شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لا يمكن للفلاح أن يكون ملكاً... كيف جرى ذلك في التراث السوري القديم؟

لا يمكن للفلاح أن يكون ملكاً... كيف جرى ذلك في التراث السوري القديم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 19 ديسمبر 202205:06 م

اللقط والصيد أقدم حرفتين عرفتهما الإنسانية، وكان أيُّ عمل إلى جانبهما يبدو هامشاً وثانوياً ويتعلق بأبعاد هاتين الحرفتين؛ فالسلة التي تُجمع الثمار بها يَصنعها من يلتقط، وحربة الصيد يصنعها من يصطاد. هكذا انقسم العمل في المجتمعات الإنسانية الأولى بين أنثى تراقب الطبيعة وتبدل مواسمها وإنتاجها وتلتقط، وذكَر يراقب الحيوانات ومواسمها وتنقلاتها ويقتل.

نتج عن الحرفتين مع تطور الجماعة الإنسانية، مهنتان تلتصقان بهما تطورياً، فالنساء اللواتي راقبن الطبيعة أنتجن الزراعة، والرجال الذين راقبوا الحيوانات قاموا بالتهجين وأصبحوا رعياناً. وسبق النمطين الجديدين من الإنتاج الاستيطانُ أي الاستغناء عن حياة التنقل.

ابتكرت مهنة الجمع واللقط أدواتها في قرى الصيادين السوريين الأولى التي ظهرت في 11500 ق.م من المدقات والمناجل والأوعية وأدوات التخزين قبل ظهور الزراعة التي بدأت تظهر كتجارب للجماعات المستقرة في 10000 ق.م بحسب كتاب "الصيف الطويل" لـبراين فاغان. بينما طورت مهنة الصيد ثقافتها ليبدأ التهجين متأخراً في الألف التاسع قبل الميلاد.

أخبرنا الموروث القديم عن تنافس بين الفلاح والراعي والصياد، فبرغم ابتعاد المدينة مع بداية الكتابة زمنياً عن بداية القرية ودور الفلاح والصياد والراعي، إلا أن سطوراً ضمن ضباب بعض النصوص وأساطير بأكملها أوضحت بعض جوانب الرؤية السورية النفسية والمادية لتلك المجتمعات. فالألغاز المبهمة التي نعثر عليها في تطور طبقات العصر الحجري الحديث وجدت طريقها إلى نصوص بداية الكتابة، وما علينا إلا تناول تلك الخيوط.

الملوك الرعاة

عثر في بلاد الرافدين على ألواح مسمارية تحتوي على قوائم بأسماء الملوك. قسمت هذه القوائم الملوك إلى ما قبل الطوفان وما بعده. نقرأ في هذه القوائم كما قدمها أسامة عدنان يحيي في كتابه "القوائم الملكية والتاريخية في بلاد الرافدين" أسماءَ الملوك ومعظمهم بدون مهنة، بينما سجلت مهنة البعض قبل أو بعد اسمه. فالملوك الرعاة هم: دموزي الراعي وهو من مرحلة ما قبل الطوفان. ولدينا بعد الطوفان الملك الراعي إيتانا الذي حكم مدينة كيش، والراعي لوجال باندا الذي حكم إي-أننا. ونجد إلى جانب أسماء البعض الآخر مهناً مغايرة؛ المقدس دموزي صائد السمك (حكم أوروك) والملك سو-سودا القصار والملك ماماكال المراكبي، والملكة كوبابا صاحبة النزل، والملك ناننيا قاطع الحجارة (حكموا كيش)، الملك بازي عامل الجلود، والملك زيزي القصار (حكما ماري)، والملك ميشخه عامل المعادن (حكم أوروك).

أخبرنا الموروث القديم عن تنافس بين الفلاح والراعي والصياد، فبرغم ابتعاد المدينة مع بداية الكتابة زمنياً عن بداية القرية ودور الفلاح والصياد والراعي، إلا أن سطوراً ضمن ضباب بعض النصوص وأساطير بأكملها أوضحت بعض جوانب الرؤية السورية النفسية والمادية لتلك المجتمعات

لا تعبر هذه القوائم عن الرعي كمهنة إلا مع الملكين دموزي وإيتانا لأننا نعرف ملوكاً أطلقوا على أنفسهم لقب "الراعي" لدلالة رمزية. الجدير بالذكر هو العدد القليل لمن حمل لقب الراعي بينما تعرضت القوائم لمهن غير متوقعة يبدو أنها أعطت الأهلية لأصحابها أن يكونوا ملوكاً. اختفاء لقب مهنة الصياد، باستثناء صيد السمك، يفسر أسطورة صياد السمك الحكيم أدبا الذي كسر بلعنة نطقها جناح الرياح، وحرمانه من الخلود، ومن جهة أخرى تخبرنا عن عدم تفضيل مهنة الصياد ولو رمزياً لوصف حالة ملكية باستثناء صياد السمك.

شكل صياد السمك أهمية خاصة لمدن جنوب الرافدين التي قامت ملاصقة للنهر والأهوار وتعرضت مع تأسيسها لشتى الحيوانات والحشرات الخطرة على وجود الإنسان والمدينة، فكان لصياد السمك وخبرته في التعامل مع مخاطر الأنهار فائدة جعلته محبوباً وحكيماً من إلهه وشعبه، وخاصة أن السمك كان القربان الرئيسي لمعبد مدينته وإلهه أنكي.

الفلاح والملوكية

لا يمكن للفلاح أن يكون ملكاً! إنها باختصار الحكمة السورية القديمة عن علاقة الفلاح بالملوكية، وثمة نصان أدبيان يدلان بضوح على هذا الواقع؛ النص الأول المناظرة الأدبية بين الفلاح إينكميدو والراعي تموز في الصراع على الزواج من أنانا، والتي يبدو أنها كانت بدايةً تهيم حباً بالفلاح (وهو أمر طبيعي في سياقات القرية الأولى) فتدخّل أخوها إله الشمس وأقنعها بقبول الراعي تموز. نحن أمام نص يمجد الرعي والراعي.

النص الثاني يتحدث عن اغتصاب أنانا من قبل الفلاح شوكاليتودا وهو نص مترع بالرمزية في هذه النقطة بالتحديد. فعندما يغتصب الفلاح الإلهة أنانا التي كانت نائمة في حقله وتصحو لترى ما حلّ بها يثور غضبها على البلاد والناس وتبدأ العواقب والكوارث الطبيعية التي تسببها الإلهة.

ينصح والد الفلاح ابنه بالذهب إلى أهل المدينة والاختلاط بهم. تذهب إلى الإله أنكي وتطلب منه تسليم مغتصبها وتتعهد بعدم مسه بأذى. ويكون لها ما تريد فتأخذ الفلاح وتحوله إلى قوس قزح في السماء وتخبره: "لن يتمكن النسيان من اسمك قط. سوف يستمر في الأناشيد وستكون عذبة تلك الأناشيد في قصور الملوك. سوف ينغم الشعراء الشبان اسمك وسوف يدندنه الرعاة وهم يمخضون قربة الحليب".

لا يمكن للفلاح أن يكون ملكاً! إنها باختصار الحكمة السورية القديمة عن علاقة الفلاح بالملوكية

الاقتران بالإلهة أنانا (عشتار) يعبر عن منح الملوكية، وهي إشارة مستحدثة كثيرة التكرار في الأدب السوري القديم، ومستحدثة لأن الملوك القدماء كانوا يدّعون في أدبياتهم أنهم رضعوا من صدر ننخرساك (سيدة الجبل العظيم) وهي زوجة إنكي.

في النص الأول، تفوّق إله الرعي على إله الفلاحة فمنح الملوكية من خلال الاقتران بعشتار. والنص الثاني محاولة الفلاح الحصول على السلطة بطريقة غير شرعية فتكون النتيجة خراب البلاد والفوضى. لكنه يسلم نفسه دفعاً للكوارث التي كان سببها ويتحول إلى أحد مفاهيم علم النفس المتعلقة بالعبور النفسي أو جسر التحولات الداخلية (قوس القزح). إشارة عشتار إلى الشهرة التي ستلازم اسم الفلاح تغدو مفهومة باعتبار فعلته حدثاً ثورياً لمحاولته الجرئية في الوصول إلى السلطة، ومن هنا يكتسب المترنمون أهمية خاصة فهم الشعراء والرعاة وفي قصور الملوك.

