شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أحداث الخبز... عندما انتفض التونسيون ليحموا قوتَهم اليومي

أحداث الخبز... عندما انتفض التونسيون ليحموا قوتَهم اليومي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الاثنين 12 يونيو 202312:01 م

يُعدّ الخبز قوت الشعب التونسي بمختلف  مشاربه، وبالأخص المواطن "الزوالي"، أي البسيط وضعيف الحال، الذي لا يمكن الاقتراب من لقمة عيشه والمساس بها بالنظر إلى سعرها المنخفض الذي في متناول الجميع، ويبلغ اليوم 200 مليم لخبز الباقات، و250 مليماً للخبز العادي ذي الحجم الكبير.

ويُقبل التونسيون على استهلاك الخبز بكميات كبيرة، وقد أثبتت دراسة إيطالية صادرة في آذار/ مارس 2021، احتلال التونسيين المرتبة الثانية في استهلاك الخبز والمعجنات، وبلغ استهلاك الفرد التونسي قرابة 17 كيلوغراماً سنوياً، وحلّ مباشرةً بعد نظيره الإيطالي الذي يستهلك أكثر من 23 كيلوغراماً سنوياً.

غير أن المتابع للشأن التونسي اليوم، يلاحظ طوابير المواطنين الطويلة أمام المخابز في محاولة للظفر بهذه المادة الأساسية التي صارت نادرة الوجود وارتفع سعرها في بعض المخابز كما في محافظة القيروان (وسط غرب)، إلى دينارَين اثنَين بفعل النقص الكبير في مادتي السميد والطحين، ما أدى إلى تراجع إنتاج الخبز بمختلف أصنافه.

بعيداَ عن كونه مادةً أساسيةً للأكل، ارتبط الخبز في الذاكرة التونسية بالكرامة والنضال، إذ كان حاضراً وبقوة في أحداث ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010، من خلال الشعارات التي رفعها المتظاهرون ضد النظام السابق وعلى رأسها شعار "خبز وماء وبن علي لا".

كما انتشرت وبشكل واسع في مختلف وسائل الإعلام الوطنية والعالمية صور المتظاهرين وهم يرفعون خبزاً بأياديهم في إشارة إلى تردّي أوضاعهم المعيشية والاجتماعية.

أحداث الخبز

في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وخلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، شهدت تونس أحداثاً داميةً تمحورت حول الخبز، حتى سُمّيت بأحداث الخبز وانتفاضة الخبز.

في تشرين الأول/ أكتوبر 1983، أعلن الوزير الأول محمد المزالي، زيادة الأسعار بالتزامن مع إعلانه عن إعداد خطة لحماية الفقراء من الآثار السلبية للزيادات المنتظرة بحلول عام 1984.

ذكرت أستاذة التاريخ المعاصر الراحلة عروسية التركي، في إحدى قراءاتها لأحداث الخبز، أن "وسائل الإعلام التونسية الرسمية وعلى رأسها التلفزيونية عملت على تحسيس الفئات الاجتماعية وتوعيتها وحثها على قبول هذه الزيادات".

أحصى تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سقوط 97 قتيلاً، وأكد أن الجرحى "يُعدّون بالمئات، وأن عدداً منهم أصيبوا بالرصاص في مستوى الصدر والبطن"، ولم تتمكن من إحصائهم

يبدو أن مجهودات هذه الوسائل ومحاولاتها ذهبت سدى، إذ راجت أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1983، خلال مناقشة موازنة السنة الجديدة، أخبار بين المواطنين تفيد بحدوث زيادة مرتقبة نارية في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، وتتعلق أساساً بالخبز.

لم ينتظر الناس إعلاناً رسمياً عن الزيادة للتحرك، إذ بادر سكان مناطق قبلي ودوز والحامة في الجنوب التونسي، منذ 29 كانون الأول/ ديسمبر 1983، إلى التظاهر لتنضم بسرعة مختلف محافظات البلاد إلى هذه المظاهرات التي ازدادت حدتها وشهدت أعمال عنف، خاصةً في العاصمة تونس، عقب إعلان حكومة المزالي رسمياً زيادة سعر الخبز بنسبة 110 في المئة، من 80 مليماً إلى 170 مليماً. كما شملت هذه الزيادات مشتقات الحبوب كالعجين والدقيق والسميد.

الشرارة الأولى

سنة 2015، أصدرت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تقريراً مفصلاً عن أحداث الخبز تضمن تسلسلاً دقيقاً لما جرى.

بحسب التقرير، انطلقت شرارة الاحتجاجات من مدينة دوز في محافظة قبلي، يوم الخميس 29 كانون الأول/ ديسمبر 1983، بعد علم السكان بزيادة سعر مادتي السميد والطحين الأساسيتين، وتجمّع المتظاهرون أمام مقر المعتمدية (حكم محلي)، مطالبين بالرجوع عن الزيادة وقدّموا عريضةً إلى المعتمد تشمل مطالبهم.

في الأثناء، حدثت مشادات بين المتظاهرين وقوات الأمن خلّفت أضراراً في مقر المعتمدية واستعملت خلالها قوات الأمن القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين ثم أطلقت الرصاص فوق رؤوسهم ثم عليهم مخلّفةً عدداً من الجرحى.

مساءً، حدثت حملة اعتقالات واسعة شملت الأوساط النقابية وكل مشتبه بمشاركته في التظاهر أو في التحريض عليه، "وكان نصيب المواطن الذي قدّم العريضة الإهانة والتعذيب والاعتقال في ظروف تشمئز منها الأنفس"، وفق تعبير نص التقرير.

لجوء السلطة إلى الحل الأمني لم يمرّ مرور الكرام، إذ اتسعت رقعة التحركات وردَّ السكان على الفعل باعتصامِ غالبيتهم يوم الجمعة 25 كانون الثاني/ يناير 1983، في منازلهم وأغلق التجار محالهم وتجمّع بعض الشبان في الشوارع ووقعت مشادّات مع قوات الأمن التي أتت كتعزيزات من محافظات أخرى.

ودعماً لأهالي مدينة دوز، خرجت مظاهرة سلمية في مدينة قبلي جاب خلالها السكان شوارع المدينة وأطلقت خلالها قوات الأمن القنابل المسيّلة للدموع لتفريقهم.

بحلول يوم السبت 31 كانون الأول/ ديسمبر 1983، عمّت الانتفاضة المنطقة بكاملها وجُرح 10 أشخاص على الأقل في منطقة سوق الأحد برصاص قوات الأمن من بينهم امرأة مسنّة وقتل الكاتب العام للنقابة المحلية للتعليم الابتدائي نجيب البكري.

أُطلق على تاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1984، اسم "الثلاثاء الحزين"، بإعلان بورقيبة عن "إجراءات أمنية خطيرة مستنداً إلى القانون عدد 4 لسنة 1969"، الذي "يخول لأعوان الأمن استعمال السلاح

كما نُظّمت مظاهرة سلمية جديدة في قبلي، شارك فيها عدد من سكان المناطق القريبة من المدينة لتتحول في ما بعد إلى مناوشات مع قوات الأمن فأصيب العديد من المتظاهرين من بينهم طفلة كانت تبلغ 12 سنةً.

يوم الأحد 1 كانون الثاني/ يناير 1984، التحقت محافظة قفصة المجاورة بركب التحرك الشعبي وشهدت مظاهرةً سلميةً جاب خلالها المتظاهرون أغلب شوارع المدينة مرددين النشيد الوطني "حماة الحمى... إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"، ومطالبين بالرجوع عن قرار الزيادة في الأسعار.

يلاحظ تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أنه لم يسجَّل في أثناء هذه المظاهرة أي عنف أو أي شعار مناوئ للنظام، فيما تلتها حملة اعتقالات وتم إغلاق المعاهد (الثانويات) والإدارات.

يشير التقرير إلى أن وقائع شبيهةً شهدتها محافظات أخرى مثل قابس والقصرين مستغرباً "التزام وسائل الإعلام اليومية الصمت الذي كاد يكون كلياً حول هذه الأحداث واستمرارها في ترديد الشعارات الدعائية المعتادة طوال هذه الأيام".

يوم 2 كانون الثاني/ يناير 1984، أصدرت وزارة الداخلية بلاغاً رسمياً وصفت فيه الانتفاضة الشعبية بأحداث شغب والمواطنين المتظاهرين بالمفسدين والمتطفلين والمناوئين، من دون الإشارة ولو تلميحاً إلى أسباب هذه الأحداث.

ويرى تقرير الرابطة أن استعمال الرصاص ضد المواطنين والقتل والجرح وحملات الاعتقال، أشعلت فتيل الأزمة وأنه "لو أدت وسائل الإعلام واجبها في تغطية هذه الأحداث بصدق و نزاهة ولو نقلت تصريحات المتظاهرين ليشرحوا أسباب غضبهم ويقدّموا مطالبهم عوض السكوت عن مطالبهم لأخذت المشكلة منذ البداية طابعها الصحيح أي طابعها السياسي".

"ارتفاع حدة المظاهرات"

ارتفعت حدة المظاهرات واتسمت بالعنف وأعمال النهب والحرق ابتداء من 2 كانون الثاني/ يناير 1984، وخاصةً يوم 3 كانون الثاني/ يناير، حيث ردت قوات الأمن "بعنف أكبر" واتسع مجال التحركات وشمل غالبية مناطق البلاد بما فيها المناطق الكبرى كقابس وصفاقس والعاصمة تونس.

تفيد أستاذة التاريخ المعاصر الراحلة عروسية التركي، في قراءتها لأحداث الخبز، بأنه أُطلق على تاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 1984، اسم "الثلاثاء الحزين"، بإعلان بورقيبة عن "إجراءات أمنية خطيرة مستنداً إلى القانون عدد 4 لسنة 1969"، الذي "يخول لأعوان الأمن استعمال السلاح ضد كل شخص مشبوه فيه لم يمتثل لأمر الوقوف"، ما أدى إلى سقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح.

أما يوما 4 و5 كانون الثاني/ يناير 1984، فلم يسجلا، بحسب تقرير الرابطة، مظاهرات كبيرةً وأعمال عنف تُذكر من طرف "المتظاهرين القلائل"، بينما "زاد سلوك قوات الأمن تصلباً ويمكن القول بأنها أصبحت لا تتحكم في أعصابها في بعض الأحيان وسرعان ما تطلق النار ولو من دون أي موجب".

جاءت أحداث الخبز بسبب الظرفية السياسية الصعبة نتيجة تقدّم الحبيب بورقيبة في السنّ وعجز السلطة عن إدارة البلاد وإيجاد الحلول

أحصى تقرير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سقوط 97 قتيلاً، وأكد أن الجرحى "يُعدّون بالمئات، وأن عدداً منهم أصيبوا بالرصاص في مستوى الصدر والبطن"، ولم تتمكن من إحصائهم.

وخلص إلى "أن الرفع من سعر مشتقات الحبوب والخبز بصورة خاصة بنسبة فادحة، كان سبباً في خروج المواطن ضعيف الحال إلى الشارع بهدف التعبير عن رفضه لهذه التدابير".

وأكد التقرير أنه "كان بالإمكان تفادي إطلاق رجال الأمن الرصاص على المتظاهرين في أغلب الأحيان باللجوء إلى الوسائل السلمية والقانونية، علماً بأن قانون 24 كانون الثاني/ يناير 1969، المتعلق بالمظاهرات، يفرض على أعوان الأمن توجيه الإنذار إلى المتظاهرين بواسطة مضخمات الصوت".

كما ينص فصله الـ21، على أن يتمّ "عند عدم تفرّق المتظاهرين، التدرج في استعمال طرق تشتيتهم كالرش بالماء أو المطاردة بالعصي والرمي بالقنابل المسيلة للدموع وإطلاق النار عمودياً في الفضاء لتخويف المتظاهرين وإطلاق النار فوق رؤوسهم وصوب أرجلهم".

"ظرفية متأزمة"

يوضح المؤرخ التونسي محمد ذويب، أن أحداث الخبز "جاءت في ظرفية اقتصادية واجتماعية متأزمة ناتجة عن غلاء الأسعار وفقدان المواد الأساسية وانتشار البطالة والفقر بشكا خاص نتيجة تأزم العلاقة مع ليبيا وعودة عشرات الآلاف من العاملين من مختلف القطاعات من هناك، وعجز الدولة عن استيعابهم".

كما يشير إلى دور "الظرفية السياسية الصعبة نتيجة تقدّم الحبيب بورقيبة في السنّ وعجز السلطة عن إدارة البلاد وإيجاد الحلول".

ويقول ذويب لرصيف22، إن "الحراك انطلق من محافظة قبلي ثم انتشر في بعض المحافظات التونسية الأخرى وكان مؤثراً أكثر بوصوله إلى تونس العاصمة، وقد قاده العاطلون عن العمل وبعض النقابيين خاصةً الأساتذة والمعلمين".

ويضيف ذويب أن بداية الحراك كانت عفويةً، ولكن انتشرت بقوة أكثر في ما بعد وأصبحت مؤطرةً أكثر ورفعت شعارات تطالب بإلغاء الزيادة في سعر الخبز.

تراجع عن رفع الأسعار

بعد سقوط مئات الضحايا بين قتلى وجرحى، أعلنت وسائل الإعلام الرسمية يوم الجمعة 6 كانون الثاني يناير 1984، عن كلمة مرتقبة لرئيس الدولة الحبيب بورقيبة موجهة إلى الشعب التونسي.

وأعلن بورقيبة في كلمته المسجلة عن قراره إلغاء زيادة الأسعار والعودة إلى الوضع السالف قبلها قائلاً: "نرجعو وين كنا" (نعود أينما كنا)، ومؤكداً أنه "لم يوافق على الزيادات إلا عندما قيل له بأن الخبز أضحى يُعطى علفاً للبقر ويُلقى في صناديق القمامة".

بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة اليوم في تونس، من فقدان المواد الاستهلاكية الأساسية والارتفاع غير المسبوق في الأسعار، يرى المؤرخ محمد ذويب أن أهم العِبَر المستخلصة من أحداث الخبز هي أن الشعب التونسي "يثور في كل مرة ابتداءً من المناطق الداخلية ثم تقوى الحركة أكثر فأكثر بوصولها إلى تونس العاصمة، ولكن في الأخير لا يجني أي شيء تقريباً".

فهل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه؟ لا يتصور ذويب أن تُعاد أحداث الخبز اليوم، لأن "التونسيين ثاروا في 2011، وخسروا أكثر مما ربحوا، خاصةً على مستوى ارتفاع كلفة المعيشة، كما أن الوضع الحالي بعيد كل البعد عن سنة 1984، لأن الدولة اليوم أقوى بكثير والسلطة أيضاً، إلى جانب غياب أي معارضة على الساحة اليوم بإمكانها إعادة سيناريو تلك الأحداث"، حسب تقديره. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image