يُعد وجه الأم أول مرآة لنا، أول عالم نخرج منه لنعاود الغرق فيه مجدداً، حيث لا حدود تفصل بيننا، ولا وجود لوعي بعد يجعلنا نميز أننا كائنين مستقلين ولسنا كينونة واحدة.
من الصعب في مراحلنا الطفولية الأولى، وربما اللاحقة وما بعدها، استبعاد المقدس عن أمهاتنا، هن المكان حيث نقيم، حيث ندفن حقيقة صراعاتنا، هن الكائنات المثالية عندما نغمض أعيننا عن آثام العالم، هن ذلك المكان في القلب حيث الأبواب موصدة بعدهن.
إلا أنهن في الوقت ذاته كبش الفداء المرخّص، الأهداف الواضحة لكوارث العالم، لكل ما هو خطأ، كبش الفداء لإخفاقاتنا أياً كانت. الأمهات عالم مزدحم، شديد الوضوح، حتى إننا بالكاد نلحظه.
من الصعب أن تدرك كطفل في البداية أن أمك ليست هي من اخترع الشوكولا، وأن هناك عالماً آخر يقبع خارج قدراتها، هي الملام دائماً لعدم حصولنا على ما نريده. ماذا لو أعطينا الأمهات حقهن في أن يكن كائنات بشرية عادية، بعيداً عن هالة الضوء البديهية التي تحيط بهن، أن نرى الأمومة كعبء فرضه نظام اجتماعي أبوي وليس تكريماً لهن.
ما الجدوى أن تسعى الأنثى لأن تكون أماً؟ إنه سعي نحو نقصان لن يكتمل، ولأن الأمومة فعل مستمر، بالتالي ستقع المرأة في سعي دائم لتقديم ما هو كافٍ لتكون مستحقة لهذه الهبة السماوية كما هو منظور لها، ستعلق الأنثى في حلقة دائرية لن تنتهي من الهلع والخوف في السعي ليكون الأبناء بخير أبدي.
يمثل نضجنا المخالف للتوقعات سقطة ذات وقع خاص في أفق توقع الأمهات، يحمل معه اضطراباً وهلعاً قد يتجسّد في شكل ذعر دائم لدى الأمهات، كون طريقنا بدت مختلفة عما في أذهانهن أو ما يصبون إليه
وفي نظامنا الأبوي حتماً ستُنزع عنها الأحقية في مجالات عدة إن لم تحقق سبب وجودها وهو أن تصبح أماً. إنه تأطير وإقصاء في كلا الحالتين، تقول الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار: "ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خُرافة الأسرة وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية".
فإن رأينا الأمومة كخرافة أو دافع وليست غريزة، فما هو إذن التفسير الصحيح لتلك العاطفة البدائية بين الأم وطفلها؟
لو نظرنا من زاوية أخرى لمعظم السلوكيات البشرية لوجدنا أن عدداً قليلاً منها يمكننا وصفها بالغرائز، وهناك العديد من علماء النفس فضلوا أن يطلقوا على بعضها مصطلح الدوافع، فهذه الدوافع هي التي تحدد سلوكياتنا ورغباتنا مسبقاً.
ومن هنا فدافع الأمومة هو دينامية طوّرها النظام الاجتماعي لتدخل فيه المرأة، الكائن المانح للحياة، وهي أعظم صفة تطلق على مخلوق، تبع هذا خلق هالة من القداسة والسمو، إلا أنها تتضمن في طياتها تناقضاً كبيراً، وهو حصر المرأة بمهمة الإنجاب بصفتها العملية الوحيدة التي لا يستطيع الرجل القيام بها، فقرار الأمومة هنا يكون خاضعاً لعوامل ومؤثرات المجتمع والثقافة المحيطة.
إلا أن هذا لا يشكك أبداً بالرابط العاطفي بين الأم ووليدها، فأي كائن أحق في أن أسكب عليه كل ذاك الحب والخوف أكثر من جسد تشكل داخلي وخرج من أحشائي؟ إنه الصورة الأجل والأصدق للحب والعطاء، إلا أن المقابل لذلك يبقى شيئاً لا يُذكر، سيبقى متضمناً جانباً خامداً من القسوة الفجة، ليست الأم بريئة منها، فهي بفعل النظام الاجتماعي ستبقى تحمل قدراً من المازوشية لممارستها على ذاتها، فيما يتعلق برحلة حياة أبنائها، صغاراً كانوا أم بالغين، أمام العطاء غير المحدود وغير المكتمل في نظرها.
يتضمن فعل الأمومة قدراً ضخماً من التنازل والتضحية بالدرجة الأولى، إضافة إلى الكثير من الأشعار والأغاني والأفلام والدموع الممزوجة بحالة تتراوح بين الميلودراما والدراما في حالاتها القصوى، وكذلك الثناءات العاطفية من المحيطين.
يتضمن فعل الأمومة قدراً ضخماً من التنازل والتضحية بالدرجة الأولى، تنازل عن الأنا مقابل النحن، وفيما بعد تلاشي الأنا الفردية لدى الأم، بل قد يصبح وجودها مرهوناً ويستمد قيمته في أنها لأي درجة قادرة على المعاناة، التضحية والبذل، دون التفكير بمقابل، هذه الصفة التي يعمقها المجتمع بصورة خاصة على اختلاف المحيط، تجعل المرأة من الصعب رؤية نفسها خارج هذه المهمة، بالتالي سيغدو التقديس وحده هو الحل التعويضي للكثير من العذابات، إضافة إلى الكثير من الأشعار والأغاني والأفلام والدموع الممزوجة بحالة تتراوح بين الميلودراما والدراما في حالاتها القصوى، وكذلك الثناءات العاطفية من المحيطين.
البلوغ كفعل سايكولوجي
عندما يتخذ بلوغنا شكلاً آخر، منسلخاً عن ادعاء البلوغ البيولوجي، قدرتنا التي نرفضها باعتمادنا على الذات والتخلي عن وظائف الأم، حين لن يعود ثديها عضواً من أعضائنا، ربما نشيخ، نموت وندفن، إلا أن شيئاً ما فينا يرفض أن يكبر، فبلوغنا النفسي يمر بعدة مراحل وتتسع دوائرنا تدريجياً فننفصل عن أمهاتنا ولو بشكل جزئي.
إنه انفصال يكمن في جوهره قدر كبير من الحب والقسوة، وكأشخاص يُفترض أننا بالغين سنأخذ وقتنا للحزن والجنون، نتعلم المشي والجري واستخدام كلتا يدينا، نصدر الأصوات ونشكل الكلمات، وببطء أكثر سنتعلم الاعتناء بأنفسنا، نميز الألوان ونفسر الأحاسيس، ويبدأ الواقع يغمرنا ونغوص فيه بشكل مستمر. نبدأ بفهم أن هناك الكثير من الكائنات الحية، بشر، نباتات وحيوانات تفوق الخيال، نتخذ شكلاً آخر، هوية وحتى سلوكاً، نقطع الشارع وحدنا ونسير في الطريق بمفردنا وربما لما تبقى من عمرنا. نبكي خفية ونتألم بشكل ضمني. نبحث عن الآخر، ذلك البحث عن نقصان يتخذ شكلاً زائفاً للكمال، فقط للاستمرار والبقاء. كل هذا يكون على هيئة صراع دائم كوننا بلغنا، لم تعد أمهاتنا جزءاً من كلنا، نضجنا لكن العاطفة لم تستوِ بعد.
حسب محلل النفس الفرنسي جاك لاكان، فإن حدود الحقيقة والوهم تكون مشوهة في مراحلنا المبكرة، إذ يقول فيما وصفها بمرحلة المرآة: "مع انقذاف الطفل يشعر بالاغتراب معوضاً ذلك برحم الأوهام البديلة"، فلكي يعوض إحساسه بالتشظي والتفكك يعتني بصورته في المرآة، حيث يتماهى مع كيانها المتخيل. فهي تشكل له قوس الوحدة الجسدية المتكاملة، ما يعطيه إحساساً بالكمال، ونتيجة شعوره الدائم بفقدان الكيان المتماسك، يجعل الصورة نموذجاً مثالياً ساعياً للتماهي معها، ما يحدد أبعاد الهوية والآخر وعلاقته بالغير، لأن انفصالاً عن الأم يجر معه اغتراباً عن الأصل.
وفيما بعد، يتحول الانفصال من مجرد علاقة أولية إلى هوة سحيقة بين الطفل وصورة ذاته، وخلال السعي للالتحام الرمزي بكيان المجتمع سيبقى الانفصال مصاحباً لعلاقاته المستقبلية، حيث سيسعى للانخراط في نظام أكثر شمولاً وتنوعاً، وهو نظام اللغة، إذ تتكون لديه أخيلة وهمية تجاه الأشياء والواقع الحقيقي، وتبقى اللغة موطناً لكل التداعيات الناتجة عن هذه العملية.
ولأن صورة الإنسان لا تكتمل إلا في وجود الآخر، سيكون السعي نحو الاكتمال هو سعي نحو النقصان الجذري القابع فيها، وبذلك يستحيل للطفل أن يعود إلى أناه الكامل في وجود الآخر المُخترق له دائماً.
فيتخذ الدافع لدينا شعور الغريزة، غريزة أن نبقى أطفالاً لنا أمهات حارسات لكياننا المادي وعاطفتنا، شباباً وشيباً، الحاجة إلى العودة إليهن، أن نغفو على تهويدتهن ونغلق أبواب القلب.
تلاشي المثاليات وانهيار العالم
بعد الانفصال عن الأم تتشكل الجدران، جدار في كل طريق، هوة في كل منحدر، ويبدو لنا الآخرين كبيوت بلا نوافذ، عندما نكتشف أن أمهاتنا ليست كائنات خيالية، إنها معضلة البلوغ الأولى عند الخروج إلى العالم، معرفة أن أمنا ليست super woman، ولا تتمتع بأي قدرة خارقة للطبيعة. العالم ليس بين يديها، أن نستوعب أنهن قد يكن كائنات ضعيفة، وربما يخطئن أكثر مما يصبن.
كيف سنستوعب وسط كل هذه المورثات الثقافية والأيدلوجية أن الأمهات مقولة ينبغي أن نؤرخ لها ونصيغ مفهوم ووجودها، حريتها وعاطفتها لفهمها بشكل جديد؟
يمثل نضجنا المخالف للتوقعات سقطة ذات وقع خاص في أفق توقع الأمهات، يحمل معه اضطراباً وهلعاً قد يتجسّد في شكل ذعر دائم لدى الأمهات، كون طريقنا بدت مختلفة عما في أذهانهن أو ما يصبون إليه، وبفعل مستحاثات الأمومة تتضاعف عقدة من الذنب في لا وعيهن بشكل مزمن، قد يترافق هذا بالتظاهر بالرضى مع سلوك من المراقبة والتوجيه أو اللوم الدائم لكلا الطرفين، فالنضج يتطلب قدراً من الوعي لدى الأمهات والأبناء معاً.
لم يعد القفص الذي يضم الاثنين واحداً، لقد تعددت الأقفاص وفُصلت بأبواب نصف مواربة، وهذا المواربة هي الحاجة العاطفية لدى الطرفين، فلم يعد العالم بعدها أحادياً أو ثنائياً، لقد أصبح متفرعاً، ولكل ماهية ما مرادفات متعددة ومختلفة.
كيف نتقبل أن أمهاتنا مارسن الجنس أو أنه كان لديهن ماض كأي شخص آخر؟ سيكون تقبل الطبيعي هنا أصعب بكثير من التخلي واستبعاد أو استيعاب الأسطوري الذي يقبع في ذهننا. إن تبادل الأدوار بيننا صيرورة طبيعية لتحرك الزمن من حولنا، سينهار العالم وتتلاشى المثاليات عندما تتخذ الحقائق صورتها العقلانية فيما ذكرناه آنفاً، يتبع هذا الأهوال التي نمر بها نتيجة دورة الحياة الطبيعية، كالفقد أو الفجيعة التي قد يفرضها واقع اجتماعي سياسي أو حتى نظام سلطوي دكتاتوري، تدفع الأمهات بالدرجة الأولى ضريبته نتيجة المسؤولية العاطفية التي يحملنها، وفي الجانب الآخر، يكون العالم لدى الأبناء قد دخل في مرحلة الانهيار، أو بالأحرى فإنه يتابع حركة انهياره الحتمية، في الوقت الذي كنا فيه نتساءل كيف أن الأمهات لم يوقفن هذا كله، كيف لم يغيرن حركة التاريخ؟
لن يغدو بعدها أي شيء مثالي، فكل شيء شهد انهياره التدريجي داخلنا وداخلهن، بل وقد نتساءل أن أمهاتنا كان من الممكن أن يكن أكثر سعادة لو لم ينجبننا، ونحن هنا نقترب من ذات النقطة التي تحدث عنها عالم الأنثروبولوجيا مالينوفسكي في كتابه "الجنس والكبت في مجتمع متوحش"، والذي قدم فيه نقداً لنظرية التحليل النفسي الفرويدية في تصورها كيفية تأثير مرحلة الطفولة على الشخصية، إذ انتقد كذلك مؤسسة العائلة من حيث أنها النموذج الوحيد لتحقيق سعادة النساء.
ورغم كل هذا الكم الواضح والجلي من الألم، الحب والقسوة، تبقى الأمهات يقبعن في تركة ذكورية تحدد دورهن وتضعهن في إطار لصورة مؤطرة ومحددة لمهامهن، فكيف سنستوعب وسط كل هذه المورثات الثقافية والأيدلوجية أن الأمهات مقولة ينبغي أن نؤرخ لها ونصيغ مفهوم ووجودها، حريتها وعاطفتها لفهمها بشكل جديد؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...