نستطيع تاريخياً أن نفهم الملاحظة الأخيرة عن شهرة اسمه في بُعدين؛ الأول: عجز الفلاح تاريخياً عن الوصول إلى السلطة، فالقصيدة تمجيد رمزي لفعلة الفلاح، وثانياً الوتر النفسي الحساس الذي مسه مؤسس الإمبراطورية السورية الأول شروكين الأكدي عندما قال عن نفسه بضع معلومات مختزلة جداً سجلها طه باقر في كتابه "مقدمة في أدب العراق القديم" عن أمه التي لا يعرفها ووضعته في سلة فسحبه من الماء أكي ساقي الملك واتخذه ولداً وعينه بستانياً. ثم "أحبتني الإلهة عشتار فتوليت الملوكية".

نحن هنا أمام بستاني وفلاح تحول ملكاً ببركة من عشتار! وهذه الصورة الاستثنائية تفسر الكثير من تاريخ هذه الإمبراطورية السورية الأولى التي استطاع مؤسسها بقراراته الفريدة وحروبه أن يقيم شاهدة الموت على نظام الدولة المدينة ومحاولات لاحقيه لتقليد دولته وأبعاد دولته، ويفسر معنى اسمه شروكين أي الملك الشرعي، أنه يسبغ بعداً روحياً على حالة جديدة مغايرة للمعتاد في التاريخ وإن لم يكن مرفوضاً بالمطلق. شروكين الفلاح الذي أصبح راعياً، إنه الجسر الذي مهد له الفلاح شوكاليتودا.

الراعي ومجتمع الصيد

تركز الدراسات الاكاديمية في أسطورة الملك ايتانا (الملك الرابع بعد حدث الطوفان) على خاتمتها المتعلقة بصعود ايتانا إلى السماء على ظهر نسر لجلب عشبة تساعده في إنجاب ولد (غامزين من قناة العروج إلى السماء) وتبقى كامل مقدمة الأسطورة وأكثر من نصفها مهملة، وهي مقدمة مهمة لتناولها علاقة الراعي والصياد بالملوكية وتمجيدها للراعي.

فالأسطورة تبدأ كما يقدمها قاسم الشواف في "ديوان الأساطير" (الجزء الثاني) بعد أن أسس الآلهة المدينة ووضعوا أساساتها وقرروا المصائر، ولكنهم لم يعينوا ملكاً على رأس البشر، في زمن لم تكن العمامة ولا التاج يعصبان الجبين (الصولجان والعصا والتاج كانت أمام آنو مودعة في السماء. لم يكن هنالك حاكم).

ظهر عهد صداقة بين النسر والأفعى اللذين يقسمان على تقاسم الأرض والبقاء أصدقاء. فعاش النسر في شجرة الصفصاف والأفعى في أسفلها. تشرح الأسطورة كيف كان النسر يصطاد ويطعم أولاده وأولاد الأفعى وأن الأفعى كانت تفعل ذات الفعل مع أولادها وأولاد النسر. تراود النسر الأفكار الشريرة فيأكل أولاد الأفعى رغم تذكير أولاد النسر بقسمه أمام إله الشمس.

تنقل الأفعى شكواها إلى الإله الشمس الذي يدلها على طريقة الانتقام، فتستقر الأفعى في بطن ثور وحشي بانتظار قدوم النسر الذي يقع في الفخ لتنزع الأفعى ريشه وترميه في حفرة ليموت جوعاً وعطشاً. هنا يظهر الراعي إيتانا الذي يلح على إله الشمس كي يساعده في الوصول إلى السماء حيث توجد العشبة التي تساعد في الحصول على طفل. يدله الإله على حفرة النسر الذي يعد إله الشمس بمساعدة الراعي فيخرجه ايتانا من الحفرة ويعتني به لسبعة أشهر ويأخذه على ظهره إلى السماء. نهاية الأسطورة مشوهة ولا نعرف إلا أن النسر صعد بإيتانا إلى السماء.

يرمز النسر والأفعى إلى شعبين مجهولين، أو أنهما طوطمان منسيان لشعوب تسبق المدينة. ما يهم هو طريقة اعتياشهما على الصيد، وأداؤهما القسم للتكافل في هذا الشكل من البقاء، وهو قسم لا يمكن أن يكتب له الاستمرار لأن مجتمعات الصيادين مبنية على الصيد واقتناص الفرص مما يجعل نجاح الالتزام بمفهموم أخلاقي وغير انتهازي أمراً بعيداً عن سياق مجتمعات الصيادين في البقاء. دور إيتانا في إنقاذ الصياد النسر ورعايته سبعة أشهر تمجيداً لفضائل الراعي أمام انتهازية مجتمعات الصيادين التي تكون سبباً ليصعد إلى السماء كنتيجة فهي مصدر الملوكية في الأدبيات السورية القديمة.

الصياد جلجامش والنظير الراعي

ملك أورك الرابع بعد الطوفان هو جلجامش. نعرف عن جلجامش تاريخياً قضية صراع مدينته أوروك مع مدينة كيش التي ترسل إليه رسولها حملاً إنذاراً إلى مدينته فيستشير مجلس شيوخ الميدنة الذي لا يوافق على إعلان الحرب ضد كيش، فيذهب جلجامش إلى "مجلس الشعب" فيوافقون على الحرب. وفي الجانب الأسطوري قصته الشهيرة في البحث عن الخلود، والتي ركز الدارسون فيها على معضلة الموت والخلود فمرت رمزية شخصية جلجامش ونظيره النفسي أنكيدو كصيادين مغامرين دون تفكيكها ورصد أبعادها.

مقابل انهماك الفلاح في الأرض، مَنَحَ التجوال الراعي والصياد مقدرة على فهم المحيط الجديد من قرى أخرى وممكنات البيئة. كانت هذه الخبرة مقدمة لممارسة نفوذٍ تجسد بدايةً بالتفوق النفسي ولكنه حكم تطور في منحى مادي

تقدم قصة جلجامش شخصيته بمجموعة أبعاد نحددها من ترجمة نائل حنون لملحمة جلجامش؛ أولاً: قوته الهائلة في القتال وما ينعكس عنها من سلوك يرهق سكان أورك. ثانياً: تمسك جلجامش بحق الليلة الأولى، فهو لم يترك عروساً لعريسها. ولماذا؟ يخبر أحد سكان أورك أنكيدو (هذا مقرر بمشورة الإله وعندما قُطع حبله السري قُدر له ذلك) وهذا التقرير غير صحيح لأن سكان المدينة يشكون هذه النقطة بالتحديد إلى الآلهة التي تقوم بدورها بخلق انكيدو ليحول بينه وبين ما هو (مقرر بمشورة الإله). ثالثاً: جميع مزايا شخصية جلجامش في الملحمة تذكر الجانب العدواني والحربي والمقاتل، فلا ترعة حفرها ولا مظلومين أنصفهم ولا معبد شيده (كما تفاخر بهذه الاعمال الكثير من سابقيه ولاحقيه من الملوك السوريين) وليست تتمة مغامراته مع صديقه انكيدو إلا في الصيد والقتال.

جلجامش شخصية غير قادرة على الحب الذي سينزع منه الجانب العدواني. وربما ما تشير إله قائمة الملوك (والده غير مرئي) أي مجهول، وشخصية ننسون في ملحمته التي تقدمها على أنها أمه وهي ليست أمه، إذ يميل المؤرخون إلى اعتبارها كاهنة أو عرافة تسرُّ بمعاني أحلامه، كان السبب وراء نزعته العدوانية فهو ببساطة لم يعرف حنان الأب ومحبة الأم.

بالمقابل كان أنكيدو النظير النفسي لجلجامش، فهو يحمي الحيوانات البرية ويخرب أفخاخ الصيادين، ثم أصبح نتيجة الحب الذي مارسه مع شمخة (نضج وصار واسع الإحساس) وهي التي قالت له (قم عن الأرض، فهي سرير الراعي) وأدخلته إلى المدينة (تحول سيداً، لبس ثوباً، فإذا به يصبح كالعريس)، فهو عرف الحب وجاءت هذه المعرفة لتؤنسنه من حماية الحيوانات البرية من الصيادين فأصبح يحمي قطعان الرعاة من الحيوانات البرية (فـأخذ أصحاب القطعان الكبار ينامون وانكيدو حارسهم فهو السيد اليقظ) أي إنه يقوم بالعمل الذي لم يقم به جلجامش؛ الحماية والرعاية. وبالتالي سيكون صراعهما على باب بيت العروس التي هم جلجامش بالدخول عليها منطقياً فلقد تعلم انكيدو الحب وقدر قيمته.

هل يقدر أن يحيي الصداقة من لم يحيِ الحب؟ يبدو صوت أنكيدو متعقلاً في جميع مغامرات جلجامش التي يحاول أن يثنيه عنها، وإن سايره فيها فيكون سبباً لنصره. وليست لعنة انكيدو على الصياد وشمخة قبيل موته، وهما المسببان لدخوله عالم المدينة، ثم تراجعه عن اللعنة بحق شمخة فقط (وبعد تدخل الإله شمش) وتحويلها إلى بركة مبالغاً فيها إلا تأكيداً لتحقق إنسانيته في الحب وهي بركة تصب لمصلحة عالم المدينة، ويظهر موقف كاتب الملحمة الصريح بوضوح من لعنة الصياد التي لا يتراجع أو ينقضها على لسان انكيدو! كان انكيدو تفريغاً لطاقات جلجامش كنظير نفسي أكثر منه صديق يمثل قيم الصداقة. لقد نجح حس الصياد انكيدو في عالم المدينة في الجانب الذي فشل فيه الصياد جلجامش.

عرضت عشتار الجنس والحب على جلجامش، وكان رد جلجامش يتمحور في نقطتين؛ الأولى: ما يعنية الاقتران بها من نقاط ضعف ستدخل حياته. والثانية: يعدد مصائر أزواجها الذين نزعت عنهم قوتهم، فيذكر مصير زوجها تموز ومصير الأسد (الذي وقع في الحفرة) والحصان الذي (قدرتِ له السوط والمهماز). إن جلجامش يخشى أن يفقد قوته بين يدي المرأة وفي الحب، وليست ضروب الشجاعة في رحلات الصيد والقتل التي أخذ فيها أنكيدو معه إلا هرباً من الحب والمرأة وما يعنيه الاقتران بها.

خوف جلجامش مبرر، فالحب بذاته لا يحرر الإنسان الذي يحتاج إلى جانب الحب لمشاعر الرحمة والعطف والتواضع في داخله، ولدينا مثال شمشون صاحب القوة الخارقة الذي لم يساعد تمتعه بالجميلة دليلة على نزع حقده على الكنعانيين أو الفلسطينيين. لقد فقد قوته الخاصة عندما قامت بقص خصلات شعره! إنه وهم القوة العدوانية ولكنه وهم يتجدد وللأسف في نفس منحى الحقد. أليس شمشون صاحب أكثر فعل تدميري وعدواني تاريخياً في طريقة موته عندما هدم المعبد؟ أ

ليست الإشارة إلى العمى الذي أصاب عينيه رمزاً لعدم مقدرته حتى على الإبصار الداخلي؟ بالتأكيد، فكاتب النص التوراتي ذاته الذي منح اسماً لدليلة من العبرية بمعنى "ذليلة" وجميع من حاول الالتفاف على حقيقة الإشارات إلى انتحاره في النص لتبرير القتل والعدوان للتخفيف من طبيعة الحقد في القتل الذاتي هم شركاء في التعامي عن رمزية فاضحة تفضح رذيلة شمشون.

الصياد أقهات والنظيرة الفلاحة

لدينا في النصوص الأوغاريتية صياد آخر يدعى أقهات وقد تلقى عرضاً يشبه عرض عشتار السابق إلى جلجامش ولكن لقضية مختلفة. يعرض أسطورة أقهات سليم مجاعيص في كتابه عندما تقسو الآلهة فهو ابن دانيل الهرنمي الذي قدم الأضاحي والولائم قرباناً للآلهة ليمنح ولداً، وبعد مباركة الآلهة تحمل زوجته دانتاي وتلد أقهات. يصنع إلهان قوساً وسهاماً لأقهات (ها موسم صيدك، ها موسم صيدك الأول، خذه وليحسن صيدك) وأثناء أستخدامه لسلاحه (ترغب بهما عنات) تعرض عنات عليه الذهب والفضة ليمنحها قوسه فيرفض ويخبرها أن تطلب من الإلهين يصنعان لها مثله. تقدم له عروض الخلود مع بعل فيرد (أموت مثل جميع الأحياء) وينتهي رده بـ (قوس المحارب: هل للنسوة أن يصطدن به؟) ترد عنات ساخرة (تبصر يا أقهات، لئلا على دروب العناد أوافيك، لئلا تحت قدمي أدوسك).

الراعي هو الأخ الروحي للصياد والجانب الأسمى، فهو لمميزات عمله يتجه نحو كبح جماح العنف وإقامة العدل وتقدير قيمة الخصوبة، وبالتالي ينزع للدفاع أكثر من العدوان، بينما التجارة والتاجر الذي ظهر بداية كنوع من التضامن بين القرى تحول إلى صياد من نوع آخر مع المدينة

تعتبر عناة إلهة للحرب عند الكثير من المؤرخين، فما حاجتها إلى القوس؟ في كتاب اللآلئ لكبير كهنة اوغاريت ايلي ميلكو الذي ترجمه مفيد عرنوق نتعرف على سلاح عناة وهو المعزقة (أداة للزراعة) مما يدل على جانب زراعي من شخصيتها (إنها معجزة عناة الحقول تغل المزيد، معجزة عناة حقول ايل تغل غلتها كاملة، عناة تحكم بالمعزقة) أو (ادفعي القرن الموجود في محراثك أيتها العذراء عناة، القرن الموجود في محراثك ولتمسح السيد) إن الجانب الحربي عند عناة لا يتعلق بالحرب بمفهوم الجيوش وقتال الجند بل يتعلق بقدرتها على الفوضى والتدمير، وحتى عشتار، فقد ظهرت صفاتها الحربية متأخرة في العصر الآشوري بينما كانت لعصور طويلة إلهة الحب واللذة الجنسية فقط.

نستطيع القول أن عرض عشتار على جلجامش كان منطقياً ومعقولاً، ولكن عرض عناة على الصياد أقهات كان مبالغاً ومتطرفاً، الحياة الأبدية ومن أجل قوس! وطبعاً لا يوجد أي إشارة جنسية أو طلب جنسي في عرض عناة إلى أقهات، وقد عودنا كتاب تلك العصور في أناشيدهم على البوح في الأمور الجنسية.

إن في جملة أقهات (قوس المحارب: هل للنسوة أن يصطدن به؟) فخراً وكبرياء فارغين، فالنساء يستطعن استخدام قوس المحارب إذا تدربن عليه! إن طلب القوس من عنات ورد أقهات يحمل عليها في داخله بذور المجابهة بين الجنسين وحول ما يصح لكل جنس أن يعمل، وهي إشارة سليم مجاعيص الصحيحة في عرض الأسطورة وتفسيره لها، وأزيد عليه ما لم ينتبه له، فبعد قتل الصياد أقهات بتحريض من عناة، وبدون سابق إنذار، نعلم أن لأقهات أختاً تدعى فوغة (فهي نظير الصياد كما كان أنكيدو نظير جلجامش في قضيته) وفوغة تعتني بأبيها بينما يلهو الصياد أقهات بقوسه وهي التي كانت تراقب الحقول مع أبيها، وتتعرف من خلال إشارات الذبول على مصيبة ما (فتدمع في كبدها) وليست إشارات أبيها بقوله (يا ليت السنبلة تنمو، في الحقل الجاف تنمو، في اليباس تنمو، فتحصدها يد أقهات البطل ويضعها في الاهراء) إلا للدلالة على أمنية الأب كي يفهم الصياد أقهات قيمة العمل الذي يعتبر من عوالم المرأة.

ينتهي الحداد والعزاء بطلب من دانيل ويأمر برحيل الباكيات والنادبات ويقدم الذبائح للآلهة. وعندها تأخذ فوغة الدف بيد وتضرب الصنج بيد ثانية وتعلن (باركني فأرحل مباركة، أحرسني فأرحل محروسة، لأقتل قاتل أخي، لأقتل قاتل رضيع أمي) يعلن الأب (أقسم بنفسي، لتحيا فوغة حاملة الماء، جامعة الطل، التي تعرف سير الكواكب. أقسم بروحي ستقتلين قاتل أخيك، ستقتلين قاتل رضيع امك) وبالنتيجة (خلعت ثوبها عند البحر ولبست لباس المحارب، وضعت خنجراً في مئزرها، حربة في زنارها، ولبست فوقها ثوب امرأة، فوغة صديقة الحقول، لحقت نور العالمين شبش).

فضّل مجتمع الأسطورة السورية الراعي لقربه من حقيقة الأمومة الكامنة في القرية وليست ملامح الرثاء الحزين لمصرع الراعي تموز إلا نموذجاً يسعى لتكريس قصة الراعي الحزينة، وبالمقابل وجهت أنتقادت لبقة وبنهايات حكيمة إلى الصياد الذي تطورت مقدراته في نظام أبوي مستبد قبيل المدينة

تقدم قصة الصياد أقهات إمكانية المرأة في المباشرة بأعمال الرجال، وتكتسب فوغة أهميتها لأنها ذات علاقة بعوالم الفلاحة والزراعة أمام رمزية أخيها الصياد، فلا مجابهة مباشرة بينهما في قضية الملوكية.، ولكن قتل أخيها الصياد يمنح الكاتب الفرصة ليظهر ممكنات الفلاح وبل الأنثى الفلاحة، وهي نقطة تستحق الإعجاب بجرأتها، وطبعاً إن شبش هو ذات إله الشمس الذي كان يحتمي به جلجامش وتحتمي به فوغة لتثأر لأخيها. للأسف لا نعلم تتمة الأسطورة الأوغاريتية لتلف أصاب بقيتها لنطلع على وجهة نظر كاتبها في أداء فوغة التي قررت أداء عمل ذكوري وهو الثأر. وأظن العقلية الكنعانية ستسمح لها بالنجاح لأن النصوص الأوغاريتية مترعة بالنهايات الحكيمة والتي تميل إلى التوازن بين مكونات رموز أساطيرها لا هم بين الآلهة ذاتها أو البشر أو بين الآلهة والبشر.

القرية وملامح القيادة

كان ظهور القرية السورية إعلاناً لتطور فعالية اللقط والجمع عند المرأة السورية والتي اتبعتها بثورة انتاجية تدعى الزراعة وتم تعزيز أوضاع أجتماعية تصب في صالح كينونة المرأة وحاجتها. يطلق المؤرخ لويس ممفرد في كتابه المدينة على مر العصور اسم عصر الأوعية على ظهور القرية في العصر الحجري الحديث لأن بطن الصياد كان وعاءه الوحيد، فالقرية من البيت وخزانات حفظ الماء والأجران والمدقات ووسائل التخزين وقنوات الري وسور القرية أو خندقها عبارة عن وعاء كبير. وكان ظهور التهجين وبعد ظهور الزراعة بألف عام ترسيخاً لتلك الثورة المتمركزة على متعة البطن وأعضاء التناسل. إنهما الفلاح والراعي وقد حققا الدورة الغذائية الكاملة لنمو الجماعة.

انقرض في القرية نموذج البقاء المعتمد على الصيد للبقاء، ولكن جماعات الصيادين استمرت بعملها، ورحب بها في القرية بسبب تعرض القرية للأخطار المحيطة من الحيونات المفترسة، فالصياد هو الأقدر على تعقب هذه الحيوانات والقضاء عليها مجازفاً، وربما لأيام، بتعرضه للموت مقابل عطايا اختيارية، ثم تحول إلى زعيم محلي يجمع الجزية للحماية من الحيوانات المفترسة أو ربما جماعات صيادين أخرى. وهنا يمكن أن نفهم سور أريحا أو سور أوروك الذي بناه جلجامش الذي يدل على أقلية صغيرة ذات تسلط معرفي أكثر منه في الحروب بين جماعات الفلاحين.

