يطلق مصطلح "الجسر" على نقطة العبور في الحدود الأردنية الفلسطينية، وهو مصطلح يستخدمه يومياً آلاف المسافرين من فلسطين إلى الأردن، ومن الأردن إلى فلسطين، ودون أن يقصدوا به الجسر بعينه، القائم فوق نهر الأردن، والذي يشكل الحدود الطبيعية بين البلدين.
هناك نهر رفيع يتدفق من الشمال إلى الجنوب، وفوق هذا النهر كان يوجد جسر خشبي يخشخش تحت عجلات الحافلة لمدة لا تتجاوز نصف الدقيقة. إن كنت قادماً من الأردن، فإن انتهاء هذه الخشخشة يشير إلى أنك دخلت "البلاد"، وإن كنت قادماً من فلسطين فبداية الخشخشة تعني أنك غادرت البلاد. الجسر هذا تم الاستغناء عنه منذ أربعين عاماً لصالح جسر من الخرسانة، ثم بعد ذلك بسنوات، قامت الحكومة اليابانية بتمويل إنشاء جسر عريض ومتين، يتحمّل ثقل الحافلات وشاحنات البضائع بين البلدين.
على الطرف الشرقي لهذا الجسر يوجد مبنى للارتباط الأردني، ثم وعلى بعد ما يقارب الكيلومتر يوجد المبنى الرئيس للتفتيش، وختم الجوازات للداخل وللخارج. على الطرف الغربي يوجد محطة تفتيش للحافلات، ثم يقع المبنى الإسرائيلي الذي يقوم بنفس الإجراءات للمسافرين من الجهتين. في مدينة أريحا القريبة هناك المبنى الفلسطيني الذي تتولى فيه السلطة الفلسطينية إجراءات السفر.
هذه المباني الثلاث، مع ملحقاتها، مع النهر والجسر فوقه، تسمى عند المسافرين "الجسر". إذن مصطلح الجسر عند الفلسطيني لا يعني جسراً بالمعنى الحرفي للكلمة بقدر ما يعني حالة متكاملة من السفر، وهذا المصطلح ليس الوحيد الذي يتم استخدامه بطريقة مجازية من قبل المسافرين أو الأطراف التي تتعامل معهم.
هناك مجاز لا يراه المسافر العادي إلا في طريق العودة إلى البلاد، وهذا المجاز يحمل الكود المتعارف عليه بين عناصر الجمارك في المباني الثلاث... تاجر. هذه هي الكلمة السحرية أو المخفّفة أو البديلة لكلمة مهرّب
تبدأ رحلة المجاز عند أول نقطة يستخدمها المسافر المحتمل من رام الله إلى الأردن مثلاً، ففي وسط رام الله يقع موقف السيارات التي تقل المسافر في الجزء الأول من رحلته، هناك من الطبيعي أن تسمع شخصاً ينادي بعلو صوته: عمان، عمان، عمان. من يسمع هذا النداء يعتقد أن السيارة التي سيستقلها ستوصله إلى عمان، وهذا هو الطبيعي في حالة طبيعية تشبه خط الإسكندرية القاهرة مثلاً. لكن المنادي الذي ينطق كلمة عمان، بثقة مبالغ فيها، يعرف أنه يقصد أريحا، المدينة الحدودية الفلسطينية.
أنت تستقل سيارة عمان التي توصلك إلى أريحا، لكنك لا تدفع الأجرة العادية التي تأخذها سيارات أريحا، والبالغة ستة دولارات، بل تدفع خمسة عشر دولاراً لمجرد أنك مسافر، ولأن السيارة ستدخل بك إلى المبنى الفلسطيني في المدينة. الفارق الكبير في المبلغ هو أجرة دخول المبنى لا غير.
هذا المبنى يحمل المسمى الرسمي "الاستراحة"، وهو مسمّى غير موفق بتاتاً، لا من ناحية الدلالة النفسية، فأنت لا تصله لتستريح من عناء رحلة طويلة، ولا من ناحية الدلالة السياسية، فهو يحدد عمل الفلسطينيين في الجانب الخدماتي المتعلق براحة المسافر بين نقطتين، ويستبعد مهمته المفترضة كنقطة سيادية حدودية. لكن المسافر العادي، والذي يستهويه المجاز، ابتدع لهذا المبنى تسمية جديدة وهي "الجسر الفلسطيني" و"جسر السلطة".
قبل وجود السلطة وجسر السلطة كان المسافر يسمي المبنى الإسرائيلي "جسر اليهود"، بينما يطلق على المبنى الأردني مسمى "جسر العرب". بعد إنشاء المبنى الفلسطيني في تسعينيات القرن الماضي، صار من غير المنطقي أن يظل اسم المبنى الأردني جسر العرب، فنحن عرب أيضاً، لذلك تم تغيير الاسم إلى "جسر الأردنية".
