شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
قد تعود الأوطان، ولكن من يعيد الروح؟

قد تعود الأوطان، ولكن من يعيد الروح؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الخميس 11 مايو 202311:31 ص

استيقظنا صباحاً قبل عادتنا في يوم العطلة؛ إنه السبت وبرد كانون القارس الذي لم يؤثر على نشاطنا ذلك اليوم. بدأت تانيا أعمالها المنزلية وتجهيز البيت لاستقبال الضيوف، وريان لا يخفي فرحته, وشام التي بدأت خطواتها الأولى. "ستُفاجأُ أمي عندما ترى شام تمشي"، هكذا قالت تانيا.

إنه اليوم المنتظر لوصول عمي "أبو وسام" وعائلته، وكانو قد خرجوا صباحاً من حلب، بحسب آخر اتصال بيننا. أوقدنا "بابور" الغاز لتجهيز طبخة تليق بحضورهم، حيث من المتوقع وصولهم ظهراً.

استشهاد أم وسام وما تلاه

انقطع الاتصال مع بيت عمي، فأدركنا أنهم أصبحوا على أوتوستراد حلب–دمشق، حيث الاتصالات مقطوعة عنه.

بلغْنا المساء وعبثاً نحاول التواصل معهم، وبدأ القلق يتوجّسنا نظراً لخطورة الطريق. حلّ الليل وليل كانون طويل، بل كان ذلك اليوم دهراً. ثلاثة أيام مضت. إنه أطول وأصعب انتظار عشناه في حياتنا، وكل الاحتمالات مفتوحةٌ. انتظار قد يؤدي إلى انهيار عصبيّ لحجم الهواجس التي يمكن أن تتراكم في تفكيرنا، ولكننا اعتدنا تذليل الصعاب والنظر إلى الكأس بجزئها الممتلئ، فلم نفكر بسلبيّة، وكان الأسوأ في هواجسنا هو الأكثر بعداً، ولذلك كان حجم صدمتنا أكبر من أن نستوعبه.

لا نهاية لنزوحنا ولا نهاية لغربتنا، فقد تعود الأوطان وتعود المدن والأماكن، ولكن من يُعيد الروح؟ من يُعيد ما فقدناه؟ ومن يُعيد لنا ولو جزءاً بسيطاً من ذاكرتنا الورديّة، أو من أحلامنا التي انهارت ونحتاج عمراً آخر لترميمها؟

الهاتف يرن، وتانيا تتلقفه بلهفةٍ لترميه أرضاً على وقع الخبر وتقول: "ماتت ماما يا إسماعيل". كانت أقسى عبارة يمكن أن أسمعها في حياتي، وأعادتها مرة أخرى وأنا مذهول، مصدوم، لا أدري ما هو الشعور الذي انتابني في تلك اللحظة. كنت دائماً أستبعد الموت من كل هواجسي وتفكيري، وفي لحظةٍ، أجده واقفاً أمامي يهوي عليّ كالكابوس.

ضممت تانيا إلى صدري وقلت: "طولي بالك حبيبتي"، وانهارت على الأريكة وأنا بجانبها ولا شيء غير الذهول والصدمة. حتى فِعل البكاء كان يقف حائراً أمام هذا المشهد غير المتوقع من دراما الحياة، لا لغة تسعفني، لا دموع، لا أريد أن أبكي أمام تانيا والأولاد. هذا ما قلته في نفسي: كن قوياً يا أنا!

كان المتصل نبال، بعد أن وصلوا إلى نقطة عادت فيها الاتصالات في الطريق إلى حماه. وبسرعةٍ ارتديت ملابسي وتانيا أيضاً، واستدنت بعض النقود من أحد الأصدقاء وأخذنا سيارة إلى حماه، إلى بيت أخ تانيا من أمها، حيث كانوا قد وصلوا للتو.

لم يسبق لي أن فكرت برؤية المتوفى قبل دفنه، ولكني لم أستطع منع نفسي من رؤية وجهها عندما رفعوا الغطاء عنه وهي ممددة في وسط الغرفة. لم يكن وجهاً لامرأةٍ استشهدت منذ ثلاثة أيام، وكنت وكأني أراها ممددة على أريكتها في حلب، بكل جبروتها وقوتها وابتسامتها المذهلة وهي تستمع إلى "سيرة الحب" لأم كلثوم، وتحتسي كأس البيرة مع تانيا بينما نشرب "عرق الريّان"، أنا وعمي، في سهراتنا الجميلة.

كيف لهذه الحياة أن تكون بهذه القسوة لتلقي بها في التهلكةِ وهي في الخمسينيات من عمرها؟ لترمي بعمي وعائلته في طريق فرعيّة بعيدة عن استراد حلب–دمشق، والذي أُغلق حينها، وكأن اليد الإلهية أوعزت بإغلاقه ليلقوا مصيرهم، ويجدوا أنفسهم وسط اشتباكات جرت بين "الجيش الحر" وقوات الحكومة، ولتصاب "أم وسام" على إثرها بطلقة في صدرها، ويُخرجها عمي من السيارة ولتكون جملتها الأخيرة: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، ولتخترق رصاصة منطقة البطن عند نبال، ويصاب عمي برصاصة في يده، وشيرين في خاصرتها، وكأن السيارة باتت دريئة يتبارون بإصابتها. أيّ قدر محتوم ساقكم إلى ذلك الطريق الذي دلكم عليه أحد سكان المنطقة، وكأنه عزرائيل بثوبه البشري؟

لم تشأ الأقدار أن ترى أم وسام "شام" وهي تخطو خطواتها الأولى، ولا أن ترى الفرحة في عينيّ ريّان المولع بجدته وهو يركض لاستقبالها. هل كانت حكمةً إلهيّة لإنقاذها من قادم الأيام السوداء، هي التي اعتادت العيش في بحبوحةٍ نوعاً ما، وليس من السهل عليها تقبل الوضع الراهن. لا أراهن هنا على الحكمة الإلهية وعدالتها، ولكنه مجرد كلام أواسي به نفسي في مصابنا بعد سنوات من استشهادها.

بعد رحيل أم وسام في ذلك اليوم وإصابة بقية العائلة، حلّ الظلام وتدخلت عربة مشاة عسكرية تابعة للجيش الحكومي وبعض العناصر ليتم سحب السيارة وإنقاذهم وإبعادهم عن منطقة الاشتباكات إلى النقطة الخاصة بالجيش، ثم إسعافهم وإبقائهم لمدة يومين حتى تهدأ الاشتباكات وإصلاح ما يمكن إصلاحه في سيارة عمي، لكي تكون قادرة على الوصول بهم إلى حماه.

كان لا بد من إدخال جثمان أم وسام إلى المشفى في حماه، للحصول على شهادة وفاة وتنظيم الضبوط اللازمة. وفي اليوم الثاني قمنا بدفنها في مقبرة في حماه، وعدنا إلى سلمية ليستكملوا علاجهم من إصاباتهم، وكانت إصابة نبال أشدّها.

أثناء تواجدي في حماه وانشغالنا في إجراءات استشهاد أم وسام ونحن ما زلنا تحت تأثير الصدمة، تلقيت اتصالاً، بل صدمةً أخرى باغتيال ابن عمي فيصل برصاصٍ غادرٍ. فيصل الملقب بـ"الحجّي" هو سجين سياسي سابق، كان قد انتسب إلى حزب العمل الشيوعي المعارض لنظام الحكم في الثمانينيات، واعتقل إثر ذلك ليقضي أحد عشر عاماً في السجن. بعد خروج فيصل من السجن استقر به الأمر على شراء سيارة أجرة يعمل عليها، ومع بداية المظاهرات والأحداث في سوريا، لم يُخفِ "الحجي" دعمه للمتظاهرين ومشاركته إياهم، إلى حين تم استدراجه بسيارته إلى خارج المدينة، وإطلاق الرصاص عليه من جهةٍ مجهولةٍ حتى الآن.

كان لفيصل ذكرى طيبةٍ معي ومع تانيا، فعندما كنا نقصد سلمية كزائرَين طبيعيَين، كنا نجده في الساحة العامة جالساً في سيارة الأجرة خاصته يتلقط رزقه، ليقوم بإيصالنا إلى القرية ونحن نتبادل أطراف الحديث طوال الطريق عن حلب وحبه لها، وليجلس في القرية عدة ساعات قبل أن يعود إلى عمله وبيته في السلمية.

إعدام نبال، ووفاة "أبو وسام"

بقي عمي ونبال وشيرين لعدة أشهر بعد أن استكملوا علاجهم، وأصلح عمي سيارته، وبدأ العمل عليها والوقوف في الساحة العامة، كما بعض سيارات الأجرة في سلمية. أخذَ عمي بالتململ من وضعه وبعده عن حلب وعن بيته، فقرر العودة مع نبال. وفعلاً عاد ضارباً بالأوضاع السيئة عرض الحائط هناك، ورافضاً أي رأي يخالفه.

بعد الصدمة التي تلقاها عمي وفقدان زوجته، بات مشوّش الأفكار، غير ثابت على رأيٍ، أضاع البوصلة وأصبحت قراراته موتورة ووليدة لحظتها من دون أن يحسب أبعادها، فبعد عودته إلى حلب، باع سيارته وجلس مع نبال دونما عمل، ومن ثم باع أثاث منزله، وترك نبال إلى الشارع ليتورط مع رفاقه في عراك أودى بحياة شابٍّ، وليهرب القاتل الحقيقي ويترك نبال يلقى مصيره لوحده.

ما أصعب الغربة في أرض الوطن! غربة الروح والوجدان هي الغربة الحقيقية، لا غربة الجسدِ والمكان. 

كان نبال مصاباً بإعاقة خلقيّة في يديه، ولا قدرة له على العراك، ولكن تم القبض عليه من قبل "جبهة النصرة" التي كانت تسيطر على حلب الشرقيّة في تلك الفترة، ومحاكمته محاكمة صوريّة، ثم إعدامه برصاصة في رأسه بدمٍ بارد، ودون أدنى شعور بظلم فتىً في العشرين من عمره. طوال فترة وجود نبال في سجن "جبهة النصرة"، حاول عمي، عبثاً، إخراجه وإجراء محاكمةً عادلةٍ له وإثبات أن القاتل الحقيقي أصبح في تركيا، لكنهم كانوا يديرون وجوههم عن الحقيقة ويستمرون في تعذيب هذا الفتى المعاق، قبل إعدامه لاحقاً.

كانت تانيا في دوامها في مجلس المدينة عندما تلقت خبر إعدام نبال، وكنت أنا في البيت مع ريان وشام. كان هذا بعد عام ونصف تقريباً من استشهاد والدتها. كنت جالساً في حديقة المنزل الصغيرة مع أطفالي عندما دخلت تانيا تسندها زميلتها في العمل، ومديرها المباشر الذي أوصلها بسيارته إلى البيت، وانهارت أرضاً وهي تصيح: "عدموه... عدمو نبال يا إسماعيل".

كانت الفترة التي تلت استشهاد أم وسام والفترة التي قضاها نبال في السجن لدى جبهة النصرة، وتتبعنا اليومي لأخباره ومحاولاتنا البائسة في الوصول إلى حلّ لقضيته، ومن ثم إعدامه، من أسوأ وأصعب الفترات التي مررنا بها أثناء نزوحنا. لم تخلع تانيا الأسود لثلاث سنوات. استبدّ الحزن واليأس بيومياتنا، وزاد الأمر سوءاً الوضع المادي السيّئ في تلك الفترة وعدم قدرتنا على تدبير أمورنا إلا بالقطارةِ، حتى أننا كنا نقسّم دخلنا الشهري على أيام الشهر كاملاً كي لا يتجاوز مصروفنا اليومي ما لا نستطيع تحمله، وتولّت تانيا مهمة تسجيل المصروف وضبطه كي لا يتجاوز الحد المسموح به.

لم تخلع تانيا الأسود إلا في يوم زفاف أختها شيرين التي تابعت تحصيلها العلمي، ونالت المرتبة الأولى في قسم الفلسفة من جامعة حلب ليتم تعيينها كمعيدة في الجامعة آنذاك.

تعبنا من حمل الحقائب، وتعبنا من نفض الغبار عن قلوبنا، وضخ الدماء فيها. مع ذلك لا حياة مع اليأس، والأمل موجود "فلتصبحوا على وطن"، ولتصبح على خيرٍ يا وطني 

عاد عمي من حلب بعد إعدام نبال محطماً لا حول له ولا قوة، منهاراً، تائهاً لا يعلم ما يفعل بعد أن أوصلته الأيام إلى ما لا يمكن توقعه، من فقدان بيته إلى فقدان زوجته وابنه. بات معظم الوقت جالساً في مكانه لا يتزحزح منه، محبطاً لا يُطيق أحداً، مشّوشٌاً نفسياً، يفتعل المشاكل افتعالاً. ومجدداً، قرر العودة إلى حلب الشرقية، وعمل هناك لعدة أشهر من دون أن نعرف طبيعة عمله، ليصلنا خبر إصابته بجلطة دماغية دخلَ على إثرها في غيبوبةٍ لعدة أيام في مكانٍ كانت الطبابة فيه شبه معدومةٍ، ثم يودع الحياة ويصلنا خبر وفاته.

"تصبحون على وطن"

قدر تانيا أن لا تخلع الأسود، ووفاة والدها كانت الضربة النفسية القاصمة لها، هي التي كانت قبل زواجنا تدخل غرفته وهو نائم، تراقب تنفّسه لتطمئن بأنه ما يزال على قيد الحياة، وهي التي كان بالنسبة إليها الجبل الذي لا ينهار، ثم انهار. ما تزال حتى الآن تبحث، عبثاً، عن وجهه بين الوجوه التي تصادفها، أو عن شبيهٍ له ولو بتفصيلٍ صغيرٍ من تفاصيل شخصيته الفريدةِ. هو انهيار الجبال إذاً على وقع الزلازل والهزات الأرضية، وأيّ هزاتٍ أصابت عمي ليلقى مصيره في غربة الوطن، وأية غربةٍ؟! ما أصعب الغربة في أرض الوطن! غربة الروح والوجدان هي الغربة الحقيقية، لا غربة الجسدِ والمكان.

لا نهاية لنزوحنا ولا نهاية لغربتنا، فقد تعود الأوطان وتعود المدن والأماكن، ولكن من يُعيد الروح؟ من يُعيد ما فقدناه؟ ومن يُعيد لنا ولو جزءاً بسيطاً من ذاكرتنا الورديّة، أو من أحلامنا التي انهارت ونحتاج عمراً آخر لترميمها؟

تعبنا من حمل الحقائب، وتعبنا من نفض الغبار عن قلوبنا، وضخ الدماء فيها. مع ذلك لا حياة مع اليأس، والأمل موجود "فلتصبحوا على وطن"، ولتصبح على خيرٍ يا وطني. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image