، ففي لحظة غفلة مني سقطت ابنتي، وحماها الله ثم البطانية التي على الأرض.

لشهور طويلة تظلّ ابنتي على نفس الحالة، أرضعها من وقت إلى آخر حتى تسكت، تنام لساعات قليلة جداً، وحينها لا أعرف إن كان يجب عليّ أن أنام وأرتاح وأترك كل شيء آخر أم أجلس للقراءة مثلاً أو لكتابة مقال مؤجل منذ فترة طويلة.

الصدمة أخذت مني وقتاً ليس بالقليل، ففي كل المراحل الأولية، وتقريباً لمدة عام كامل، كان إحساس الغضب هو المسيطر عليّ، أشعر في أوقات أنني أعشق هذا الكائن الذي بين يدي، ولكن ينتابني أكثر إحساس أنني فقدت حياتي وخسرتها بشكل ما ولا أعرف متى أسترجعها.

فخّ متكرّر

تمر الشهور والسنوات، وفي كل مرة أجدني في تحدٍّ جديد مع ابنتي، تحدّي المشي، الكلام، كثرة الأسئلة والطلبات والإلحاح المستمر، تعلّم أشياء جديدة بصورة تتناسب مع سنوات عمرها، وفوق كل ذلك، كيف أجد الوقت لأصنع لنفسي مستقبل بشكل ما وسط كل هذا الزحام العقلي الملحّ الذي يسحبني داخله دون رحمة؟

مع وجود طفل صغير لم تظل الحياة بنفس السهولة التي كانت عليها بالنسبة لي، اضطررت للحصول على إجازة من شغلي والعمل في المنزل لفترة طويلة، وبوجودها كان العمل في المنزل صعباً أيضاً، فكانت تهوى اللعب بأزرار الكمبيوتر، ولم يكن الخروج كذلك شيئاً سلساً مع طفلة تبكي وتتحرّك باستمرار، فتغيرت خطط السفر ولو حتى لمكان قريب، وتأجلت الفسح والنزهات، فكان الجلوس في المنزل لفترات طويلة هو الحل الأمثل.

وأنا أكتب هذه الكلمات لا أعرف حقاً كيف اقتنعت بفكرة أن أنجب طفلي الثاني، تخبرني صديقتي المقربة أننا لا نفكر كثيراً في هذه الأمور، فهي أشياء قدرية أو ربما تأتي مع إحساس الأمومة الزائد، ولكن لا، لم أقتنع بذلك. ربما مع ضغط ابنتي الشديد بأنها تريد أخاً أو أختاً، فعلتها. لا أعرف صدقاً، ولكن ما حدث أنني أنجبت ابني ليصبح في حياتي حفرتان عميقتان، كل منهما تسحبني للأسفل بصورة أو بأخرى بدون رحمة أو شفقة.

بعد تعب الحمل والولادة درت في نفس الدائرة مجدداً، عشت ثانية إحساس بكاء الطفل بدون سبب وافتقاد الراحة والنوم لأسابيع طويلة دون حل، ولكن الأمر كان أكثر سوءاً مع وجود طفلة تشعر بالغيرة ولا تطيق شقيقها، وعادت للبكاء مرة ثانية.

أخشى أحياناً أن أذوب تماماً، أن يبتلعني أبنائي ولا أجدني في لحظة غفلة مني. أن أتبخر بمرور الوقت وأعيش بلا هوية حقيقية. أن أخسر قوتي بشكل تام

الابتلاع الكامل

هذا السرحان الجميل الذي كنت أعيشه في الماضي ولحظات التأمل الناعسة، أصبحت من الذكريات التي لا تعود. فجأة أجد نفسي بين طفلين، كل منهما يسحبني لجانب مختلف، الكبيرة تظن أنني ملكها بالكامل والصغير يبكي لأنتبه إليه. أُسحب طوال الوقت إلى كل اتجاه وأسير في كل مكان، وأظل أدور في دائرة المدارس والحضانات والتدريب و و و بلا نهاية.

عادة يبدأ يومي في السادسة. أستيقظ من نومي الذي قضيته بشكل متقطع بسبب ابني الصغير. أبدأ في تجهيز كل منها وتحضير متطلباتهما للذهاب إلى المدرسة والحضانة. أعود لتنظيف المنزل وربما للعمل قليلاً. يأتي بعد ذلك موعد خروج ابنتي من المدرسة وتحضير الطعام، ثم أذهب لأخذ شقيقها من الحضانة. كل ذلك لا يقارن بما يحدث بعد وصول كل منهما إلى المنزل، فتبدأ كلمة "ماما" التي لا تنتهي، إما منها أو منه، تطلب ابنتي المساعدة لكتابة واجبها ومتابعة دروسها، يعترض الصغير ويحاول تمزيق كتابها، يبدأ كل منهما في الصراخ، ثم أصرخ أنا معهما.

ينتهي اليوم بصعوبة شديدة. أحاول قدر الإمكان أن أحافظ على أجزائي، أرى نفسي مقسمة إلى نصفين. أطلب من ابنتي أن تتفهّم صغر سن شقيقها ولكنها لا تفهم، وتبدأ في أسئلتها التي لا تنتهي، تحكي عن كل تفاصيل يومها. أنظر إليها لأستمع كعادتي. يبدأ الصغير في جذبي ناحيته. تزداد شكوكها بأنني أصبحت أحبه أكثر منها. أبدأ في احتضانهما ومحاولة تهدئة كل منهما. أتنفس فقط مع موعد نومهما. أحضّر كوب الشاي وأجلس للقراءة أو الكتابة، ثم يتوقف قلبي فزعاً مع سماع صراخ الصغير الذي استيقظ فجأة.

أخشى أحياناً أن أذوب تماماً، أن يبتلعني أبنائي ولا أجدني في لحظة غفلة مني. أن أتبخر بمرور الوقت وأعيش بلا هوية حقيقية. أن أخسر قوتي بشكل تام. هذه الضغوط التي لا تنتهي، والتوقعات اللانهائية، هذا الفوران العقلي الذي يشعل كل جزء مني ليتأهب للحركة السريعة والقرارات الدائمة... كل ذلك جعل مني مع الوقت كائناً غريباً، أنظر إليه في المرآة وأسأله كل يوم: "هل أنت بخير؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image