طالما شاهدته حيث أسكن وتمنيت مساعدته لحرصه على نظافة الشارع. وعلى الرغم من أنه يتقاضى عن عمله هذا أجراً، فإن حرصه على إتمامه بأفضل ما يستطيع جعلني أشكره كلما رأيته بيني وبين نفسي، إلى أن واتتني الشجاعة بعد ابتسامة متبادلة لدى الحديث معه وشكره على ما يبذله من مجهود يومي، وعرفت وقتها أن ابتسامته التي تشع حباً وسعادة دليل على أن لكل منا نصيباً من اسمه، فاسمه هو السعيد محمد أبو زيد.
مكنسته هي عصاه السحرية التي عليها يستند، وبها يكسب قوت يومه. هي أداته الوحيدة الخارجة عن جسده، لا يستطيع أن يتركها حتى بعد بلوغه المعاش. يقول إن يديه إن تركتا العصا ارتعشتا، فالعمل الدائم هو الهبة التي يحافظ عليها وبها يحيا.
تصوير ومونتاج دينا البلتاجي
تشهد كل بقعة في شوارع مدينة المنصورة، عاصمة محافطة الدقهلية في دلتا النيل، على خطواته، أما انحناء ظهره فجاء من تركيزه الشديد في إبقاء شارعنا نظيفاً لا أثر فيه لما يمكن أن يضر بصحة المارة أو السكان.
مكنسته هي عصاه السحرية التي عليها يستند، وبها يكسب قوت يومه. لا يستطيع أن يتركها حتى بعد بلوغه المعاش. يقول إن يديه إن تركتا العصا ارتعشتا، فالعمل الدائم هو الهبة التي يحافظ عليها وبها يحيا
أول حديث واقعي مع عم السعيد
سبقني شكري له عن تعريفي بنفسي، أخبرته أنني أريد الحديث معه بشكل خاص، وبمجرد أن بدأت التصوير معه في النهار، رأيت خجله من الكاميرا ومن ثم خوفه أن تتأثر ملابسي بالقمامة، فلامست حرصه على جمعها بعيداً عني كلما أستطاع بالرغم من ملاحقتي له، وكلماته التحذيرية التي يرددها على مسامعي كلما هبت نسمة هواء، ورغبته في انتظاره حتى ينتهي كي لا أشعر بالتعب من اللحاق به، لكني أصررت أن أصاحبه في عمله في هذا اليوم للمرة الأولى عن قرب، إلى أن انتهى من العمل وبدأنا في الحديث.
من هو عم السعيد؟
السعيد محمد أبو زيد، 67 سنة، قضى منها 37 خدمة كعامل نظافة، و7 سنوات عاملاً باليومية بعد بلوغه المعاش، أي ما يقارب من 44 عاماً من الخدمة العامة في النظافة والتحسين في مدينة المنصورة، دون كلل. يعمل ولا ينتظر سوى يوميته. مستمر في عمله بإصرار يقهر إصرار القمامة على التراكم. يأتي يومياً من منزله في قرية "ميت خميس" القريبة من مدينة المنصورة، مستقلاً سيارة أجرة تأخد منه أكثر من نصف يوميته التي تبلغ 50 جنيهاً في اليوم (أقل من دولار ونصف)، ليصل إلى الشارع الذي يعمل به والمقابل لجامعة المنصورة والمجاور لمستشفيات الجامعة حيث الازدحام الكثيف والإقبال الكبير.
استمر عم السعيد في العمل باليومية بعد بلوغه سن المعاش، يعمل ولا ينتظر سوى يوميته. مستمر في عمله بإصرار يقهر إصرار القمامة على التراكم
"القعدة تكتيفة، والحركة بركة"
يبدأ سعيد يومه في الساعة السابعة صباحاً، وأحياناً أخرى يتأخر قليلاً لكبر سنه. ولكن عزيمته وإصراره على العمل تمنحانه القوة وتصلان به إلى موقع عمله دائماً.
