لما كان علم التاريخ يختص بـ"البحث في أحوال العمران والتمدن، وما يعرض فيه للاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، ليمدنا بالعلل والأسباب، ويستشف القوانين التي تحكم قيام الدول وعلل سقوطها"، كما يخبرنا ابن خلدون، فإن الدراسات التاريخية، وبخاصة التي ترتكز على المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، يجب أن تكشف لنا عن جوانب مختلفة من تاريخنا، لعل ذلك يكشف مخرجاً مغايراً لما نعانيه في حياتنا الآن، ويرسم طريقاً آمناً لمجتمعاتنا المعاصرة.
على أي حال، فإن التاريخ لا يعيد نفسه وإن بدا لنا كذلك، فإن إعادة اختيار المسارات التي اتبعتها النخب في عصر ما، لا يمكن إلا أن تؤول في النهاية إلى النتائج ذاتها؛ إذا ما تبنت نخب معاصرة نفس السياسات، خاصة إذا كانت هذه السياسات تتعلق بالنقود وقاعدة تداولها، باعتبار أن النقود تلعب الدور نفسه منذ لجأ لها البشر كوسيلة للحساب ووسيط لتبادل القيمة وأداة لاختزان القوة الشرائية.
ولما كانت العملات المعدنية من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية هى السمة الغالبة على النقد المعمول به في القرون الوسطى، فقد تحكم سلاطين المماليك وكبار أمرائهم في أسعار صرف الدنانير والدراهم بالاعتماد على دار الضرب ودار العيار، ومن خلال الصيارفة المختصين بدور الوسيط بين دور الضرب السلطانية والتجار، بحيث يشرفون على توزيع العملات الجديدة وسحب العملات العتيقة.
تسببت سياسة الاحتكار التجاري في تقلص الطبقة التجارية وأضرت بأصحاب الحرف، في ظل منافسة النخبة العسكرية المُحتكرة للتجارة، بعدما تحول السلطان المملوكي وأمرائه إلى تجار، فخربت بعض الأسواق وتلاشت كلياً
"إن الله خلق المعدنين من الذهب والفضة قيمة لكل مُتمول، وهما الذخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما فإنما هو لقصد تحصيلهما"، كتب ابن خلدون في "المقدمة".
النقود المصرية بين قرنين
عرف النظام النقدي في مصر تحت حكم المماليك العديد من التغيرات الجوهرية، وعبر أزمنة ممتدة لما يزيد على قرنين شهدا تغيراً حاداً من الانضباط النسبي خلال القرن الرابع عشر تحت حكم المماليك البحرية وصولاً إلى الانهيار خلال القرن الخامس عشر تحت حكم المماليك البرجية (الجراكسة)، إذ ظل الذهب هو القاعدة الأساسية للصرف، تُقدَّر على أساسه قيمة النقود الأخرى وأسعار السلع. وبقيت الدنانير المملوكية تتمتع بأوزان مرتفعة نتيجة ما تمتعت به دور الضرب المملوكية من مخزون كبير من المعادن الثمينة مكنها من سك كميات كافية من الدنانير بأوزان منضبطة نسبياً.
انحرفت دولة المماليك البُرجية نحو الانهيار النقدي، وتضاءلت كميات الذهب الواردة إلى دور الضرب (سك العملة)، فحل النحاس كقاعدة للصرف وتحديد الأسعار بدلاً من الذهب، وأصاب الدنانير المملوكية الغش، ما تسبب في أغلب الأوقات في تداولها وزناً لا عدداً
فقد كان النظام المملوكي نظاماً زراعياً في المقام الأول، يعتمد في سد احتياجاته على ما تنتجه الأراضي من محاصيل. وكان ما حققته مصر من فائض زراعي وراء وفرة الذهب والفضة التي عرفتها دور الضرب (سك العملة) خلال القرن الرابع عشر الميلادي، نتيجة حضور تجار غرب إفريقية (تكرور /مالي) سنوياً محملين بالذهب الخام لشراء تلك المحاصيل الزراعية، إلى جانب ما فرضته الإدارة المملوكية من ضرائب جمركية على السلع الشرقية والأوروبية المارة في البلاد، والتي تجاوزت في بعض الأحيان 10% من قيمة تلك السلع، بالإضافة إلى الغنائم الثمينة التي جمعتها الجيوش المملوكية في نشاطها العسكري في بلاد الشام. لكن ما لبث أن تضاءل هذا النشاط، وأصاب الفساد النظام الزراعي، "ولم يعد يكفي لسد حاجتهم المادية ومطالب ملكهم" وفقاً لتعبير سعيد عاشور في كتابه "العصر المماليكي في مصر والشام".