إن الصياد، تطورياً، هو الأقدر في السيطرة على الجماعات البشرية بقوة السلاح مع تعقد نظام القرية الذي كان يميل في بدايته إلى عدم تركيز المسؤولية والسلطة بنظامه الديمقراطي المستند إلى حكمة وقرار الكبار في السن. فكان تطور حياة القرية وعجز شيوخها عن حل بعض المشكلات الاستثنائية التي كانت تحتاج إلى قرارات عاجلة وحازمة أظهر مقدرة الصياد أمام تلك المشكلات بما اعتاد عليه من أسلوب حياة ومجازفة، وليس قيام الملك جلجامش في طلب رأي مجلس الشعب بعد رفض مجلس الشيوخ قرار الحرب إلا إحدى وسائل الصياد غير المألوفة في حل المشكلات.

مقابل انهماك الفلاح في الأرض، مَنَحَ التجوال الراعي والصياد مقدرة على فهم المحيط الجديد من قرى أخرى وممكنات البيئة. كانت هذه الخبرة مقدمة لممارسة نفوذٍ تجسد بدايةً بالتفوق النفسي ولكنه حكماً تطور في منحى مادي. يمكن القول أن التاجر المتنقل بين القرى قد ظهر من هذه الخبرة، ولكن التاجر لم يتحول في الموروث السوري إلى بطل محبوب ومفضل كالراعي أو بطل مُرهوب الجانب مثل الصياد. لقد شكل التاجر في تطوره اللاحق سنداً لنظام المدينة الذي يعتبر الشكل الأرقى اجتماعياً لخلق الندرة والحاجة وتنظيمها.

الراعي هو الأخ الروحي للصياد والجانب الأسمى، فهو لمميزات عمله يتجه نحو كبح جماح العنف وإقامة العدل وتقدير قيمة الخصوبة، وبالتالي ينزع للدفاع أكثر من العدوان، بينما التجارة والتاجر الذي ظهر بداية كنوع من التضامن بين القرى تحول إلى صياد من نوع آخر مع المدينة. لقد حمل لقب الراعي في التاريخ السوري ملوك سجلوا مدونات قانونية من ليبت عشتار إلى حمورابي وسواهم، فملك مدينة لجش أوركجينا المصلح الأول في التاريخ ألغى عمل جباة الضرائب بعد أن كانوا يجولون البلد ومنع القوي من الاعتداء على الضعيف في الأملاك والحقوق وأطلق على إصلاحاته هذه كلمة أمارجي التي تترجم أصطلاحاً بمعنى الحرية ولكنها تعني حرفياً العودة إلى الأم ونفسياً العودة إلى القيم الاخلاقية للقرية الأولى ونظامها الأمومي.

كان أوركيجنا راعياً حقيقياً، استطاع ولمرحلة محدودة التخفيف من غلو اندفاع النظام الأبوي وراء حالة من حيوية الصياد والمحارب. لقد كان قدماء الإغريق يعتبرون احترامهم للعادات والقانون العام على النقيض من أهواء الطغاة ثمرة فريدة لحضارتهم! ولكن ذلك بالتحديد كان دليلاً على استبقائهم نظام القرية الديمقراطي الأمومي القديم والذي نجد ملامحه الأولى في القرى السورية القديمة.

تبقى محاولة فهم ظهور وانتقال السطلة في مجتمعات القرية السورية الأولى، وخارج فكرة الوراثة، من باب التكهنات، فقد كان لمواهب وخبرات أفراد القرية في القضايا التي كان على القرية مواجهتها تأثيرٌ أكيدٌ، وكان للراعي والصياد التفوق. فضل مجتمع الأسطورة السورية الراعي لقربه من حقيقة الأمومة الكامنة في القرية وليست ملامح الرثاء الحزين لمصرع الراعي تموز إلا نموذجاً يسعى لتكريس قصة الراعي الحزينة، وبالمقابل وجهت أنتقادت لبقة وبنهايات حكيمة إلى الصياد الذي تطورت مقدراته في نظام أبوي مستبد قبيل المدينة. وبالتالي تفهمت مجتمعات الأسطورة السورية بقاء الفلاح في حقله ومنحته أدبياً أحقية التحول إلى الراعي المرغوب ولكنه، وكما يبدو، كان تغييراً من باب الاستثناء وليس القاعدة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image