مثل الجميع تأثرت في مراحل عمرية مختلفة بملحمة رأفت الهجان التي لعب بطولتها الفنان محمود عبد العزيز، والتي جعلته نجم كل بيت في مصر والعالم العربي. وفي كل مشاهدة تتغير النظرة.
في الأولى، طفلاً، مشاهدة المتوحِّد المتعاطف مع البطل، ثم استدعاء في مرحلة لاحقة بحكم نوستالجيا الطفولة، حيث نكتشف أن هذا البناء الملحمي يمكن أن يكون مادة طريفة للسخرية.
لكن أشياء أساسية لم أنسها استوقفتني منذ مشاهدتي الأولى طفلاً، فكرة قلقة، لا علاقة لها بكليشيهات الوطنية وتدخلات الضباط المؤسفة لحشد مشاعر ساذجة تفسد روعة القصة الإنسانية نفسها.
رجل يعمل كجاسوس يحول حياته إلى مغامرة مخيفة، يضعها دائماً على محك بالغ الخطر والغرابة عبر هوية مستعارة تمنحه فرصة لحياة بديلة، يكون فيها أكثر نجاحاً من حياته الأولى التي حكم عليه فيها بفشل كل مساراتها، فرصة نادرة لميلاد جديد، لكن كلفته باهظة: الموت.
أما الشيء الثاني الذي استوقفني أن سبب اختياره في الأساس لتلك المهمة، لم تكن صفاته الحميدة التقليدية، كما تعلمناها في العائلة والمدرسة والتليفزيون المصري، بل تحديداً لأنه كان محتالاً. وهو التشبيه الذي انتقاه لوصفه محسن ممتاز بعد أن شاهد فيلماً أمريكياً عن حاجة الحكومة إلى الاستيلاء على أوراق هامة في خزنة، فلم تلجأ إلى عميل أو ضابط، بل إلى لص خزائن. على هذا الأساس الاستثنائي المخالف، ككاذب ونصاب ومزور، اختير رأفت الهجان، فأضحت تلك هي صفاته الحميدة.
البطل لم يحصل على فرصته لولادة جديدة وحياة ناجحة، إلا بفضل من صفاته التي تخالف تماماً كل ما تربينا على كونه "صفات حميدة". وعلى هذا الأساس الاستثنائي المخالف؛ ككاذب ونصاب ومزور، حاز البطل على بطولته
لا يشبه محمود عبد العزيز - الذي حلت ذكراه قبل أيام - شخصية الهجان، في صفات المحتال، لكن مثل الهجان؛ ما يجذبنا إليه هو نقاط ضعفه. ما يجعله أقرب لصديق عمر أو شخص مؤثر في قلوب ملايين المحبين، أنه ليس كاملاً.
لا يخطط لحياته، تسبقه مشاعره، كأنه آخر السكندريين كما كنا نسمع عنهم في الأساطير التي تنمّطهم والتي سخرنا منها لاحقاً كما سخرنا من رأفت الهجان. طفل يغضب لكرامته بسهولة، مزاجي، جذاب على الدوام، لا يخطط لحياته، نجاحاته هي ابنة موهبة صافية استطاعت أن تخبئ مشكلة الفوضى في اختياراته، ربما بحسب بلال فضل في برنامجه "الموهوبون في الأرض" حدث ارتباكه العاصف الأول بعد أدائه العظيم في فيلم الكيت كات، فالجماهير التي سحرها أداؤه في هذا الفيلم الذي حقق إيرادات هائلة، واستمر في السينما لأسابيع طويلة، ظلت تطالبه بتكرار تلك الذروة مجدداً، فتوالت أعماله التي لم تحقق إيرادات كدنيا عبد الجبار وقانون إيكا، وزيارة السيد الرئيس وهرمونيكا، رغم أنها ليست أفلاماً سيئة على المستوى الفني، ثم حاول من جديد أن يلعب أدواراً شعبية كسابق عهده كما حدث في فيلم الجنتل والنمس، لكنها على عكس ما توقع لم تزد شعبيته السينمائية إلا انحداراً، وهي أفلام سيئة حتى على المستوى التجاري، فالعقد الذي وقعته الجماهير معه، لم يكن كالعقد مع عادل إمام، لم يكن شيكاً على بياض، بل كان مرهوناً بحساسية عبد العزيز الفنية.
اكتشف الجان أن صفاته الحميدة بتعريف العائلة والمدرسة والتليفزيون المصري هي أسوأ ما فيه، وأن الحلنجي، خفيف الظل، المحتال، هي الحياة التي عليه أن يعيشها منذ الآن على الشاشة، حتى إنه تخلى عن وسامته ليترك كرشه طليقاً، ويبرز صلعة رأسه، وهو في ذلك قد اختار الممثل القادر على لعب أدوار متعددة على حساب النجم
لم يستطع محمود عبد العزيز بعدها العودة إلى الاتزان في الاختيارات، وكان قد بلغه من قبل عندما خرج – بأعجوبة القدر وهول الموهبة- من دور الجان الرومانسي، عندما جمدت وسامته في أدوار ثقيلة الظل على النفس، لا تنبئ بما خلفها من عاصفة، الدور الذي كان يؤهله بالكاد ليلعب الأدوار الفائضة من حسين فهمي ومحمود ياسين.
كأنما الميلاد الثاني لمحمود عبد العزيز، حيث تفجرت ينابيع الموهبة، بداية من فيلم العار، كان كمعجزة، تشبه معجزة الهجان عندما أعيد بعثه من فوضى حياته، لكن بأدوار معكوسة، حيث يكتشف الجان أن صفاته الحميدة بتعريف العائلة والمدرسة والتليفزيون المصري هي أسوأ ما فيه، وأن الشرير، الحلنجي، خفيف الظل، المحتال، هي الحياة التي عليه أن يعيشها منذ الآن على الشاشة، حتى إنه تخلى -مثلما فعل نور الشريف- عن وسامته ليترك كرشه طليقاً، ويبرز صلعة رأسه، وهو في ذلك قد اختار الممثل القادر على لعب أدوار متعددة على حساب النجم.
لعبت الصدفة دوراً في الميلاد الثاني لمحمود عبد العزيز، فكثير من أدواره اللامعة هي أدوار رفضها أو تركها الآخرون، أو كتبت لغيره في البداية، كما حدث في فيلم العار، الذي كاد يلعب دور الطبيب النفسي يحيى الفخراني، وكذلك رأفت الهجان الذي اختير عادل إمام لبطولته أولاً
يعرض الناقد أحمد يوسف في كتابه "سياسة عادل إمام" فكرته عن النجم السينمائي، الذي يراه مختلفاً عن الممثل اللامع أو الموهوب الذي يسعى لتقديم شخصيات متعددة ومتباينة، بل هو من يبتكر شخصية واحدة ناجحة، ويحافظ عليها ويطورها طوال مسيرته، مثل عادل إمام، الذي لعب في الثمانينيات دور الفقير الفهلوي المنتمي إلى طبقة مظلومة، يلبس الجينز ويواجه الأغنياء، ثم طور هذا النموذج نفسه في التسعينيات ليصير أكثر ثقافة وأخلاقية. وهي الفكرة التي يستخدمها الكاتب أحمد عبد المنعم رمضان لتحليل ممثلين مثل سعاد حسني ومحمود عبد العزيز، اللذين نجحا في تشكيل شخصية النجم أيضاً، بالرغم من أن موهبة الأولى الفذة لم تحظ بالإقبال الجماهيري نفسه عندما خالفت شخصية النجمة.
أما محمود عبد العزيز الذي استطاع تكوين شخصية نجم الشباك الكاسح حتى بداية التسعينيات بعيداً عن قفص الجان، ومطعِّماً أداءه بأفيونة الكوميديا الشعبية، فقد كان فخه أيضاً هو تلك الموهبة التي تمردت على النجم في فيلم الكيت كات، ليدخل مرحلة التيه والارتباك، لا يمكنه من العودة إلى شخصية النجم، ولا يسعفه الموهوب القادر على لعب شخصيات مختلفة في لعبة الاستمرارية في شباك التذاكر، خاصة مع صعود جيل جديد شاب في بداية الألفية الجديدة، كان الجمهور في شوق إليه بعد أن ظل حبيس أربعة أو خمسة نجوم استثنائيين على مدار عقدين.
لعبت الصدفة دوراً في الميلاد الثاني لمحمود عبد العزيز، فكثير من أدواره اللامعة هي أدوار رفضها أو تركها الآخرون، أو كتبت لغيره في البداية، كما حدث في فيلم العار، الذي كاد يلعب دور الطبيب النفسي يحيى الفخراني، وكذلك رأفت الهجان الذي اختير عادل إمام لبطولته أولاً، وهو نفس ما حدث في فيلم الكيت كات، حتى إنه كاد يضحي بدوره الأيقوني في فيلم الكيف، وأصر في البداية على لعب دور يحي الفخراني من أجل إيفيه يتيم "أنا جي أهرج". كذلك لعب رفضه لأدوار في مرحلة ارتباكه دوراً في انحسار وهجه كنجم شباك، مثل تردده الطويل في قبول أعمال ربما كانت تعيد اختراعه كنجم، مثل رفضه للعب بطولة مسلسل عائلة الحاج متولي عام 2001، أو رفضه لبطولة فيلم "معالي الوزير" الذي لعب بطولته أحمد زكي عام 2002، لسبب خوفه من مشهد النعش الذي يذكره بالموت، وكذلك منعته الحساسية القديمة بينه وبين عادل إمام من أن يقاسمه بطولة فيلم حسن ومرقص، الذي كان كفيلاً أيضا بإنعاشه سينمائيا، فمشاهدة النجمين معاً في فيلم واحد، بعد سنوات من الخصومة غير المعلنة، كانت دون ريب ستثير فضول الجمهور عام 2008، لكنه طلب إبعاد يوسف معاطي لكونه الكاتب المفضل لعادل إمام.
لا أعلم ما حدث تحديداً في الميلاد الثالث الأكثر إعجازاً من كل ما سبق، عندما لعب الدور الأيقوني عبد الملك زرزور في فيلم إبراهيم الأبيض عام 2009، وكسر فيه سُم ذروته السابقة التي أربكته في دور الشيخ حسني في فيلم الكيت كات، الذي كان من المفترض أن يكون فتحاً جديداً لحياة محمود عبد العزيز الفنية، في أدوار أكثر تركيباً تشبع موهبته وتعيد نجوميته، وربما عرضت عليه عشرات الأدوار بعدها، وربما لم يحدث، لكن الأكيد أنه فضل الابتعاد عن السينما بسبب نقطة ضعفه القلقة، الغاضبة كطفل، لأن مروان حامد حذف مشاهد من دوره لصالح إيقاع الفيلم.
كان رفضه للسينما خسارة له ولنا، ربما كان عليه الاستفادة من درس فريد شوقي، الذي أعاد اختراع نفسه بعد أن ولّى زمنه كوحش للشاشة ونجم الشباك، فظل نجماً بطرق أخرى لآخر يوم في حياته، لكن لأنه ربما كان كتلة من قلق، خاصم تلك الفرصة الأخيرة كطفل غاضب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 18 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين