مشهد (1): من اللي بيهتف؟
إنها الساعات، أو الأيام الأولى من ثورة يناير 2011، ربما يوم 26 أو 27، لم تكن كلمة "ثورة" قد صارت محل اتفاق بعد، ربما كانت الكلمة الأقرب آنذاك هي مظاهرات، احتجاجات، أو "إنذار" كما وصفتها صفحة أولى بصحيفة مرموقة، إنه "أكبر تحرك شعبي منذ انتفاضة 18 و19 يناير" كما وصفها المخضرمون الذين شهدوا في شبابهم احتجاجات السبعينيات.كنا في أحد الشوارع القريبة من ميدان التحرير، والقريبة بالتالي من دار ميريت، مقر حركة "أدباء وفنانون من أجل التغيير". الليلة غير عادية والمتظاهرون – المتفاجئون حتى بأنفسهم- لا يزالون "يمرحون" هنا وهناك ويستكشفون التاريخ بدهشة.
تمشي مجموعة من المثقفين والكتاب المشاركين في التظاهر. وبجوار الناشر محمد هاشم يرتفع فجأة صوت حمدي أبو جليل، يهتف بقوة وحماس ومرارة ضد مبارك ونظامه.
أنظر إلى حمدي مذهولاً غير مصدق للمشهد: حمدي، العدمي، الساخر، "منظّر العجز" و"داعية الاستسلام"، يهتف بهذه القوة والاحتراق في الشارع؟!
التفتّ إلى رفيقي وأقول له:
يبدو أنها "الثورة" إذن، بلا أدنى شك!
أنظر إلى حمدي مذهولاً غير مصدق للمشهد: حمدي، العدمي، الساخر، "منظّر العجز" و"داعية الاستسلام"، يهتف بهذه القوة والاحتراق في الشارع؟!... يبدو أنها "الثورة" إذن!
مشهد (2): رمزية طبعاً!
ارتكبت أكثر من صحيفة ووكالة أنباء الخطأ نفسه، فقالت في الخبر "وحصل حمدي أبو جليل على جائزة مالية قدرها عشرة آلاف دولار أمريكي".يقرأ حمدي الخبر ولا يتوقف عن الضحك. إنها جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية وقد فاز بها عن روايته "الفاعل". الجائزة قلادة محفوظ ومكافأة "رمزية" قدرها ألف دولار أمريكي فقط لا غير (لم يكن هذا المبلغ يساوي آنذاك أكثر من خمسة أو ستة آلاف جنيه مصري). لكن يبدو أن الصحافيين والمراسلين، في بعض الصحف العربية والأجنبية، ظنوا أن الـ "1000" دولار هي مجرد خطأ طباعي، فأضافوا إلى الخبر صفراً لا وجود له في الحقيقة ولا في شيك الجائزة!
صفر وهمي يُضحك حمدي مع شيء من المرارة، يقول ساخراً من نفسه: "بالطبع، حين أفوز بجائزة مهمة فلا بد أن تكون مكافأتها رمزية، هذا هو حظي".
(وصلت قيمة جائزة محفوظ الآن إلى خمسة آلاف دولار، وتخطى الدولار ثلاثين جنيهاً، ولكنها – على كل حال- لا تزال "رمزية" مقارنة بالجوائز العربية).
يقرأ حمدي الخبر الخاطئ بحصوله على جائزة مالية قدرها عشرة آلاف دولار أمريكي ولا يتوقف عن الضحك. جائزة نجيب محفوظ قدرها ألف دولار أمريكي فقط لا غير لكن يبدو أن الصحافيين والمراسلين، ظنوا أن الـ "1000" دولار هي مجرد خطأ طباعي، فأضافوا إلى الخبر صفراً لا وجود له في الحقيقة ولا في شيك الجائزة
مشهد (3): والله هوّ!
قارئة شابة متحمسة تصعد إلى مقر دار ميريت في فترة العصر، فترة الراحة والقيلولة في طقس القاهرة الحار. تشتري نسخة من "الفاعل". يبلغها صاحب الدار ومؤسسها محمد هاشم بأن المؤلف موجود، ويمكنه أن يوقع لها النسخة إن شاءت.تنظر الفتاة في اتجاه حمدي الذي استيقظ من غفوة عابرة لتوّه. أشعة العصر تتسلل من النافذة في صالة الدار شبه المظلمة، وتلقي ضوءاً شاحباً على ملامح حمدي الصارمة، البدوية، التي نحتها الزمن والشقاء، وهو يشعل سيجارة محلية ولا يبتسم.
"من هذا؟" ربما هكذا تساءلت الفتاة في نفسها ولم تفصح، إنه لا يشبه الأدباء المتأنقين المبتسمين الذين يظهرون في التلفاز. يلتقط هاشم كوميدية الموقف، فيشير نحو حمدي قائلاً بصوت عال يثير الشك أكثر مما يزرع الصدق: والله العظيم هو ده المؤلف!
يزداد تشكك الفتاة، فتترك نسخة الرواية وتغادر هاربة.
كانت "معركة" من نوع غريب، تحتوي على تناقضها الداخلي، معركة من أجل اليأس!
مشهد (4): معركة استسلام
حرب الـ 2006، إسرائيل تقصف بيروت وحزب الله يقصف مستوطنات "حيفا وما بعد حيفا".يلقي حمدي إحدى قنابله في الوسط الأدبي. يكتب دعوة صريحة إلى "الاستسلام"، إلى اليأس. إلى الكف عن النظر إلى الهزائم على أنها انتصارات، والالتفات إلى مشكلاتنا الحقيقية على جبهة حاضرنا المعيب الذي تتضاءل إلى جانبه شؤون السياسة.
يحتدم الجدل في الصحافة الثقافية، ويشتعل أكثر في ملتقيات المثقفين وسهراتهم، ويكتب الأديب والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش ردا "ينبه" فيه حمدي إلى أننا – بشكل عام وفي غالبيتنا الساحقة- مستسلمون بالفعل.
كانت "معركة" من نوع غريب، تحتوي على تناقضها الداخلي، معركة من أجل اليأس!
طوى الزمن – على عادته – الجدل، وقامت ثورات وانهارت، واختلطت هزائم أكثر بانتصارات حتى صار يصعب التمييز بينهما. ظهر فيسبوك ومواقع التواصل، وعبرها واصل حمدي خوض ما آمن أنه المعارك الحقيقية، معارك الوعي والذهنية والتاريخ الذي لا يزال يحتل الحاضر.
مشهد (5) الحكاية دي!
قبل "الجائزة الرمزية". كتبتُ مقالاً صغيراً ومحباً في الأخبار اللبنانية عن روايته "الفاعل". قرأ حمدي المقال وفاجأني كم كان سعيداً به، أو بالأحرى، فاجأني كم كان حريصاً على أن يبدي سعادته بوضوح. وفي مقر ميريت يقول لي: "إنت لا زم تشتغل الحكاية دي"، يقصد الكتابة عن الأدب. فأخبره أنني بالفعل "باشتغل الحكاية دي".لكنه ينسى، ويذكّرني بذلك مجدداً حين نلتقي مصادفة في كافيتيريا "الجريون". وحين أحكي للحضور عن واقعة ما، يستمع بانتباه، ويخبرني : "إنت بتحكي حلو، يعني عندك الحكاية دي".
"شكراً يا حمدي، شهادة غالية"
"لا بصحيح"
"أشكرك"
"لازم تكمل في الحكاية دي".
مشهد (6): "ع" و"ص"
نقاش محتدم خلال لقاء عفوي لمجموعة من الأدباء والنقاد. كان ذلك زمن بداية ازدهار "البيست سيلر" الأدبي في منتصف العقد الأول من الألفية. كنت متحمساً للظاهرة رغم عيوبها، وأرى أنها ستفيد صناعة النشر، وتوقِف ظاهرة "تحويل مكتبات وسط البلد إلى محلات لبيع الأحذية". ويبدو أنني ذهبت في حماسي بعيداً ربما لإثبات وجهة نظري. فقلت إنه حتى الأديب الكبير فلان (سأرمز له بالحرف ص)، سيستفيد من مبيعات الأديب التجاري علان (سأرمز له بالحرف ع).كلماتي أغضبت حمدي كثيراً، لكنه كان نوعاً من الغضب أقرب إلى الذهول، ظل يردد عبارتي نفسها ولكن بصيغة استنكارية: "ص هايستفيد من ع؟ ص هيستفيد من ع؟!"
ولم يزد عن ذلك.
تراجعت عن رأيي ذاك فيما بعد، خفّ حماسي للـ "سوق" ورأيت العيوب، ولكن لم تتح الفرصة لأن أخبر حمدي بذلك.
أنتبه للمرة الأولى، أن حمدي كان فقط في السادسة والخمسين من العمر، يبدو أن الشقاء يخفي العمر، ليسهل عليه اختطافه
مشهد 7 : الصوت يا حمدي
فبراير/ شباط الماضي، لقاء أونلاين مصري أوروبي أمريكي، والمناسبة احتفال بجائزة "سيف بانيبال" للأدب العربي المترجم إلى الإنجليزية. فازت ترجمة رواية حمدي "قيام وانهيار الصاد شين" بالجائزة مناصفة مع ترجمة "إفلات الأصابع" لكاتب هذه السطور بعد أن واصل العمل "في الحكاية دي".أقاوم تذكير حمدي بضحكاته، قبل 15 عاماً، على "المكافأة الرمزية"، فالمكافأة المالية هذه المرة تذهب إلى المترجمين وحدهم لا المؤلفين، بل إن مترجم رواية حمدي، الأميركي القدير همفري ديفيز، قد رحل عن عالمنا قبل أشهر قليلة من إعلان الجائزة، ليتسلمها شقيقه إثر تأبين من لجنة التحكيم وأمناء الجائزة.
برحيل همفري ديفز، وعدم تمكن روبن موجر مترجم "إفلات الأصابع" من السفر إلى لندن في توقيت الحفل، تقررت إقامة الفعالية افتراضياً "أونلاين". تواصلنا إلكترونياً، عدد كبير من المشاركين، كتاب ومترجمون وأمناء جائزة وأعضاء لجنة تحكيم، نقرأ بالعربية والإنجليزية أمام جمهور افتراضي. كان حمدي موجوداً في الموعد بعد أن تعثر التواصل معه لأيام. لكن مشكلاته الإلكترونية لم تتوقف. يقرأ نصه الرائع، لكن الصوت لا يلبث أن ينقطع بين وقت وآخر. فتنطلق نداءات متعددة اللغات عبر المحيطات والبحار: الصوت يا حمدي، الصوت!
تدخل إلى الكادر يد غريبة (لا بد أنها لأحد من عائلة حمدي) لتصلح شيئاً ما، فيعود الصوت.
يوم 11 يونيو/ حزيران الجاري، نستيقظ على الخبر المؤلم. وعلى بريدي الإلكتروني، أجد "المجموعة البريدية" التي تم عبرها التواصل للتنسيق مع المشاركين في حفل بانيبال، أرسل إليهم بقلب مثقل، الخبر الأليم. وأفاجأ، وأنا أكتب إليهم الخبر، أو أنتبه للمرة الأولى، أن حمدي كان فقط في السادسة والخمسين من العمر، يبدو أن الشقاء يخفي العمر، ليسهل عليه اختطافه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.