وجاء الإفرنتي الأوروبي
وإن كان العصر المملوكي الأول "البحري" قد غلب عليه الاستقرار النقدي، فإن العصر الثاني "الجركسي"، قد انحرف نحو الانهيار النقدي، بعد أن ضرب الفساد مفاصل الدولة، وتضاءلت كميات الذهب الواردة إلى دور الضرب المملوكية، والتي اضطرت إلى الاعتماد كلياً على المعادن الثمينة القادمة من أوروبا، وما لبث أن حل النحاس كقاعدة للصرف وتحديد الأسعار بدلاً من الذهب، فأصاب الدنانير المملوكية الغش ودخلها الزغل(خلط المعادن الثمينة بالمعادن الرديئة)، ما تسبب في أغلب الأوقات في تداولها وزناً لا عدداً. وفي النهاية سقطت الدنانير المملوكية فريسة سهلة أمام الإفرنتي الأوروبي الذي غزا الأسواق المصرية نتيجة انضباط وزنه ونقاء معدنه.
"الذهب الذي يقال له الإفرنتي والبندقي والدوكات، يجلب من بلاد الفرنج، ولم يكن يعرف هذا الصنف قديما مما يتعامل به الناس، وإنما حدث في حدود سنة تسعين وسبعمائة، فكثر وصار نقداً رائجاً"، وفق كتاب المقريزي "السلوك لمعرفة دول الملوك".
انهيار الدينار المملوكي
بدأ القرن الأخير لدولة سلاطين المماليك باضطراب سياسي واقتصادي شديدين، خاصة في ظل حكم الناصر فرج بن برقوق "1399-1412"، وأصبحت بلاد الشام عرضة لهجمات عسكرية عنيفة من قبل المغول التيمورية. ويشير العيني صاحب "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان" إلى ندرة الذهب وارتفاع أسعاره لاستيلاء تيمور- لنك على كميات كبيرة منه، بعد أن اجتاحت جيوشه بلاد الشام عام 1401. وهو أول ما بدا من فساد في النقود وفقاً للعسقلاني.
وارتفع سعر الدرهم المملوكي من 30 درهماً من الفضة إلى 36، والإفرنتي من 24 درهماً إلى 30.
"لم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والغلاء والوباء، وطرق بلاد الشام فيها الأمير تيمورلنك، فخربها كلها وحرقها، وعمها بالقتل والنهب، وتمزق أهلها في جميع أقطار الأرض"،وحسب كتاب المقريزي "الخطط".
أخذ الذهب في الارتفاع لكثرة من يطلبه، مما دفع السلطان فرج عام 1408 إلى إصدار أوامر سلطانية تمنع على الناس استخدام الذهب في صناعة الحلي والتطريز، وكذلك منع المسافرين من حمله، فامتنع الناس عن إظهار ما لديهم من نقود ذهبية، وارتفعت أسعار جميع السلع، وتوقفت أحوال الناس
إجراءات نقدية مملوكية
وأمام ارتفاع أسعار الذهب ضرب "يلبغا السالمي" كبير الأمراء دنانير ذهبية عرفت بالسالمي، الواحد منها يزن مثقالاً (24 قيراطاً)، غير أن هذا الدينار ما لبث أن تضاربت أوزانه وفسد معياره، ولم يستطع رغم تداوله على مدار ثماني سنوات أن يحل محل الإفرنتي، كما يخبرنا القلقشندي في "صُبح الأعشى": "وكان منها ما زنته مثقال ونصف، وربما كان نص مثقال أو ربع مثقال، وكأنهم جعلوا نقصها في نظير تكلفة ضربها".
واستمر سعر الذهب في الارتفاع، حتى بات الدينار السالمي عام 1403 يباع بـ45 درهماً، في حين قدر الإفرنتي بـ47 درهماً بداية السنة، ثم ارتفع إلى 50 في نهايتها، نتيجة الطلب عليه.
