شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أنا لست قلقة، القلق يقف على وجهي كنظارة

أنا لست قلقة، القلق يقف على وجهي كنظارة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 13 مايو 202312:28 م

الخائف


 

قد أكون مشاكلي العائلية والمدرسية، قد أكون خوفي وقلقي و صخبي وهدوئي، أو موسيقاي وأغنياتي ومسرحياتي التي لم تنفذ بعد، أو لربما أنا هالاتي السوداء وشعري المتقصف، أو أنني نظّاراتي الطبية و دموعي وابتساماتي، أنا كل "لا" قلتها وكل بسمة رسمها فمي وكل خطوة مشيتها، ولربما أنا الخجل والخذلان واليأس والبدء من جديد، و أنا من أمقت النمطية والمنافسات المفروضة والواجبات الاجتماعية التي تتطلب شدّاً دائماً للأحزمة في علاقاتنا، ولربما أنا مزيج من كل هذه الأشياء، مزيج يسري في عروق جسد وروح واحدة تنهك صاحبتها.

كانت الجلسة السردية الأخيرة مع معالجتي النفسية في محافظتي قبل ما يقارب الشهرين، والسرد هو الطريقة التي اتّبعتها المعالجة مع حالتي، و أظنّ أنّني ممتنة كل الامتنان لهذه الطريقة التي جعلتني أشعر بنوع من الاكتفاء و محاولة الانتصار على سباق الوقت في العيادة النفسية.

 في تقنية "السرد والتعرّض" أسرد لمعالجتي النفسية أحداث حياتي منذ سنيني الأولى حتّى سنتي الحالية، مستخدمة رمز الحجر للذكريات السيئة، والزهر للجيدة منها.

تحاول المعالجة أن تعرّضني للأحداث فأُشفى من السيء منها، مستذكرة بما شعرتُ أثناء الحدث، وبما أشعر في اللحظة الحالية، مرّ أمامي شريط حياتي بطولِ عشرين سنة، وأيقنت أنني فعلاً، لمدّة عشرين عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظار والقلق.

القلق رفيقي اللدود، شعلة تسري في عروقي منذ الطفولة، لعنة تتربص بي كظلي، تتكلم عني وتصمت عني، تقتحم هدوئي كما صخبي، تشاركني مقعد الحافلة وتتخذ الحيز الأكبر، تفتك بقيلولتي وكتبي وموسيقاي وتحجز عيني عن النوم، وحتى لو سمحت لهما ببعض منه ، تتغلغل في أحلامي ثم تعود لتوقظني صباحاً.

وبما انني اقتربت من عامي الواحد والعشرين والقلق لم يتركني وشأني بعد، لا بد أن يجعل أسئلة معينة تنهش عقلي، كتساؤل ما الذي يجعلني أشعر بمضي العمر، هل اللحظات الجميلة أم البغيضة أم اللحظات التي كنت فيها على حقيقتي، وما الذي يحدد عمر المرء وهويته؟

قد أكون خوفي وقلقي و صخبي وهدوئي، أو لربما أنا هالاتي السوداء وشعري المتقصّف، أو أنني نظّاراتي الطبية و دموعي وابتساماتي. أنا كل "لا" قلتها وكل بسمة رسمها فمي وكل خطوة مشيتها... مجاز

 منذ اليوم الأول لي في العالم الخارجي ألا وهو المدرسة والقلق يرافقني، كان يظهر على شكل نوبات بكاء كل يوم صباحاً قبل الذهاب للمدرسة وبعدها خوف  من اليوم التالي، بالإضافة إلى ألم في البطن لا ينتهي. لم أكن أعرف مصدر قلقي هذا، أو بالأحرى خوفي. إنها كابوسي الذي لم يفارقني للحظة آنذاك.

المرة وحيدة التي لم أبك فيها صباحاً قبل الذهاب للمدرسة ، حين  قررت من اليوم السابق أن أخفي حقيبتي عن الأنظار كي أستطيع التغيب عن الدوام، وللأسف وجدتها أمي في اللحظة الأخيرة، ووضعت تحت صدمة أنني لن أتغيب اليوم عن المدرسة.

ما يتغلغل بذاكرتي اليوم هو التأنيبات من أفراد عائلتي جراء قلقي هذا، لم يعرف أحد منهما كيفية التعامل مع القلق أو إنقاذي منه بإحدى الطرق، بل كانت أمي تقاطعني لأسابيع إن رأتني أبكي أو رأتني خائفة، ما جعلني أضطر في بعض الأحيان لكبت هذا الخوف بطريقة مؤلمة أكثر من القلق بحد ذاته.

كبرت، وبدأ قلق المدرسة يقل تدريجياً، لكن قلق الالتزام وأداء الواجبات على نحو مثالي ظل يؤرقني، عززته التوقعات المثالية مني من قبل من حولي، وصار القلق يتخذ أشكالاً  جديدة خلال تشكل شخصيتي، كقلقي من انزعاج أي شخص مني في محيطي الخارجي، لدرجة أنني كنت أتغاضى عن معظم حقوقي في علاقتي مع الآخرين كيلا ينزعجوا مني أو يفكروا بطريقة سلبية ناحيتي.

كان القلق خليلي الذي يوقد نار المعارك الداخلية وجلد الذات في داخلي، وبدأ قلق التفاصيل يعلن بداية مسيرته حتى صرت أراجع في عقلي كل حركة وتصرّف قمت به، كل كلمة قلتها وكل لحظة سكوت في غير محلها.

أقلق من أنني غير كافية للشخص الآخر، أقلق من أنني لا أحمل في جعبتي إلا المشاكل العائلية والأمور السلبية ولا أقدم للآخر أي شيء جديد،  أقلق من الأفكار بحد ذاتها، حتى صار القلق كاسمي، لا يفارقني.

اليوم بتُّ أعرف لمَ تناقضي، ولمَ قلقي، بتُّ أعرف لم لست مرحة بطبعي، بت أعرف لم لا أتكلم، ولم عندما أتكلم في حالات نادرة لا أستطيع السكوت. لم أحب الصور الجماعية ولم أشتاق للصيف، بت أعرف لمَ أخفي بركاني الداخلي بابتسامة، ولم التغيير هدفي. ولكن أيضاً هناك الكثير من "اللاأعرف" تعترض طريقي.

القلق رفيقي اللدود، شعلة تسري في عروقي منذ الطفولة، لعنة تتربص بي كظلي، تتكلم عني وتصمت عني، تقتحم هدوئي كما صخبي، تشاركني مقعد الحافلة وتتخذ الحيز الأكبر، تفتك بقيلولتي وكتبي وموسيقاي وتحجز عيني عن النوم... مجاز

لا أعرف التواصل مع الآخرين، لا أعرف إن كان هناك من سيشعر بما أشعر أو يفكر بما أفكر  في اللحظة التي أتواصل فيها معه دون تقييم، سئمت ندرة المستمعين الحقيقيين، سئمت استحالة التواصل.

لا أعرف أهمية الحوار في الحياة، أحياناً الصمت لغة استثنائية، وقد تصدعت رؤوسنا من الكلام. لا أعرف لم علينا السير ضمن القطيع، كدت أختنق من التدافع، بعض التجمعات غير مريحة مطلقاً.

 لا أعرف التصرف في المواقف الاجتماعية، أنسى الأسماء وأجمع الوجوه المتشابهة لأظنها شخصاً واحداً.

 لا أعرف الغناء بحبال صوتية متماسكة، كيف لا أناقض ذاتي وكيف لا أقلق، لقد جربت عدة وصفات ونادراً ما كانت تنفع.

لا أعرف سبب وجود "خزعبلة الواجب الاجتماعي"، أكره إيفاء الديون بهذا القالب مع من أحبهم.

لا أعرف لم المنافسات، الروتينية أو الشريفة منها، لا أعرف لم علينا القيام بشد دائم للأحزمة في علاقاتنا الإنسانية، أرى منافسة ذاتنا القديمة أولى بالاهتمام.

لا أعرف لم التوقعات، لم التقييمات، لم الأحكام المسبقة.. تبرئي منها لن يلغيها، لكنني لم أعد أهتم، بل تمرّ لحظات أشعر فيها أنني لا أعرف سوى أن هناك الكثير منا يسكن في مكان أشبه بأغنية، أغنية لم تغنّ بعد، لربّما ستُعزَف موسيقاها، لكنّها لن تغنى، إذ إنّ الكلمات لا تقول كل شيء، وهذا لا يعني أننا لن نعيش لنتمتع باللحن.

اليوم، وفي عامي الواحد والعشرين، أعيش مترقبة موعد كل جلسة علاجية، وما زلت أحترف الحزن والانتظار لكن بنسب أقل مما سبق، أرمّم ما أستطيع ترميمه بمساعدة الأخصائية النفسية كي أجيد التعامل مع قلقي، أقيم تمارين تنفس تفريغي، أشرب الماء، أمضغ علكة خلال نوبات القلق، علّني أتحايل عليه أو أتناساه، أنجح مرة، وأفشل مرات، و أتوق لأقضي نهاراً في حياتي دونه، عله يتركني أعيش بحرية.

أنا اليوم أصحو و أغادر سريري بصعوبة،  أتعلم، أستمع لموسيقاي وأشاهد الدراما المفضلة لدي، أطبخ لنفسي الطبخات الثلاث التي أعرفها بشكل روتيني، وأغادر منطقة الراحة بتجارب متواضعة، أخاف، أحزن، أفرح، أُحاول أن أعدّ من الصفر حتى الواحد و العشرين، دون أن أبكي، وأحاول مصالحة نفسي متعهدة لها بألا أموت إلا وأنا مستمتعة باللحظة التي أعيشها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image