ينتهي من عمله عند الواحدة ظهراً. يقول إن أولاده الخمسة يحثونه دائماً على الاكتفاء بسنوات العمل السابقة، وإن الوقت حان ليستريح من العمل، لكنه رغم الضغوط الصحية والمادية يصر على الذهاب للعمل حتى في بعض الأوقات التي يشعر فيها بالتعب والإرهاق: "القعدة تكتيفة، والحركة بركة، الفكر يمسك النفر لو قعد، القعدة تتعب، إنما المشي والمرواح بيفك الجسم، الشغل جميل جدا، ببقى مبسوط لما بكون شغال، إن مشتغلتش بحس اني معملتش حاجة".
بعد بلوغ سعيد المعاش، لم يستطع الاكتفاء بسنوات العمل تحت ظل الحكومة، ولكن استمر في العمل باليومية بالشارع، يقول سعيد: "اليوم اللي بشتغله بقبض عليه، اليوم ب50 جنيه، نصهم بركب بيهم مواصلات، مش أنا اللي بمشّيها، الحمد لله إنها ماشية بعون الله".
أمام الجامعة
يختلف الشارع الذي ينظفه سعيد عن بقية شوارع المنصورة، ليس فقط لكونه قبالة لإحدى بوابات جامعة المنصورة (لها 7 بوابات رئيسية) التي تحوي 18 كلية و24 مركزاً طبياً وتستقبل ما يزيد على 10 آلاف زائر يومياً، فالشارع أيضاً يعتبر من أكثر الشوارع التجارية رواجاً في مدينة المنصورة، على جانبيه تصطف المحلات بطول الشارع وكذلك الشوارع المتفرعة منه، محلات للملابس النسائية والأطفال، وبعض المحلات الأخرى لمستلزمات التجميل والاكسسورات وعدد من البائعة الجائليين، ليكون الشارع وجهه مميزة للشراء من قبل زوار طلاب الجامعة ومستشفياتها وطلابها وأيضاً أبناء المدينة، كل هذا ينتج عنه كميات هائلة من المخلفات على مدار الساعة.
حصل سعيد على شهادة محو الأمية، ولم يحالفه الحظ في دخول المدرسة في طفولته، مبرراً ذلك بعداوات عائلية قديمة بين أبيه وناظر المدرسة في قريته. وعندما حاول والده التقديم مرة أخرى بعد خروج عدوه القديم للمعاش تم رفض السعيد لكبر سنه عن زملائه، لذلك حرص هو على تعليم أولاده بعدما حُرم من التعليم: "أنا اتقرصت، فباعلمهم. اللي مشى معايا وصلتهم كليات، ومنهم من اكتفي بالثانوية الأزهرية، وآخر بالإبتدائية".
"إن مشتغلتش بحس إني معملتش حاجة في اليوم، إنما لما بشتغل بخلَّص ضميري من ربنا، لا بستنى رقابة ولا واحد يمشي ورايا، دي حاجة بيني وبين ربنا، المهم حاجة تبقى من الحلال، اللي في إيدي أقرب من اللي في جيبي، ومدة الإيد عيب"
"مدّة الإيد عيب"
يقول: "إن مشتغلتش بحس اني معملتش حاجة في اليوم، إنما لما بشتغل بخلص ضميري من ربنا، لا بستنى رقابة ولا واحد يمشي ورايا، دي حاجة بيني وبين ربنا، المهم حاجة تبقى من الحلال، اللي في إيدي اقرب من اللي في جيبي، ومدة الإيد عيب، ودلوقتي معدش زي زمان بخلص الشارع وأروح، وفي البيت زوجتي وبناتي التنضيف مهتمهن".
لا يخفي عمل سعيد ضيقه من انتشار أشخاص يرتدون ثياب عمال النظافة حاملين للمكانس، يقفون في أكثر الشوارع ازدحاماً لطلب الأموال من الناس بدعوى المرض أو الحاجة. يظهرون بكثرة في شهر رمضان والأعياد والمناسبات، أقول له إنني كنت أحسبهم عمال نظافة يعملون في شوارع أخرى في المدينة، لكنهم ليسوا كذلك. ويعتبر السعيد أنهم يسيئون إلى عمال النظافة مثله بممارساتهم تلك.
قمامة كثيرة وعمالة قليلة
يعبر سعيد عن انزعاجه من قلة أعداد عمال النظافة الذين يعملون من خلال بلدية المدينة، فكثيراً ما يجد نفسه يواجه غول المخلفات في شارع الجامعة وحده، معتمداً على مكنسته ذات العصا الخشبية. يجمعها فيأتي بعض العاملين الآخرين ويحملونها إلى عربة القمامة ليلتفت ويجد أن المزيد منها قد تراكم بالفعل.
ويعلق سعيد: "برتاح لما تكون الزبالة خفيفة إنما تقيلة بتتعبني، زمان العمالة كانت كتيرة دلوقتي مفيش، المكان اللي بيكون فيه عمالة بينضف، ولما بتقل العمالة بيتسخ، المنطقة اللي بشتغل فيها مفروض يكون فيها 2 عمال على الأقل، لكن مفيش غيري، اللي بيطلع معاش مبيرجعش مكانه حد".
يذكر أن المدينة تمر بها 3 دوريات نظافة يومياً لرفع القمامة والحفاظ على الوجه الجمالي للمدينة، فتبدأ من الساعة 7 صباحاً حتى 1 ظهراً، ومن 2 عصراً حتى 8 مساءاً، ومن 9 مساءً حتى 4 صباحاً.
"اللي بيكنس دا حديد؟"
يدعو سعيد سكان المنطقة والعاملين بالشارع إلى المحافظة على نظافته، فهم المتأثرون في النهاية من القمامة: "بعاني من قلة النظافة. النفر زي ما بينضف جوّا يحافظ على برَا، هو اللي بيكنس دا حديد؟ مفروض يبقى في مساعدة ورأفة ببعضنا، أهو منه بيساعد معايا، لما بيرمي بيزحمني في الشغل، انا لو هتابع بالفلوس منيش شغال، 50 جنيه مش أجر، مفروض دي حاجة بينهم وبين ربنا، رجاء كل واحد يحافظ على زبالته في البيت ويناولها للعربية، ويحافظوا ميرموش حاجة، الشارع زي البيت، زي ما بيحافظ على البيت يحافظ على الشارع".
يرجع سعيد سبب انتشار القمامة إلى المحلات التجارية، فهو يقوم بنفسه بالتنبيه على المحلات بعدم إلقاء القمامة في الشارع كما أخبرنا، لكنه يأمل أن تجمع المحلات التجارية القمامة داخلها ثم يسلمونها لعربة القمامة، وعلى الرغم من التنبيهات يقول: "وانا راجع بعد ما اخلص كنس، الاقي المحل رامي الكنسة في الشارع، ويقولي احط فين، طب ما يحط في السلة عنده، بمجرد ما أدور وشي يرمي في الشارع، اللي عنده محل يجمعها في سلة ويناولها للعربية".
سعيد وأهل المنطقة
يعمل السعيد في النظافة منذ أوائل العشرين من عمره، ما جعله يحتفظ بعلاقة طويلة وقوية مع سكان الشارع وتجاره، إذ يشهد على أجيال مرت عليه بالشارع، فكلما مر أحد السكان أو العاملين على عم السعيد يلقى السلام والتحية عليه، ويقول: "علاقاتي بالناس هنا طيبة، الناس كلها تعرفني، دا اليوم اللي بغيبه يقولوا الشارع مش نضيف يبقى السعيد مجاش".
يأمل ويتمنى
ودع السعيد إحدى بناته قبل 3 سنوات بعد معاناة مع المرض، وزوّج بناته الأخريات، ويأمل أن يتوفر لأبنائه عملاً يستطيعون من خلاله توفير معيشه طيبة لهم، خاصة نجله الذي يعاني من إعاقة جسدية، إذ يتمنى أن يجد هذا الابن عملاً يليق بقدراته ويلبي احتياجاته ضمن النسبة التي تخصصها الدولة لذوي الإعاقة القادرين على العمل. ومثل ملايين غيره من المصريين البسطاء، لا يطلب السعيد لنفسه شيئاً إلا زيارة بيت الله لأداء العمرة أو الحج، ويعبر عن رضاه عن عمله آملاً أن تواتيه القوة ليواصله ما ساء الله له أن يواصل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...