ويذكر العسقلاني: "أخذ الذهب في الارتفاع لكثرة من يطلبه، ولأن الفضة كانت في غاية الغلو"، مما دفع السلطان فرج عام 1408 إلى إصدار أوامر سلطانية تمنع على الناس استخدام الذهب في صناعة الحلي والتطريز، وكذلك منع المسافرين من حمله، على أن يصرف الدينار المملوكي بـ100 درهم مقابل 80 عن كل إفرنتي، فامتنع الناس عن إظهار ما لديهم من نقود ذهبية، لما تكبدوه من خسائر، وارتفعت أسعار جميع السلع، وساد الكساد وغاب الصيارفة، وتوقفت أحوال الناس كما يسجل ابن إياس صاحب "بدائع الزهور".
وبدأ الناصر فرج يتوجه لإبطال التعامل بالدنانير السالمية، وضرب ديناراً ذهبياً جديداً عرف بالناصري، على نفس وزن الإفرنتي، رغبة منه في أن يتعامل به الناس على قدر المساواة مع الإفرنتي، "إلا أنهم ينقصونها في الأثمان عن الدنانير الإفرانتية عشرة دراهم"، كما يذكر القلقشندي. وانتشر الدينار الناصري، وصار به أكثر المعاملات، "غير أن الذهب الإفرنتي أحيف منه"، وفقا لتعبير الصيرفي صاحب "نزهة النفوس".
كذلك فشل الدينار الناصري في مزاحمة الإفرنتي، وانتهى به الحال إلى أن يصرف وزناً لا عدداً بعد أن طاله الغش وتغير وزنه باستمرار، وانخفضت قيمته الشرائية عن الإفرنتي.
وما لبثت أن غمرت الأسواق دنانير زائفة متعددة المصادر والأوزان يقال لها "خارج الدار" وفقاً لتعبير المقريزي، أي سكت خارج دار ضرب الدولة، واستمر سعر الذهب في الارتفاع حتى وصل الإفرنتي إلى 140 درهماً، والناصري يصرف بـ 120 أوائل عام 1412.
"كان دار الضرب (المعادل للبنك المركزي حالياً) يجتهد في خلاص الذهب وتحرير عياره، إلى أن أفسد الناصر فرج ذلك بعمل الدنانير الناصرية"، بحسب خطط المقريزي.
عملة مصرية بلا قيمة
أمام التغير المستمر لقيمة صرف الدينار المملوكي، أصبح الإفرنتي هو العملة الرئيسية المتداولة في جميع التعاملات التجارية، وعرف "الإفرنتي الإيطالي" رواجاً كبيراً في الأسواق المصرية منذ زمن السلطان برقوق عام 1382. وبات يصل منه سنوياً إلى الشرق ما يقرب من 460 ألفاً من الدوكات حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وفقاً، لكتاب "آ. آشتور" "التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى"، بعد أن قبلته الإدارة المملوكية، لما تميز به من نقاء معدنه وتمام استدارة قطره وثبات أوزانه على مقدار 45,3 غرام، مقابل الدنانير المملوكية التي لا تثبت على حال، بل تعلو تارة وتهبط أخرى بشكل أرغم من يتعامل بها على وزنها لاستكمال وفاء الدفع، وفقا للقلقشندي.
شهدت أسعار الدنانير المملوكية اضطرابات حادة وضعفت الثقة بها، رغم ما بذله موظفو السلطان من شدة في التفتيش على الصيارفة، ورغم ما فُرض من عقوبات على من يتورط في عمل الزغل (غش العملات)، كما نعرف من المقريزي
"وهذا الأفرنتي قد غلب في حدود سنة ثمانمائة على أكثر مدائن الدنيا، من القاهرة وجميع أرض الشام، وعامة بلاد الحجاز واليمن، حتى صار النقد الرابح"، وفقاً لكتاب المقريزي "السلوك لمعرفة دول الملوك".
وإن كان الرواج الكبير للإفرنتي لم يمنع السلطان المؤيد "1412-1421" من ضرب دنانير جديدة على وزن الناصري، يراوح وزن الدينار منها بين 20,4 غرام و 43,3 غرام، وفقاً لرأفت النبراوي في كتاب "النقود الإسلامية في مصر عصر دولة المماليك الجراكسة"، لكن الدنانير الناصرية فشلت في مواجهة الإفرنتي، وتقرر التعامل بها وزناً لا عدداً في مايو/ أيار 1415.
"واجه الناس بسبب ذلك داهية ذهبت بالمال، وأوجبت قلة الأقوات، وتعذر وصول المطلوب لاختلاف النقود، وخشى من تمادي ذلك أن يحول حال أهل الإقليم"
ثم اضطر السلطان في يونيو/ حزيران من السنة نفسها، إلى منع المعاملة بالدنانير الناصرية نهائياً، وأمر أن تقص جميعها وتباع لدار الضرب بـ180 درهماً. و"أصبح من معه الناصري يدور البلد به وما يجد من يصرفه"، وفقاً لما يذكر الصيرفي في كتاب "نزهة النفوس".
كذلك شهدت أسعار الدنانير المملوكية اضطرابات حادة وضعفت الثقة بالتعامل بها زمن المؤيد، مع ارتفاع أسعارها رغم ما بذله موظفو السلطان من شدة في التفتيش على الصيارفة، ورغم ما فُرض من عقوبات على من يتورط في عمل الزغل (غش العملات)، كما نعرف من المقريزي، مقابل الإفرنتي الذي استمتع بثبات نسبي إذا راوحت معدلات صرفه بين 230 درهماً نحاسياً سنة 1416 و 210 دراهم في 1420 ثم 220 درهماً سنة 1421.
"واجه الناس بسبب ذلك داهية ذهبت بالمال، وأوجبت قلة الأقوات، وتعذر وصول المطلوب لاختلاف النقود، وخشى من تمادي ذلك أن يحول حال أهل الإقليم" وفقاً لكتاب المقريزي "إغاثة الأمة بكشف الغُمة".
ومع وصول الأشرف برسباي إلى السلطة عام 1422، "جمع الأمراء والقضاة والكثير من التجار، وتحدث في إبطال المعاملة بالذهب الذي يقال له الإفرنتي، وشرع في سبك ما عنده من الدنانير، ونودي أن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية، وزن الدينار منه وزن الدينار الإفرنتي"، وفقا للمقريزي. ويلفت ابن إياس إلى تشدد السلطان على التجار والصيارفة في جمع الدنانير الإفرنتية وإحضارها مقصوصة على دار الضرب، "وصار كل من عنده الأفرنتية يحتاج أن يبدله من الصيارفة دنانير أشرفية، فيخسر في كل دينار إفرنتي سبعة دراهم ونصف، فتلفت أموال الناس، وربحت الصيارفة أرباحاً كثيرة"، وقل تداول الدنانير الأشرفية وما زال سعر صرفها في ارتفاع حتى امتنع التجار عن أخذ الذهب.
وعلى الرغم من التساوي في الوزن بين الدنانير الأشرفية والدنانير الإفرنتية، فإن نسبة إبدال الأشرفي الذي زاد وزنه عن 21,4 غرام أصبح أعلى من نسبة إبدال الإفرنتي الأوروبي، أي أن نسبة الذهب في الأشرفي تصل إلى 97% من نسبة الذهب بالإفرنتي.
وفي ظل اختلاف الوزن وارتفاع معدلات الإبدال المستمرة بين كل منهما، كان الدينار الأشرفي يقدر بأكثر من قيمته، وهو بذلك نقد رديء في مواجهة الإفرنتي كنقد جيد يقدر بأقل من قيمته. وهو ما أتاح فرصة التداول النقدي للدنانير الأشرفية على حساب الإفرنتي، وفقاً لـ "قانون جريشام" الذي يقوم على أن النقود الرخيصة تطرد النقود الجيدة، وبالرجوع إلى كتاب "الموجَز في اقتصاديات النقود" للسير ج. ف. جوفري.
إغاثة الأمة بكشف الغمة
مع السنوات الأخيرة من حكم سلاطين المماليك البحرية بدأت تحولات حادة في السياسة النقدية، أبرزها استعمال النحاس بكثرة محل الفضة، وبعدها تسرب كميات كبيرة من الذهب من أسواق مصر والشام نحو أوروبا لسد حاجة دور الضرب بها. ورغم محاولات برسباي نحو الإصلاح النقدي ظل تخفيض قيمة الدينار الأشرفي يشير إلى ظاهرة لا يمكن التغافل عنها وهي أن مخزون دور الضرب المملوكية من الذهب قد تدنى إلى حد كبير خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، ولم يتمكن ذهب غرب السودان وبلاد التكرور تعويض هذا النقص، وفقاً لكتاب "الشرق الإسلامي والغرب المسيحي عبر العلاقات بين المدن الإيطالية وشرقي البحر المتوسط".
بل إن كميات الذهب الوافدة من أوروبا لم تعد تلبي الحاجة إلى الدفع الفوري، ولم يعد هناك مناص أمام سلاطين المماليك من قبول التوسع في الاعتماد في التجارة الخارجية على المعاملة بنظام المقايضة منذ عام 1488، كما نعرف من نعيم زكي في كتابه طرق التجارة الدولية ومحطاتها بين الشرق والغرب، وما لبثت الأسواق المصرية أن بدأت تواجه مجاعة حقيقية من العملات الذهبية، وغمرتها العملات المزيفة، وعمها الكساد نتيجة ارتفاع أسعار جميع السلع بشكل غير منتظم، مع انخفاض القيمة الشرائية للعملات، حتى أصبح الدينار المملوكي الذي كان يساوي 19 درهماً من الفضة منتصف القرن الرابع عشر، يزن 17 رطلاً من النحاس في القرن الخامس عشر، أي ما يعادل 5/1 قيمته، وفقاً لكتاب أسامة السعدوني "ظاهرة التضخم الاقتصادي في العصر المملوكي".
بات ذلك مؤشراً خطراً لبعض السلاطين الذين أدركوا فشل هذه السياسة الاحتكارية في تلبية مصالح البلاد وأهلها، إلا أنهم ظلوا أسرى للعجز المالي، خاصة في ظل انهيار نظام النقد المملوكي، وتفشي التضخم
ونحن نعرف من المقريزي أن سياسة الاحتكار التجاري قد تسببت في تقلص الطبقة التجارية وأضرت بأصحاب الحرف، في ظل منافسة النخبة العسكرية المُحتكرة للتجارة، بعد تحول السلطان المملوكي وأمرائه إلى تجار، فخربت بعض الأسواق وتلاشت كلياً، وإن بات ذلك مؤشراً خطراً لبعض السلاطين الذين أدركوا فشل هذه السياسة الاحتكارية في تلبية مصالح البلاد وأهلها، إلا أنهم ظلوا أسرى للعجز المالي، خاصة في ظل انهيار نظام النقد المملوكي، وتفشي التضخم بعد أن انقطع تجار غرب أفريقيا وذهبهم، وفسدت عملات الفضة بعد أن خلطها سلاطين المماليك بالنحاس، ثم عم استخدام الفلوس النحاسية بالوزن لا بالعدد نتيجة فساد معيارها، حتى ارتفعت قيمة الفائدة السنوية على القروض التجارية من 4-8% في القرن الرابع عشر إلى 18-42% بدايات القرن الخامس عشر، وفقاً لكتاب "آ.آشتور"، "التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى".
ولا يكتفي المقريزي بسرد أخبار فساد النظام المالي وتحليل أسبابه، حين يخبرنا "وقد علم كل من رزق فهماً وعلماً أنه حدث من رواجها -أي الفلوس- خراب الإقليم، وأن هذا كعكس للحقائق، فإن الفضة هي نقد شرعي، والفلوس إنما هي أشبه بلا شيء"، بل يتجاوز ذلك إلى عرض الحلول وتقديم سبل الخلاص، موضحاً ذلك "ولا يستقيم أمر الناس إلا بحملهم على الأمر الطبيعي في ذلك، وهو تعاملهم في أثمان مبيعاتهم وأعواض قيم أعمالهم بالفضة والذهب لا غير ... وإعلم وفقك الله، أنه قد تبين بما تقدم الحال في فساد الأمور إنما هو سوء التدبير لا غلاء الأسعار، فلو وفق الله من أسند إليه أمر عباده حتى رد المعاملات إلى ما كانت عليها من قبل بالذهب، ورد قيم السلع، والأعمال كلها إلى الدينار، أو إلى المعاملة بالفضة المضروبة، وفي ذلك غياث الأمة وصلاح الأمور، وتدارك الفساد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه