إن كنت شاباً/ة عربياً/ة مولوداً في أواخر الثمانينيات وتحديداً في سوريا، مثلي أنا، فمن المُرجّح أنك الآن تقف/ين ذاهلاً/ة في مكانٍ ما من هذا العالم، مفكّراً/ة بالمسار الذي اتخذته حياتك، مرتعباً/ة مما قد يأتي. للحقيقة أنت شهدت حياةً حافلة بالمصائب والأحداث المحوريّة، تعال/ي نستذكرها سوياً.
حقبة الأسنان اللبنية
ولدت وعشت سنوات حياتك الأولى، وهي سنوات غالباً لا تعيها/تعينها، إثر أحداث الثمانينيات في حماة وبالتزامن مع نهايات الحرب الأهلية اللبنانية وذكرى الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ضمن عائلة تأثرت اقتصادياً بالكساد والعقوبات الاقتصادية، وقد تكون/ين كبرت وأنت تسمع/ين حكايات والديك عن صعوبة تأمين بعض المستلزمات التي جُلبت مهربةً من لبنان، بينما بدأت رسوماتك الأولى بحرب الخليج الثانية عام 1990 وانتهت بحقبة الحرب الباردة.
إن كنت شاباً/ة عربياً/ة مولوداً/ة في أواخر الثمانينيات وتحديداً في سوريا، مثلي أنا، فمن المُرجّح أنك الآن تقف/ين ذاهلاً/ة في مكانٍ ما من هذا العالم، مفكّراً/ة بالمسار الذي اتخذته حياتك
من المرجح جداً أنك عشت طفولتك في منازل تضج بنشرات الأخبار التي شاهدت فيها الكثير من الصور المروّعة، خاصةً وأن مشاهد قاسية من الاجتياحات والمجازر الإسرائيلية التي سبقت ولادتك ومهّدت لها، ظلّت تتكرر دون انقطاع كخلفية كئيبة لسنوات حياتك الأولى. تعذّرت حمايتك من قسوة الصور. توجّب أن تعرف/ي ما يحدث حولك كي تكون/ي مستعداً/ة لما يأتي. كل ذلك جعل منك دون أن تدري ربما طفلاً/ة منخرطاً/ة في السياسة، لا يستطيع/تستطيع استذكار طفولته/ا بمعزلٍ عنها. ربما اعتبرت إسرائيل عدوك الشخصي، وآرييل شارون وحش طفولتك.
السنوات التي تلت تبديل أسنانك اللبنية واختبارك الحصبة حملت لك ذكريات جديدة؛ كأن تشاهد/ين الفترة المسائية لبرامج الأطفال على القناة السورية، وترسل/ين رسالة إلى بريد الأطفال. في 1998 اعتقد بأنك حفظت عن غيب أغنية "الحلم العربي" وردّدتها مع أصدقائك في الباحة أو المنزل، محاولاً/ة قدر الإمكان إغماض عينيك كي لا ترى/ي الصور القاسية التي يتضمنها كليب الأغنية، وراغباً/ة في ذات الوقت برؤيتها.
الاحتفال برأس السنة
بعد ذلك ربّما تستذكر/ين مثلاً ليلة الاحتفال بعام 2000 وكل تلك الشائعات التي تداولت عن اقتراب نهاية العالم. وربما تذكر/ين أيضاً كيف اعتدت بعدها تذيّل صفحات دفاترك برقمٍ جديد بدلاً من (..199). لكن العام لن يمرّ دون خسارات لأن انتفاضة الأقصى الثانية اندلعت عام 2000، وفيها ستتعرف/ين على طفلٍ يقاربك في العمر يختبئ وراء جسد والده في مواجهة الجنود الإسرائيليين الذين يقتلونه بالرصاص. كانت تلك ربما المرة الأولى التي تشاهد/ين فيها توثيقاً لفعل القتل بينما يحدث، لتعرف/ي في ما بعد بأن الطفل اسمه محمد الدرة.
بوصولك إلى هذه المرحلة من حياتك ستكون/ين قد صارعت مع الكثير من الكوابيس، وشكلت تلك القناعة بأن العالم متصل بصورة لا يمكن فهمها؛ فما يحدث في أماكن قصيّة عنك سيؤثر عليك بصورة قد لا تفهمها/ينها. تترسخ تلك القناعة بينما تشاهد/ين صورة برجي التجارة العالميين يسقطان إثر هجمات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، وهو حدث ستدفع/ين ثمنه من جيبك الخاص طوال سنوات مقبلة.
حقبة حَبّ الشباب
في عام 2002 سينهار سد زيزون مخلفاً وراءه آلاف المشردين في الشمال السوري، وفي عام 2003 وبينما تصارع/ين حَبَّ الشباب الذي بدأ يغزو وجهك، ستجد/ين نفسك متسمراً/ة أمام شاشات التلفاز لتتابع/ي وقائع صمود بغداد أمام الاحتلال الأمريكي. أرجّح أنك تمنيّت أن تصمد بغداد، وهو أمرٌ بالطبع لم يحدث. تلك كانت ربما ذكرى حاسمة مع السياسي "الكذّاب"؛ فأنت ربما شاهدت محمد سعيد الصحاف وزير الخارجية العراقي الذي ظل يصف الجنود الأمريكيين بـ"العلوج" ويؤكد بأن بغداد لم تسقط لتشعر/ي مثل البقيّة بأنه كذب عليك شخصياً.
في ذلك الوقت ربما لم تدرك/ي أنك وأبناء جيلك بتّم تعرفون عن العولمة وتجلياتها أكثر بكثير مما يعرف من هم في مثل عمركم في بقاع أخرى من العالم، حتى وإن بدت كلمة "عولمة" في ذلك الوقت معقدة وغير مفهومة.
كل ذلك جعل منك دون أن تدري ربما طفلاً/ة منخرطاً/ة في السياسة، لا يستطيع/تستطيع استذكار طفولته/ا بمعزلٍ عنها. ربما اعتبرت إسرائيل عدوك الشخصي وآرييل شارون وحش طفولتك.
للمفارقة ستمسي/ن أنت لقمة سائغة للعولمة بالتزامن مع انتشار المحطات الفضائية وتأسيس شبكة قنوات "ميلودي" المصرية التي ستُدخل إلى عالمك موسيقى البوب والراب والميتل، لتمتلئ غرفتك ربما بصور لـ"Eminem" الذي أذهلك لأنه ألّف أغنيّة يسب أمّه فيها على الملأ، وهو أمر لم تتصوره/يه ممكناً.
بعد ذلك وفي عام 2005 ستسمع/ين عن انفجار كبير حدث في لبنان راح ضحيته وزير الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وكالعادة وبينما تشاهد/ين اللقطات الأولى لم تدرك/ي حجم الحدث أو تداعياته على حياتك الشخصية، وهذا ما سيأتي لاحقاً.
في صيف 2006 الذي كنت فيه تكمل/ين إجازتك الصيفية متهيئاً/ة لدخول الجامعة قريباً، ستحدث حرب تموز/يوليو التي تتزامن مع كأس العالم الذي تفوز فيه إيطاليا على فرنسا. ستحمل/ين من ذلك العام أيضاً ذكريات عن حادثة اغتصاب خمسة جنود أمريكيين لطفلة عراقية لم تتجاوز الـ14 من عمرها.
حفل التخرّج
ربما حملت من عام 2008 مشهد منتظر الزيدي الذي قذف جورج بوش بحذائه في مؤتمر صحافي كلحظة انتصار صغيرة. في تلك الأثناء ستعطيك الحياة استراحة قصيرة تحتفل/ين فيها بدمشق عاصمة الثقافة، وتنهي/ين فيها قضايا عالقة كأن تتخرج/ين من الجامعة وتبدأ/ين بحثاً غير مجدٍ عن العمل. لكنك وبينما تفعل/ين ذلك تدرك/ين بأنك تعيش/ين في بلادٍ تضيق الحياة عليك بكل طريقة ممكنة وتعاقبك لأسبابٍ لا تفهمها/ينها برغم أنك كنت حتى الآن شخصاً مطيعاً.
في 17 كانون الأول/ديسمبر من عام 2010 سيضرم البوعزيزي النار في جسده احتجاجاً على مصادرة السلطات لعربة كان يبيع عليها الخضار والفواكه. بدءاً من ذلك التاريخ لن تحتاج/ي لإنعاش ذاكرتك فأنت تعرف/ين البقيّة، لأنك بتّ الحدث.
الأزهار لا تنمو
في ما بعد حقبة كورونا، قد تكون/ين أنت مثلي الآن، جالساً/ة بعد أيام من الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط/فبراير 2023 تشعر/ين بالكثير من التعب والخوف، تتساءل/ين إن كان هذا الخراب سينتهي يوماً، فنحن، أنا وأنت، أشبه بقطراميز مرصوص من "الترومات".
هل بتّ متطرفاً/ة أم لا مبالياً/ة؟ هل هاجرت أم بقيت؟ هل وجدت يوماً ملجأ من كل هذا؟ وحينما يسألونك عن ذكرياتك في سوريا والشرق الأوسط، ماذا تقول/ين؟
أنت مثلي ربما منهك/ة، مريضٌ/ة بالقلق الهائم كما يسمونه؛ تقلق/ين من ظرفٍ اقتصادي غير مستقر، تواجه/ين قلق الموت والقلق الصحي، وحينما لا تقلق/ين من كل ذلك تصارع/ين مع العلاقات العاطفية والمرض النفسي والوحدة وفقدان المعنى. خلال كل تلك السنوات ربما جربت الهرب بأساليب مختلفة. هل جربت الكحول؟ المخدرات؟ التجأت للدّين؟ هل بتّ متطرفاً/ة أم لا مبالياً/ة؟ هل هاجرت أم بقيت؟ هل وجدت يوماً ملجأ من كل هذا؟ وحينما يسألونك عن ذكرياتك في سوريا والشرق الأوسط، ماذا تقول/ين؟
في المرافعة التي قدمها الكاتب السوري ممدوح عدوان عام 1983 أمام محكمة العدل الدولية ليدين فيها اجتياح إسرائيل للبنان، قال بأنه وقبل مثوله أمام المحكمة ألقى نظرة على نتاجه الشعري الذي بلغ ثمانية دواوين ليكتشف وهو في الاثنين والأربعين من العمر بأنه أفنى حياته يكتب المآسي والمرثيات، وأن نتاجه الشعري لا يتضمن سوى 3 قصائد عن الحب. يضيف عدوان بأنه غير نادم على ما كتب، ويستشهد بكلام لبريخت الذي قال: "إنها لجريمة أن تتحدث عن الأزهار الجميلة حين يكون هناك بشرٌ يقتلون". شهادة ممدوح عدوان كتبت قبل خمس سنوات من ولادتي/ولادتنا، وحتى الآن لم نمتلك لحظة صفاء نلقي فيها نظرة إلى الأزهار التي نمت في بلادنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...