أنا السوري الوحيد هنا، بين 40 أوروبياً أتينا إلى بولندا لحضور تدريب حول الصحافة والأخبار المزيفة أعدته منظمة Erasmus.
لسعة الصقيع الأولى لم تكن عند الوصول إلى تلك المدينة الجبلية الباردة في بولندا Milkow لكنها بدأت منذ لقاء بعض الزملاء في بودابست قبل الصعود بالحافلة، مع أول سؤال تردد إلى مسمعي:
“?Where are you from”
كانت برودة من نوع آخر، تنخر في العظم، لكنها ليست بفعل الطبيعة، ولا يتحمل الخجل من سوريتي مسؤوليتها، إلا أنها برودة سامة عمرها الزمني ثوان معدودة، تتبدد بعد تلقي ردة الفعل الأولى للشخص الذي يسأل ويسمع إجابة: "I am From Syria"... سحقاً لهذا الاختبار الذي سأخوضه 40 مرة!
"I am From Syria"... سحقاً لهذا الاختبار الذي سأخوضه 40 مرة!
أما ردات الفعل فتتنوع بين الريبة والتعاطف والحسرة والفضول، والأصعب تلك النظرة التي تفشل في إخفاء أحاسيس الفزع والصدمة.
هناك رد فعل أكثر مقتاً، يتجلى بنظرة أو حركة ساذجة يحاول صاحبها التظاهر بأن الأمر عادي، لكنه لا ينجح في إخفاء انسحابه من المحادثة تحت وطأة الصدمة ووقع الكلمة.
الحرب تلد نُخباً أيضاً
معظمهم أتوا من بلاد لم تستقبل لاجئين، وبالتالي لم يختبروا حقيقية أن السوري والعراقي واليمني لديهم الطبيب والمهندس والصحافي والمبدع، وليس لديهم تجارب تسحق تلك الصورة النمطية الوضيعة عن أولاد الحروب.
التحديات كثيرة في التسعة أيام القادمة، سأمثل بلداً لم يسمع معظم المشاركين عنه سوى أخبار الحرب والقتل والأزمات!
سأبذل ما بوسعي - بإنجليزيتي المتواضعة - كي أنسف تلك الصورة السوداوية في أذهانهم عن سورية والسوريين.
سأزخر جعبتي بالماضي الجميل لتصدير صورة سورية الحضارة والتاريخ والتنوع والإرث.
سأمثل بلداً لم يسمع معظم المشاركين عنه سوى أخبار الحرب والقتل والأزمات! سأبذل ما بوسعي - بإنجليزيتي المتواضعة - كي أنسف الصورة السوداوية في أذهانهم عن سورية والسوريين
أي مهمة شاقة تلك تركها لي من أوصل البلاد وأبناءها إلى هذه التخمة من صور البؤس والسوداوية؟
الحوارات السياسية كانت الامتحان الأصعب، كيف لا وحتى السوري ابن البلد إلى اليوم يتشتت في فهم ما يحصل، ويتوه بين الروايات المتضاربة لتفنيد ما حصل هنا وهناك، ومن المسؤول عن هذا الحادث أو ذاك…
كيف سأشرح لأوروبي عن شعب كان يعيش لمئات السنين في تناغم وتعايش، تحول خلال بضعة أعوام لضحية شرخ طائفي وسياسي مد شروشه إلى داخل الأسرة الواحدة في بعض الأحيان.
حتى لو أسعفتني اللغة، لن تقوى تلافيف دماغ هؤلاء اليافعين على فهم متلازمة الطائفية التي ترعرعت بيننا لسنوات وظلت مقبورة تحت شاهدة الخوف والترهيب، ثم تفجرت مع أول رصاصة للحرب.
بمجرد النظر إلى القوائم العمرية للمشاركين، أجد نفسي فائزاً بهذه الفرصة في الثلاثين، في الوقت الذي يظفر بها أوروبي في عامه العشرين، ليس لأنه الأكفأ، بل لأنه ليس شرق أوسطياً قسمت الحرب ظهر طموحه.
يدخل مشارك من طاجكستان على خط أحد النقاشات، ليسعفني ويقدم محاكاة لما جرى في بلاده في الحرب الأهلية الطاجيكية بداية التسعينيات والتي بدأت في مظاهرات مطالبة باستقالة السكرتير الأول في الحزب الشيوعي الطاجيكي وسرعان ما تحولت إلى حرب طائفية في البلاد.
"هل ذلك ما حدث في سورية؟". يسأل برتغالي آخر، فأجيبه: "إلى حد ما يشبهه، لكنه أكثر تعقيداً…"
يشعرون بتخمة التفاصيل وعجزي عن شرحها، فينصرفون للسؤال الكلاسيكي: "وكيف الوضع الآن… الحرب انتهت صحيح؟".
الإجابات هنا أسهل، يمكن تلخيصها بعبارة السوريين يعانون من الفقر ومن نقص كل الخدمات بسبب الحرب.
وتنتهي المحادثة هنا بابتسامة حسرة وحزن.
استعارة الكباب
في كل ليلة يطلب من مشارك ما تقديم عرض توضيحي عن بلده وحضارتها وأطباقها وعاداتها، وهي خبرة أتقنتها بعد عام ونصف في أوروبا نتيجة كثرة المناسبات التي تطلبت القيام بهذا الأمر.
أبدأ الحديث عن دمشق أقدم عاصمة في التاريخ، ثم عن الحضارة والتنوع في المحافظات السورية، وعن المطبخ الشرقي الذي يحجز لنفسه مركزاً مرموقاً بين مطابخ العالم. فجميعهم يعرفون الكباب العربي المنشأ.
حمداً لله لم يكن هناك عراقيون أو إيرانون في التدريب لكانت ستندلع معركة حول الأحقية بتبني الكباب، ذلك الجدل البيزنطي الذي يدور بين الحين والآخر. حلبيًّاً كان أم كربلائياً أو فارسياً، المهم أنهم يحبونه ويصنعونه في بلادهم… لذلك قمت بإعداده وقدمته لهم على الطريقة السورية، وكان الثناء طاغياً بشكل يوازي كم الدهن المتسرب من لحم الكباب الطازج.
كان الذهول العلامة المشتركة المرسومة على وجوه الجميع، كل يسأل نفسه في داخله، كيف لهذه الأرض أن تستضيف أشنع حرب في التاريخ المعاصر؟
"هل بإمكاننا زيارتها حقاً؟" سؤال لم يكن مجاملاً بعد الدعوة لزيارة سورية! رأيت في عيون سائليه شغفاً ونهماً لرؤية مزيج فريد بين الحضارة والجمال من جهة ومخلفات الحرب على اختلافها من جهة أخرى.
بالتأكيد بإمكانكم زيارة سورية، فما زال في جعبتها الكثير من الجمال لتقدمه لكم. على اعتبار أنكم سائحون ولستم سوريين!
أجيب:"بالتأكيد بإمكانكم زيارة سورية، فما زال في جعبتها الكثير من الجمال لتقدمه لكم. على اعتبار أنكم سائحون ولستم سوريين!".
دعكم من أقلامنا
في كل جولات التدريب حول الإعلام والصحافة التي جرت، كان الكل يستشهد بخبرات بلاده وتجارب حية لقصص جرت في وسائلهم الإعلامية.
أما بالنسبة لي، فشعرت بالفقر المدقع! لدي باع في العمل الصحافي في سورية عمره 12 عاماً، وقد صنع الصحافيون السوريون موادَّ إعلامية نافست في المحافل الدولية، والبعض أنتج إبداعاً بقي رهين القطيعة الدولية لكل ما يكتب ويذاع من الداخل السوري.
لكن كل ذلك لا يرتقي لمستوى الحد الأدنى للإعلام في بلادهم، والتجارب الفردية السورية التي حجزت لنفسها مكاناً في فهارس الإبداع والتميز ضاعت في خضم التصور المجمل الرديء عن صحافتنا، وربما وأدتها إحصائيات حرية التعبير التي تحشرنا كل عام في ذيل القوائم.
لأنني عربي
كانت تجربة غنية لم يفسد بريقها كم التحديات السابقة التي رتبها جواز سفري السوري، إلا أن الحسرة تبقى سيدة الموقف، فبمجرد النظر إلى القوائم العمرية للمشاركين، أجد نفسي فائزاً بهذه الفرصة في الثلاثين، في الوقت الذي يظفر بها أوروبي في عامه العشرين، ليس لأنه الأكفأ، بل لأنه ليس شرق أوسطياً قسمت الحرب ظهر طموحه، وجعلته متأخراً عن باقي سكان الأرض لسنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون