المفاهيم
طوال حياتي لم أكن أودّ أن أكون أمّاً. لم أكن أملك ذلك الحلم مثل الكثيرات من عمري ومن عائلتي. لم أكن أرغب في أن أتزوج ذلك الفارس وننجب أطفالاً ونحيا معاً، مثل قصص ديزني التي كبرنا على مشاهدتها وتوغلت داخل أذهاننا. لم أجد شغفاً يلاحقني في أن أُنبت طفلاً، يتكوّن داخلي لأشهر عدّة قبل أن يتجسّد أمامي، وأكون مسؤولة عن كل ما يتعلّق به. يلتصق بي طوال حياته وأتوحّد معه داخل كل تفاصيله الدقيقة.
طوال حياتي لم أكن أود أن أكون أمّاً، ووجدت ذلك عادياً. البعض يحلمون بالأطفال، آخرون يريدون السفر، البعض يعشق الحياة وسط أسرة دافئة، والبعض الآخر يفضلون البقاء وحيدين، سعيدين بذواتهم.
كنت أرى الأمر مجرّد تفضيلات. لا يوجد طريق صحيح وآخر خاطئ، فقط هي تفضيلات تختلف من ذات لأخرى. لكن كل من حولي كانوا يشعروني أن تلك الجملة البسيطة التي كنت أردّدها على مسامعهم طوال الوقت، بمنتهى السذاجة، ستلحق بي اللعنات، وأنني لن أكتشف ضرر ما أتفوّه به إلا بعد فوات الوقت.
حينما كنت ما زلت في المدرسة الإعدادية أردت أسرة من القطط. تمنيت أن أسكن في منزل بمفردي مع أحد عشر قطاً يملؤون المكان كله من حولي. تخبرني أمي أن القطط ليست أطفالاً ولن تكون، وأنه سيأتي اليوم الذي لن أجد أحداً فيه يناولني حتى كوباً من الماء، ولن تكون القطط سنداً لي وسأعرف لاحقاً قيمة حديثها.
أنظر إليها مبتسمة وأنا أتخيل قططي الوهمية تقفز حولي وتؤنسني وتُحضر لي كوب الماء، فأزداد اقتناعاً بالفكرة. أقطن مع تلك القطط المتخيّلة داخل عقلي معظم الوقت. تردّد أمي أنني لا يجب أن أصرّح بعدم رغبتي في الأطفال حتى لو كنت ما زلت صغيرة، وأن كلاماً كهذا سيؤدي أني يوماً ما سأتمنى "ضفر عيل" ولن أجده، وأنه يمكن أن "يوقف سوقي" لأن لا يوجد رجل سيوافق بألا يحظى بأطفال.
نحن نولد ونصنّف بأرحامنا التي يجب أن تحمل طفلاً، وإلا يعد هذا انحرافاً عن طبيعة الحياة. لا تهمّ الرغبة أو القدرة الحقيقية على العناية بذلك الطفل. فقط يجب أن نسير في نفس المسار المعروف لدينا من التخرج والزواج والإنجاب... مجاز
يقع الأمر موقع نذير الشؤم داخلي، فتدخلني رهبة لا تفارقني لأعوام تلت، حينما يتحدث أحدهم في أي وقت عن الأطفال، أشعر بأن بعض الرغبات لا نملك حتى حرية التصريح بها رغم أنها لن تؤذي أحداً، فمن سيهتم إذا كنت أقطن بمفردي أم لدي ولد أو اثنان أو حتى خمسة؟
*****
نشأت على أفلام ديزني القديمة التي تسعى فيها البطلة طوال الوقت للوصول إلى فارسها المنتظر الذي يساعدها وينقذ حياتها، وتعيش معه بسعادة لتنتهي القصة. ولكن كما تغيّرت بطلات ديزني بمرور الأعوام، لفتيات أكثر اختلافاً وتميزاً، تغيّر ما بداخلي تجاه الحياة.
كنت أرغب طوال الوقت ببساطة الأحلام، وأن نصرّح برغباتنا دون قيود مهما كانت، لكن الحديث عن الإنجاب والأطفال لم يكن متقبّلاً دوماً، وكلما حاولت شرح أن هناك فتيات لا إنجابيات، تطاردني النظرات الاستنكارية ومحاولات الإقناع بعكس الفكرة طوال الوقت. كأن هذا هو المسار الطبيعي ولا قدرة على اتخاذ طرق أخرى، حتى وسط صديقاتي اللاتي تتسع آفاقهن لجميع الأفكار، ظل الأمر مستهجناً.
نحن نولد ونصنّف بأرحامنا التي يجب أن تحمل طفلاً، وإلا يعد هذا انحرافاً عن طبيعة الحياة. لا تهم الرغبة أو القدرة الحقيقية على العناية بذلك الطفل. فقط يجب أن نسير في نفس المسار المعروف لدينا من التخرج والزواج والإنجاب، وقتها فقط نتوقف لتقييم حياتنا، ونبدأ في الحديث عن متاعب الأمومة ومسؤولياتها، لكن لا يسمح لنا بالتخوف منها مسبقاً.
تطل جينيفر أنيستون الممثلة الأمريكية الجميلة على الشاشة أمامي لتتحدّث عن استغرابها من كمّ التكهنات والهجوم عليها لأنها لا تود الإنجاب ولا تكترث به حقاً. تتحدث عن أن هناك دوماً ذلك الإحساس أن المرأة غير مكتملة، غير سعيدة وغير ناجحة لو لم تحقق رسالتها المحدّدة مسبقاً بإنجاب ذلك الطفل.
في بدايات كتاباتي، أتذكر أني كتبت قصة قصيرة عن طفل يخرج من رحم أمه فقط ليمزّق جسدها. يتحرّر هو من داخلها وتتلاشى هي. ظل ذلك الكابوس لفترة طويلة يطاردني ويثقل خطاي. أنا المرأة القلقة المضطربة طوال الوقت، عانيت معظم سنوات حياتي من حالات اكتئاب لا تنتهي، كيف تصبح لي القدرة على تشكيل حياة ووعي كائن آخر؟ أي حكمة أملكها داخلي كي أمنحها له؟ هل أخبره أنني نفسي لم أفهم الحياة فساهمت في مجيئك فيها كي تصبح تائهاً مثلي؟
تزداد الأسئلة داخلي طوال الوقت: كيف أضمن ألا أؤثر بالسلب على حياة شخص آخر. ثقل تلك المسؤولية في تشكيل وعي وأفكار وحياة وتجارب وشخصية كائن آخر يعتمد عليك في بداياته دون قوى منه. تتحوّل تلك الهواجس إلى جملة غاضبة، أردّدها حينما يسألني أحدهم هل حقاً لا أرغب في أن أكون أمّاً، فأردّ بحسم وغضب: "لأ، مش عايزة أخلّف!".
أنا المرأة القلقة المضطربة طوال الوقت، عانيت معظم سنوات حياتي من حالات اكتئاب لا تنتهي، كيف تصبح لي القدرة على تشكيل حياة ووعي كائن آخر؟ أي حكمة أملكها داخلي كي أمنحها له؟ هل أخبره أنني نفسي لم أفهم الحياة فساهمت في مجيئك فيها كي تصبح تائهاً مثلي؟... مجاز
*****
كلمات أمي وقتها تدقّ في رأسي: هل حقاً سيعاقبني القدر على حديثي هذا، حتى لو تراجعت عنه مستقبلاً؟ هل سأصبح مثل مئات القصص التي لا يتوقف الجميع عن قصّها على مسامعي، كعظة لسيدات رفضن الإنجاب قبلاً وعشن وحيدات؟ لماذا كنت وقتها أجد رهبة في مصارحة من حولي بأني لا أود أن أكون أمّاً؟ كل فتاة يجب أن تكون أمّاً، هكذا يقولون، وكأننا نتشابه حتى في الأمنيات والرغبات. ليس مهماً أن تحب من داخلك هذا الطفل، أن ترغب فيه حقاً، أن تنتظر تشكله بفارغ الصبر، بل هو شيء حتمي يجب أن يحدث مثل المدرسة والتخرّج والزواج.
يوماً ما جلست مع الرجل الذي أحبه لأخبره أنني لا أود أن أنجب طفلاً، وأن فكرة خروج جسد من جسدي هي أشبه بأفلام الخيال العلمي بالنسبة لي. بدا لي مضطرباً حزيناً، كأن رفضي لوجود طفل بيننا يعني رفضي لوجودنا معاً. كأن برغم كل شيء، مازال المسار الذي يحددني كأمّ يسبق أي مسار آخر.
لم أشأ الاصطدام والحديث عن الأمر كثيراً. يومها حينما ذهبت لمنزلي، حلمت لأول مرة بطفل صغير مموّج الشعر يعدو وسط حديقة كبيرة متسعة الأطراف ممسكاً بيدي. يقولون إن الحلم بالأولاد نذير شؤم. لم ينقض على الحلم أيام قليلة إلا وقد انفصلنا لأسباب أخرى، وصرت وحدي مجدّداً.
فكرت طوال الأعوام المتلاحقة في صمت داخلي: هل سيرث الطفل نوبات اكتئابي، قلقي وتوتري وأدويتي المتلاحقة؟ هل سيرث اضطرابي تجاه الحياة وتجاه نفسي؟ هل ستنتقل جيناتي إليه؟ جزء مني بإخفاقاته وانتصاراته يصبح في الخلفية الذهنية والحياتية لشخص آخر نبت من داخلي، هل سيتفهم اضطراباتي؟ هل سنتشاركها معاً، أم أنه سيكون كشخص مغاير تماماً، لا شيء مشترك بيننا؟ هل سيملك ملامحي فيظل جزء منها موجوداً، أم سيملك ملامح شخص آخر لكنه مع ذلك جزء مني؟
حينما أصبحت على مشارف الثلاثينيات، ازدادت أحلامي التي يتخللها ذلك الطفل الذي يشبهني كثيراً. كنا نتحدث أحياناً ونصمت أحياناً أخرى. أدركت بمرور الوقت أن الحلم بالأولاد لا يحمل نذير شؤم ولا أي نذير أو معنى في الحقيقة، هو فقط يحمل ما بداخلي ويتجسّد. كبطلات ديزني في الأفلام الأخيرة، أقرّر أن أنشد أغنيتي الخاصة بي وقتما أرغب حقاً.
أنظر لابني وأخبره أنني لم أكن أريد أن أكون أمّاً له أو لآخرين، كنت أحاول كتم رغبتي طوال الوقت، وحين رغبت في إنجابه استكملت كتمان رغبتي أيضاً ولم أتحدث في الأمر كثيراً. يخبرني بأنه أيضاً لم يكن يريد أن يكون له أمّ، لكنه حين أراد هذا حقاً من داخله، وجد نفسه وقد صار داخل رحمي.
أمسد على شعره المموّج الذي حلمت به قبل رؤيته لأعوام طويلة، قبل حتى مقابلتي لأبيه. لم تنته الهواجس من داخلي لكني أطمئن نفسي أنني لا أعدّ نفسي أمه حقاً، أنا مجرد شريكة له ورفيقة في حياته الممتدة لنتشارك في هواجسنا معاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...