طوال تاريخها الذي يقترب من 95 عاماً، شهدت جماعة الإخوان المسلمين صراعات عدّة بين أركانها بسبب كرسي الإرشاد، إذ لم يتوافق جميع الأعضاء مرّة على أحد مرشدي الجماعة، بداية من قائدها الأول ومؤسسها حسن البنا.
وتظل فترة المرشد العام الثالث عمر التلمساني الأفضل على الإطلاق في تاريخ الجماعة، في ما خص حجم الخلافات الداخلية، كما شهد عهده توسعاً في قاعدتها لم يسبق له مثيل، ولم يتكرر مع أحد من خلفائه إلى الآن. فكيف تم له ذلك؟
ظروف انتخاب التلمساني
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ومع تولي محمد أنور السادات سدة الحكم، خلفاً لجمال عبد الناصر، بدأ الرئيس المصري الجديد في إخراج أعضاء الإخوان من المعتقلات، ومنحهم الحرية في العودة إلى النشاط مرة أخرى.
وفي أثناء ذلك، وتحديداً في يوم 11 تشرين الثاني /نوفمبر 1973، توفي المرشد العام الثاني للجماعة حسن الهضيبي، فكان لا بد من انتخاب خليفة له، خاصة أن الوقت كان قد حان لبدء صفحة جديدة مع نظام سياسي أظهر موقفاً إيجابياً من الجماعة. ووقع الاختيار على عمر التلمساني.
يقول القيادي السابق في الجماعة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، في مؤلفه "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر 1970 – 1984"، إن رأي أعضاء مكتب الإرشاد استقر عام 1975 على بيعة عمر التلمساني مرشداً، باعتبار أنه أكبر الإخوان سناً، وأنه كان العضو الوحيد الحاضر في مكتب الجماعة منذ ما قبل اعتقالات عام 1954 التي عصفت بها.
لم يكن أمام الإخوان في ذلك الوقت سوى اختيار التلمساني، رغم اختلافهم عليه، بسبب منهجية تفكيره، إذ أن مَن
عمل التلمساني بحنكة، خاصة أن فرصة جديدة سنحت للإخوان، بعد أعوام عديدة من اعتقال قيادييها في السجون، وكان لا بد من استغلالها جيداً. سعى إلى الحفاظ على استقرار الجماعة التي بدأت تستفيق من كبوتها مرة أخرى، ونجح في لم الشمل، بل في جذب العديد من شباب الجامعات إليها.
ووضع المرشد الثالث نصب عينيه الأخطاء التي وقع فيها حسن البنا، وخَلَفه حسن الهضيبي، محاولاً تداركها وبناء شخصية جديدة للجماعة، أكثر انفتاحاً على المجتمع، تتقبل الآراء المختلفة، ولا تقصي الأصوات المعارضة، وتقترب من الأحزاب السياسية الأخرى التي ربما تسير في طريق آخر غير الذي تتبعه.
توسّع الجماعة في عهد التلمساني
يشير القيادي السابق في الجماعة هيثم أبو خليل، في مؤلفه "إخوان إصلاحيون"، إلى أن التلمساني تولى قيادة الإخوان لمدة 13 عاماً متواصلة، لم يخرج فيها واحد منها، ولم يُتخذ إجراء بوقف أو فصل أي فرد فيها، بل كبرت الجماعة وتمددت وانتشرت، وأرجع السبب في ذلك إلى أن "الآراء كانت تُحترم وتوظف كتوزيع للأدوار في توافق واستيعاب مذهل".
قبل التلمساني، لم تكن الجماعة تتحالف مع غيرها في الحياة السياسية، خاصةً أنها كانت ضد الأحزاب، وكان حزب "الوفد" ألد أعدائها، لكن منهج المرشد الثالث الإصلاحي غيّر الوجهة تماماً، وصار الإخوان في حالة تعاون دائم مع القوى كافة، ما ساعدهم على التوسع بشكل أكبر.
يقول القيادي السابق في الجماعة الدكتور أحمد ربيع غزالي، في مؤلفه "ألغام في منهج الإخوان: أول دراسة نقدية في فكر الإخوان المسلمين"، إن تاريخ "الدعوة لم يشهد رواجاً أو انتشاراً إلا بعد أن تخلى المرشد الأستاذ عمر التلمساني عن فكرة مصادرة الأحزاب".
"أحدث عمر التلمساني تطويراً كبيراً في طريقة تفكيرنا نحن الشباب، بما جعل من المستقر في أذهاننا أن التغيير بالقوة هو فكرة ساذجة ولن تأتي بنتيجة، وأن خسائرها أكثر من مكاسبها"
نسّق الإخوان في عهد التلمساني مع حزب الوفد، الخصم التاريخي لمؤسس الجماعة، وتحالفوا مع حزب العمل في الحياة السياسية. وبحسب غزالي، انتشرت الجماعة بعد ذلك بواسطة الشباب الذين جمعهم المرشد الثالث وقرّبهم منه، فخاضوا في السياسة بعيداً عن فكرة الإقصاء التي نادى بها حسن البنا، ونجحوا في ذلك.
سياسة الرجل الإصلاحية جعلت الجميع يترقّبون ما سيصدر عن جماعة الإخوان، ولم يكن شرطاً أن ينخرطوا ضمن أعضائها، أو يحلفوا قسم البيعة كما في السابق، وأصبحت الجماعة بذلك عنصراً فاعلاً في الحياة السياسية.
وعن الطرق التي انتهجها التلمساني في سبيل تحقيق ذلك، يؤكد الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد بان، في مؤلفه "الإخوان المسلمون ومحنة الوطن والدين"، أنه نجح في فتح حوار مع كل القوى السياسية، واحتفظ بصداقة مع أطياف المجتمع ورموزه الوطنية والسياسية كافة، ودشن شراكة سياسية أنتجت تحالفاً انتخابياً في العام 1984 مع الوفد، ليفوز الإخوان بسبعة مقاعد في البرلمان لأول مرة في تاريخهم، وكان حريصاً على دفع الجماعة للمشاركة في العمل العام والانخراط في المجتمع والخروج من حالة العزلة الشعورية والوجدانية التي غذّتها أفكار سيد قطب، وكان أول مَن طرح فكرة تحول الجماعة إلى حزب.
تطليق العنف بـ"الثلاثة"
على الرغم من أن التلمساني تتلمذ على يد حسن البنا، إلا أنه لم يضع فكره مرجعاً وحيداً له، بل انفتح على المجتمع بجميع أطيافه، وعمل على نشر الإصلاح ونبذ العنف، وبدأ في الاعتماد على الشباب وتمكينهم، دون الانفصال عن المجتمع.
وبحسب الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، في مؤلفه "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية"، ظلّت الجماعة طوال عقد السبعينيات تضم داخلها كلا التيارين، لكنها لم تحسم توجهها الاستراتيجي في قضية العنف إلا عام 1984 الذي يُعَدّ "عام الحسم" وعام العودة الحقيقية إلى فكر المدرسة الأولى، مدرسة "حسن البنا البعيدة عن أفكار النظام الخاص، وتنظيم 1965"، والتي تأسست على العلنية واحترام المشروعية، واعتماد نهج التغيير السلمي.
وفي العام المذكور، دخلت الجماعة بقوة إلى العمل العام، وقررت خوض انتخابات النقابات، واختيار سبيل العمل السلمي الإصلاحي وتجاوز فكرة العنف تماماً، حتى أن صالح أبو رقيق، أحد قادة الرعيل الأول للجماعة، قال في تصريح للصحافة حينذاك: "إن جماعة الإخوان قد طلقت العنف ثلاثاً!"، وفقاً لما ذكره أبو الفتوح.
في حوار للقيادي المنشق عن الجماعة كمال الهلباوي، سُئل: "مَن هو أطيب شخص تعاملت معه في جماعة الإخوان المسلمين"، فأجاب: "الأستاذ عمر التلمساني"
ويؤكد أبو الفتوح أن "التلمساني أحدث تطويراً كبيراً في طريقة تفكيرنا نحن الشباب، بما جعل من المستقر في أذهاننا أن التغيير بالقوة هو فكرة ساذجة ولن تأتي بنتيجة، وأن خسائرها أكثر من مكاسبها".
كان التلمساني بطبيعته يكره العنف، ما ساعده في اختيار الطريق الإصلاحي، واستثمر علاقته الجيدة بالسادات ليعيد إصدار مجلة الدعوة الناطقة باسم الإخوان مرة أخرى، بعد توقفها لسنوات، على إثر الصدام مع عبد الناصر.
الإخوان إلى النقابات
وفي ظل مساعي الإخوان للدخول إلى النقابات، استمع التلمساني إلى رأي شاب من الجماعة، هو القيادي السابق مختار نوح، يعرض خلاله تصوراً حركياً يسمح للحركة الإسلامية بعمومها وليس للإخوان فقط بالولوج إلى نقابة المحامين، وكان ذلك حلماً للحركة، وفقاً لما ذكره القيادي المنشق ثروت الخرباوي، في مؤلفه "قلب الإخوان: محاكم تفتيش الجماعة".
وعندما عرض نوح رؤيته التي لم تلقَ قبولاً من كثيرين من أعضاء الجماعة، رد عليه التلمساني بما يخالف قواعد الإخوان المعمول بها سابقاً، قائلاً: "أوافق على هذا التصور، إلا أنني أطلب منك أن يكون صفك باحثاً عن مصالح المحامين قبل غيرهم، ولو كان غيرهم هم الإخوان"، مؤكداً في حديثه له: "إذا أردت أن تسلك طريقاً في الحركة ووجدت معارضة من أحد من الإخوان هدفها توقيفك وإحباطك فاضرب الصفح عنهم، وقل لمَن يعارضك: إنما أفعل ما أمرني به التلمساني".
كان رد التلمساني دليلاً راسخاً على أن الرجل يعرف ما يدور داخل الجماعة جيداً، وبداخله قناعة بأن فكره الرامي إلى بناء تيار ينتشر في أوصال المجتمع، ويضم كل أبناء الحركة الإسلامية دون الالتزام بالانضمام إلى التنظيم، لا يلقى قبولاً من الجميع، خاصة ممَّن ينتمون إلى التيار القطبي المتشدد الذي يريد القبض على عنق الجماعة.
عودة إلى خطايا الماضي
لم تتمكن الجماعة من إكمال ما بدأه التلمساني بعد وفاته، في 22 أيار/ مايو 1986، وعادت مجدداً إلى إرثها السابق عليه، وما فيه من اعتماد على أفكار التيار القطبي أو المحافظ، فتجدد ظهور الخلافات بين أعضائها.
هذا الأمر أشار إليه عزمي بشارة، في مؤلفه "ثورة مصر (الجزء الأول): من جمهورية يوليو إلى ثورة يناير". يقول إنه بعد أن أتاح الانفتاح النسبي فرصة لنمو التيار الإصلاحي الأكثر انفتاحاً على المجتمع وحركته وتياراته السياسية، حدث تراجع عن سياسة الإصلاح، وعاد التيار المحافظ المتشدد إلى العمل للسيطرة على حركة الإخوان المسلمين.
ويُرجع بشارة أسباب ذلك إلى أنه بعد وفاة التلمساني، الذي أفسح المجال أمام التيار الإصلاحي للتعبير عن نفسه، تولى محمد حامد أبو النصر منصب المرشد العام، وحصل في وقت قيادته تحوّل لمصلحة المحافظين، وأكمل المرشد الخامس مأمون الهضيبي عمله في تحديد نفوذ التيار الإصلاحي ودعم المحافظين.
ومع الوقت، خفت نهج التلمساني، وعندما نشبت ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، كان التيار المحافظ قد أحكم سيطرته على التنظيم مرة أخرى، ما أدى إلى حدوث صراعات مع الإصلاحيين الذين تتلمذوا على يد المرشد الثالث، فابتعد كثيرون منهم عن الجماعة، وسلكوا طريقاً مغايراً.
ويرى الدكتور أحمد ربيع غزالي أن فكر التلمساني الإصلاحي منح الإخوان قاعدة شعبية كبيرة، ظهرت عندما اندلعت ثورة يناير، ما مكّنها من الفوز في الإعادة بانتخابات الرئاسة في العام 2012، لكنه يتدارك "أن أئمة الإرشاد في ذلك الوقت كانوا ينتمون إلى الفكر القطبي، وهو الذي تبنى ما زرعه المؤسس من استعلاء على الآخر".
التلمساني صمام الأمان
في مؤلفه "ذكريات لا مذكرات"، يؤكد التلمساني أنه عندما عرض عليه حسن البنا أن يكون وكيلاً للإخوان، رفض ذلك مؤكداً: "لست أهلاً لهذا المكان"، أي أن الرجل لم يكن يطمح إلى الجلوس على كرسي الإرشاد أو يضع في رأسه الدخول في صراعات من أجله.
ولا يوجد دليل على تأثير الرجل أفضل مما ذكره الصحافي الراحل إبراهيم سعدة، في مقال نشره في صحيفة "الأخبار"، يوم رحيل التلمساني، افتتحه بقوله: "مات التلمساني صمام الأمان لـ(جماعة.. وشعب.. ووطن)".
وفي حوار للقيادي المنشق عن الجماعة كمال الهلباوي، سُئل: "مَن هو أطيب شخص تعاملت معه في جماعة الإخوان المسلمين"، فأجاب: "الأستاذ عمر التلمساني، لأنه إنسان متواضع بشوش، محترم، قوي، يئد الفتنة الوطنية، ولم يمل أبداً إلى العنف ولا مرة واحدة في حياته".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...