لدينا الآن "جسر السلطة" و"جسر اليهود" و"جسر الأردنية"، بهذه المسميات يردّ المسافر على أمه أو صديقه عبر الهاتف: "أنا بين جسر اليهود وجسر الأردنية"، أو: "خلصت من جسر اليهود ورايح على جسر السلطة". لكن جرّب أن تستمع لرد أحد المسافرين على هاتفه، حين يكون داخل الحافلة المنتظرة فوق الجسر نفسه.
إنه لا يستخدم هذه التسمية أبداً، بل يقول بكل ثقة: "إحنا واقفين على الميّ". مجاز آخر يُقصد به أن الحافلة على وشك مغادرة الأراضي الأردنية، بينما اللغة المجرّدة تحيل إلى معجزات السيد المسيح، فلم يقف أحد على الماء إلا هو وهذا المسافر العائد من الأردن إلى فلسطين.
خمسة كيلومترات، قد تقطعهما خلال ساعة واحدة، وقد تستغرق رحلتك بينهما نهاراً كاملاً. خمسة كيلومترات مزدحمة بالعناصر والمسميات، مليئة باليافطات وإشارات التحذير والإرشاد، غنية بالمجاز واللغة التي لا تحمل دلالة واضحة أو معنى صريحاً
بين هذه النقاط الثلاث يوجد ما يسمى قسم "الأشخاص المهمين"، وهي صفة مجازية مؤقتة يمكنك الحصول عليها مقابل دفع مبلغ إضافي من المال (100 دولار)، لتحظى بسفر أكثر راحة وسرعة، وبسيارة خاصة لا بحافلة. يمكنك أن تصبح مهمّاً بمئة دولار، لا بمكانتك السياسية أو العلمية، ولا بمنصبك أو وظيفتك. ثم تنتهي هذه الأهمية عند استلام حقائبك مع نهاية الرحلة. أنت حرفياً تترك صفتك كشخص مهم في المكان واللحظة التي تستلم فيها حقائبك.
مجاز آخر يواجه المسافر حين يختم أوراقه في المبنى الأردني ويخرج قاصداً عمان، ففي اللحظة التي يغادر فيها المبنى يستقبله عشرات الأشخاص، البعض يسأل: "راكب لعمان؟". من يطرح هذا السؤال هم سائقو السيارات القانونية التي تعمل على الخط، وتدفع ضرائبها. أما السؤال المجازي فهو: "تاكسي لعمان؟".
إن أغراك هذا السؤال وقررت أن تستقل التاكسي، وأن لا تنتظر سيارة الركاب إلى أن تمتلئ، فاعلم أنك وقعت ضحية سيارة خاصة مهلهلة، وسائق قد يبيعك لزميله بعد أن يتحرك بك مسافة لا تزيد عن الكيلومتر. فما يُطلق عليه مصطلح تاكسي هنا هي السيارات الخاصة لمجموعة من شباب المنطقة، والذين يفرضون سطوتهم على السائقين القانونيين، ويسلبونهم رزقهم القليل.
هناك مجاز لا يراه المسافر العادي إلا في طريق العودة إلى البلاد، وهذا المجاز يحمل الكود المتعارف عليه بين عناصر الجمارك في المباني الثلاث... تاجر. هذه هي الكلمة السحرية أو المخفّفة أو البديلة لكلمة مهرّب. في كل حافلة عائدة هناك أكثر من نصف الركاب يحملون هذا المسمّى، لدرجة أنك تحسد فلسطين على حجم ميزان التبادل التجاري بينها وبين الأردن. هؤلاء التجار يستطيعون، في يوم واحد، إفراغ السوق الحرة على الجانب الأردني من محتوياتها.
قلت السوق الحرّة؟ هذه كلمة مجازية أيضاً، فهذه السوق ليست أكثر من دكان لبيع السجائر، والسجائر فيها أغلى مما هي عليه في السوق الأردني، أي أنها خاضعة لضرائب مضاعفة، وبالتالي فإن الربح الذي يجنيه التاجر هو فرق السعر بين البلدين لا أكثر. إذن لا هي سوق ولا هي حرة بمعايير الأسواق على حدود البلدان في العالم، لكن المجاز يحتمل تسميتها كذلك.
كل هذه المباني والملحقات والجسر نفسه، يطلق عليها أردنياً "جسر الملك حسين"، أما إسرائيلياً فاسمها "جسر اللنبي"، بينما المسمى الرسمي الفلسطيني لها هو "معبر الكرامة". ثلاث سيادات تطلق ثلاث تسميات رسمية على المكان ذاته، مع العلم أن المسافة بين أبعد نقطتين عن بعضهما في هذا المكان لا تتجاوز الخمسة كيلومترات.
خمسة كيلومترات، قد تقطعهما خلال ساعة واحدة، وقد تستغرق رحلتك بينهما نهاراً كاملاً، خلال مواسم الإجازات وكثرة المسافرين، أو في فترات التوتر الأمني والحروب في المنطقة. خمسة كيلومترات مزدحمة بالعناصر والمسميات، مليئة باليافطات وإشارات التحذير والإرشاد، غنية بالمجاز واللغة التي لا تحمل دلالة واضحة أو معنى صريحاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...