شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عَ السكين يا بطيخ… الهوس الإسرائيلي برمزية البطيخ الفلسطينيّ

عَ السكين يا بطيخ… الهوس الإسرائيلي برمزية البطيخ الفلسطينيّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!


في العام 1984، نشرت صحيفة "حدشوت" الإسرائيلية الخبر التالي: "أصدرت المحكمة المركزية في نتانيا حكماً على محمد تاية، الملقّب محمد بطيخ، من قرية قلنسوة في المثلث، بالسجن لمدة خمس سنوات، بتهمة بيعه بطيخاً يحمل ألوان منظمة التحرير الفلسطينية في الكشك الذي أقامه في مفرق بيت ليد. تم القبض على محمد من قبل الوحدة الخاصة لمكافحة الإرهاب، بتهمة بيعه البطيخ والذي يحمل ألوان العلم الفلسطيني، أي الأخضر، الأحمر، الأبيض والأسود، وذلك وفق قانون منع الإرهاب. وقد عرض المدعي العام اللافتة التي قام محمد بتعليقها على كشكه، حيث حملت اللافتة صورة لسكين وبطيخة، وكتب عليها: عالسكين يا بطيخ. وطلب المدعي العام بأن تعاقب المحكمة المتهم أشد العقاب، وذلك لدعمه للإرهاب وبسبب رغبته بالقضاء على اليهود، وفق تعبيره، وطعنهم بالظهر. وافقت المحكمة على طلب المدعي العام وحكمت بالسجن لخمسة سنوات على المتهم وغرامه قيمتها 50.000 شيكل".

قد يبدو الخبر للوهلة الأولى كدعابة أو نكتة بعيدة عن الواقع، لكن، وعلى ما يبدو، فإن حياة الفلسطيني تتأرجح بين التراجيديا والكوميديا، بل إن الكوميديا أصبحت أحياناً أداة تفاعل وتأقلم للحظات الحرجة في التاريخ الفلسطيني، فمن خلال استخدام الفكاهة يعبر الإنسان الفلسطيني عن تفوّقه وعن الانتصار على الخصم، مقارنة بساحة المعركة.

طرح الفنان عصام بدر سؤالاً: "ماذا لو رسمت وردة بألوان العلم الفلسطيني، هل يعتبر ذلك مخالفا لتعليماتكم؟"، فأجابه الضابط الإسرائيلي: "ممنوع طبعاً، ممنوع رسم أي شيء يحمل ألوان العلم ولو حتى بطيخة"

تنبع الدعابة إذن من رغبة الفلسطيني في الشعور بقوّته، وربما بخصاله الحميدة مقارنة بالمحتل، وهذا ما حدث بعد نكسة حزيران عام 1967، حيث حظرت الحكومة الإسرائيلية جميع العروض العامة للعلم الفلسطيني وألوانه، فأي عرض علني للعلم، من المنشورات إلى الإعلانات وحتى الصور الفوتوغرافية القديمة، كان يودي إلى السجن أو إلى  ما هو أسوأ.

ماذا لو رسمت وردة؟

في نهاية السبعينيات، أغلقت القوات الصهيونية معرضاً فنياً رئيسياً في رام الله، واستدعت ثلاثة فنانين: نبيل عناني، سليمان منصور وعصام بدر، لإدراجهم ألوان العلم الفلسطيني في أعمالهم الفنية. قام قائد الشرطة الإسرائيلية حينها بتهديدهم تارة ومحاولة رشوتهم تارة أخرى لنزع الطابع السياسي عن فنّهم. كان يحاول إقناعهم بعدم القيام بأي فن سياسي، فطرح حينها الفنان عصام بدر سؤالاً: "ماذا لو رسمت وردة بألوان العلم، هل يعتبر ذلك مخالفا لتعليماتكم؟"، فأجابه الضابط: "ممنوع طبعاً، ممنوع رسم أي شيء يحمل ألوان العلم ولو حتى بطيخة". 

لا بد أن اجتماع الألوان الأربعة للعلم الفلسطيني في عمل من ألذّ وأطيب أعمال الطبيعة الصيفية شكّل حالة من الهوس المرضي لكل دلالة على الوجود الفلسطيني، حتى لو كان ذلك بطيخة، فالاحتلال قام بتسمية الفلسطيني بالعربي تارة والإرهابي تارة أخرى، وغيّب بل منع كل ما هو فلسطيني بهويته، إيماناً وقناعة بأن الوقت كفيل بمحوها. إلا أن وجود هذه الفاكهة أصبح وجوداً مؤرقاً للإسرائيلي، وخصوصاً أنها فاكهة الصيف المحببة والأكثر شعبيه وانتشاراً لدى الفلسطينيين، على مدار المائة عام الأخيرة على الأقل. ففلسطين كانت مركزاً مهماً، بسبب جغرافيتها وتربتها، لزراعة وتصدير البطيخ.

ولا يزال المزارعون يعلقون على الحجم المذهل للبطيخ الفلسطيني وشعبيته كصادرات إلى لبنان والأردن وسوريا ومصر ودول أخرى، وكان يقام كل عام بقرية الحرم – سيدنا علي المهجرة عام 1948، مهرجان البطيخ السنوي، الذي كان يجمع مئات المزارعين من جميع أنحاء فلسطين لعرض منتوجهم من البطيخ. استمرّ هذا المهرجان حتى نكبة عام 1948، ومعها جلبت سلطات المستوطنين شركات البذور الخاصة بها وأغرقت السوق، وأخرجت الفلسطينيين من المنافسة، واحتكر الإسرائيليون زراعة البطيخ.

إذن، أصبح لهذه الفاكهة تاريخ سياسي لدى الفلسطيني والإسرائيلي على السواء، فلدى الإسرائيلي شكلت هذه الفاكهة حالة هوس، وأصبحت رمزاً للعلم الفلسطيني بل للوجود الفلسطيني، أما لدى الفلسطينيين فيُعتبر البطيخ رمزاً للمقاومة ونوعاً من أنواع الحراك الفني- السياسي، بألوانه التي تعكس العلم الفلسطيني، ويمكن رؤية صور البطيخ على الجدران الحجرية في صالات العرض في رام وبيت لحم. فعلى مدى عدة عقود، أصبح البطيخ الفلسطيني تعبيراً عاماً عن الفخر الثقافي في الأعمال الفنية التي تمثل النضال ضد الفصل العنصري الإسرائيلي. في العقود التي تلت ذلك، استعاد الفلسطينيون البطيخ كفن احتجاجي ضد الاحتلال الإسرائيلي. 

علم جديد لفلسطين

وفي أعقاب الانتفاضة الثانية، ابتكر الفنان الفلسطيني خالد حوراني سلسلة تحت عنوان "علم جديد لفلسطين"، والتي ظهرت في أطلس فلسطين الذاتي عام 2007. وقدم فيها البطيخة كعلم هذه المرة وليس مجرّد ترميز له، اعتماداً على القصة التي سمعها من زملائه الفنانين وعلى تاريخ قصة البطيخ مع الاحتلال. وقد أصبح هذا العمل الساخر يحظى باهتمام شديد نظراً لقوته الاحتجاجية والتعبيرية ولبساطته الفنية أيضاً. 

تبدو شريحة البطيخ منتصبة ومقطوعة بشكل كبير، وتنقل طبيعة ساخرة، على خلفية بيضاء. قام حوراني بدمج خط رفيع من البذور السوداء والظلال على طول القشرة لجعلها تبدو ثلاثية الأبعاد. وقام لاحقاً بعزل إحدى الشاشات الحريرية وأطلق عليها عنوان "ألوان العلم الفلسطيني" (2013).

حوراني هو المدير السابق لدائرة الفنون الجميلة في وزارة الثقافة الفلسطينية، وشخصية محورية في تنشيط الخطاب الفني في فلسطين، والمؤسس والمدير للأكاديمية الدولية للفنون في فلسطين. رسم نسخة كبيرة من البطيخ في معرض في تولوز، فرنسا، وظهرت أشكال مختلفة في دارة الفنون في عمان، الأردن، ومركز الفن المعاصر، غلاسكو. يقول: " إن فكرة العمل ليست تخليداً لخيال الحاكم العسكري المرضي، بل تخليداً لمنعه"، ويضيف: "العلاقة بين الفن والسياسة بفلسطين علاقة وثيقة، لدرجة أن الفن قد يكون مسيّساً أكثر من السياسة، فللفن في فلسطين تاريخ وباع طويل في التعبير ومحاكاة واقع الفلسطيني، وعمل البطيخة مثال حي على ذلك. حيث تعاملت الأوساط الفنية ووسائل الأعلام وشبكات التواصل الاجتماعي على زيادة الاهتمام بهذا الرمز وطريقة للتحايل على المنع، ولم يتم استخدامها و تجنيدها من قبل الناس في فلسطين فقط، وإنما من قبل الناس والمتضامنين في كل مكان".

أصبح للبطيخ تاريخ سياسي لدى الفلسطيني والإسرائيلي على السواء، فلدى الإسرائيلي شكلت هذه الفاكهة حالة هوس، وأصبحت رمزاً للعَلَم الفلسطيني بل للوجود الفلسطيني، أما لدى الفلسطينيين فيُعتبر البطيخ رمزاً للمقاومة ونوعاً من أنواع الحراك الفني- السياسي

بطيخ حوراني ورينيه ماغريت

انعكس ذلك بوضوح في حملات التضامن الضخمة وغير المسبوقة مع فلسطين ونضالها العادل. في حملة "أنقذوا الشيخ جراح" الأخيرة، أدى تجديد التقدير لعمل حوراني إلى ظهور البطيخ الفلسطيني الآن كعلم في تصاميم الجرافيك واللوحات الجدارية والرسومات والقمصان واللافتات. فيُظهر تصميم بسيط للفنان اليافاوي سامي بخاري، شريحة على شكل خريطة فلسطين. وصممت حنان السقوف كوفية باللونين الأحمر والأخضر، مع أنماط شبكية وأوراق زيتون تمثل سبل العيش والمرونة، على التوالي. في روتردام، علّق طلاب مدرسة الفنون لافتة جمعت بين بطيخ حوراني ورينيه ماغريت، بعد أن أسقطت الشرطة لافتة أكثر وضوحاً احتجاجاً على التطهير العرقي الإسرائيلي. كما أخذت بطيخة حوراني شكلاً جديداً، حتى تحولت لأيقونة فنية - سياسية في مواجهة مستمرة مع الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري، كأحداث الشيخ جراح بالقدس، فأصبح حمل شريحة من البطيخ الطازج، أو رفع علم يحتوي على شريحة من البطيخ في الخارج، عملاً احتجاجياً.

وفي ظل الرقابة التي تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي، أخذت البطيخة أبعاداً أوسع، وأصبحت تقليداً جديداً على الإنترنت، يوحّد الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، ويستمد التأثير من أولئك الذين حاربوا من أجل حرية التعبير طوال أواخر القرن العشرين.

يعقب حوراني على هذه التحولات: "بالنسبة لي، كان الأمر مفاجئاً نوعاً ما. حيث كانت البطيخة مجرّد مشروع من أحد مشاريعي، والذي لم يكن واسع الانتشار كما هو الآن"، ويضيف: "إنه نوع فريد من أنواع التضامن والتفاعل الإنساني والسياسي، وهو تفاعل قوي الوقع للغاية. حينها بصراحة، لم أعرف كيف أتعامل معه. مع هذا الاهتمام الكبير المفاجئ الذي رافق هبّة الشيخ جراح الأخيرة، بعض الناس يحصلون عليه كوشم أو دبابيس، والبعض الآخر يصمّمه ضمن أزيائه، وآخرون على الأعلام، ووسائط مختلفة. أشعر بالسعادة في أن أكون طرفاً في هذه القصة، ولأن عملي الفني من باب السخرية قام بدوره ولو بعد حين، ألا وهو لفت الانتباه إلى القضية الفلسطينية وتوسيع التضامن مع الشعب الفلسطيني".

في ظل الرقابة التي تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي، أخذت البطيخة أبعاداً أوسع، وأصبحت تقليداً يوحّد الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، ويستمد التأثير من أولئك الذين حاربوا من أجل حرية التعبير 

خالد حوارني

قبل أسابيع قليلة، وبالتحديد ب 18 أيار/ مايو 2023، أقرّ البرلمان الإسرائيلي بقراءة تمهيدية لمشروع قانون يحظر رفع العلم الفلسطيني بالتجمعات لثلاثة أفراد أو أكثر، وصوّت لصالح المشروع 54 نائباً مقابل 16 معارضاً. إذا تمت الموافقة على المشروع في ثلاث قراءات، فسيكون من الممكن فرض عقوبة تصل إلى السجن لمدة عام على أولئك الذين يلوّحون بالعلم الفلسطيني. ويمكن هنا السؤال: هل ستكون بطيخة الحوراني ضمن المحظورات بهذا القانون؟ فذهنية الحاكم العسكري الفاشية والذي حظر رسم البطيخة هي ذات الذهنية التي تسيّر القيادة الإسرائيلية الحالية، فالطغاة لا يخافون من الذكريات فقط، بل من كل ما قد يثير ذاكرتهم حتى ولو كان بطيخة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard