منذ الانتفاضة الثانية، في العام 2000، عملت الأحزاب الفلسطينية على تنمية قاعدتها الجماهيرية من خلال برامج سياسية واجتماعية أو برامج عسكرية، في وقت حرصت على تفعيل برامج المعونات والخدمات الإنسانية والمنح الدراسية، لتثبيت شعبيتها بين الناس، مكرّسة ثقافة الزبائنية والواسطة، حتى صارت هذه الثقافة جزءاً من نمط حياة الفلسطينيين، وعلى وجه الخصوص الغزيين، أكان في عهد السلطة الفلسطينية أو في عهد حكم حركة حماس.
فعّلت الأحزاب الفلسطينية برامج المساعدات للفقراء والمحتاجين في غزة، عبر جمعيات خيرية، فخلقت ثقافة عند بعض الفقراء تتلخص في أن "الانتماء يعني الضمان الاجتماعي والوظيفي والمساعدات"، وهو ما صار دارجاً بينهم، في ظل ظروفهم المعيشية الصعبة والفقر المنتشر خصوصاً عقب بداية انتفاضة الأقصى.
وصار عادياً أن نرى أسراً فقيرة، بين أفرادها خريجون عاطلون عن العمل، تلتزم بالصلاة في المساجد وبحضور "جلسة تبارك" بعد صلاة العشاء، عقب سيطرة حركة حماس على قطاع غزة، عام 2007، لأن الحركة تفضّل الخريج الملتزم وتمنحه واسطة للعمل في وظائف حكومة غزة التابعة لها. وكذلك الحال بالنسبة إلى أسر أخرى تسعى لاستمرار تلقيها مساعدات توزّعها اللجان الاجتماعية في المساجد.
رضا "أمير المسجد"
سناء (46 سنة) هي أرملة لجأت إلى "أمير مسجد" بالقرب من مخيم خانيونس، كي يتوسط لها للحصول على مساعدات إنسانية دورية من المسجد، كما حال جيرانها، وكي يشبّكها مع جمعيات خيرية لتقدّم كفالة لابنيْها اللذين يدرسان في الجامعة. اندفعت إلى بذلك بتشجيع من جاراتها اللواتي أقنعنها بأن الواسطة أمر لازم لحصول مَن هم في مثل حالتها على المساعدة.
تقوم الأحزاب في قطاع غزة بالتحقق من صحة الحالات الاجتماعية التي تطلب المساعدة، لكنها لا تكتفي بذلك بل ترصد خلفياتهم السياسية. اختبرت سناء ذلك عندما أخبرها "أمير المسجد" بعلمه بأن زوجها كان منتمياً لحركة فتح، وسألها: لماذا لا تلجأين إلى واحد من مكاتب حركة فتح الإقليمية؟
بحثت السيدة الفلسطينية عن واسطة مقربة من الأمير تساعدها في إقناعه بأن أسرتها لا تتلقى أي مساعدات من أي طرف، وليس لها أي نشاط أو انتماء سياسي، بعد وفاة زوجها قبل عام ونصف العام. تقول لرصيف22 إن الواسطة أمر ضروري لمثل حالتها حتى تعيش.
تحكي أن "الجمعيات الخيرية في الوقت الحالي تطلب إجراءات كثيرة من أجل التحقق من الحالة الاجتماعية ويستغرق الأمر وقتاً طويلاً، والأقرب إلينا هو المسجد"، وتضيف: "كل شيء نريده في غزة يتم بالواسطة. الإجراءات العادية مرهقة. نعيش عيشة الموتى وكل السياسيين يريدون أن نعيش على المساعدات. أنا أريد المساعدات فقط إلى حين يتخرج أبنائي ثم ينطلقون للبحث عن عمل".
كثر من الغزيين يتابعون أخبار فتح جهة ما باباً للمساعدة، ويتسجلون إلكترونياً على أي رابط يقعون عليه، بعد أن وصلت معدلات الفقر في القطاع إلى 53%، بحسب أرقام مركز الميزان لحقوق الإنسان، في عام 2022.
ويكشف محرك بحث غوغل في قطاع غزة أن من أكثر ما يبحث عنه الغزيون أمور مثل "موعد صرف المنحة القطرية"، وهي مساعدة دورية بقيمة 100 دولار للأسر الفقيرة، كذلك "موعد صرف شيك الشؤون الاجتماعية"، أي موعد صرف المساعدات من وزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية للأسر الأشد فقراً في غزة والتي تستهدف نحو 80 ألف أسرة.
تعمل الأحزاب الفلسطينية على تنمية قاعدتها الجماهيرية من خلال برامج سياسية واجتماعية أو عسكرية، وتحرص على تفعيل برامج المعونات والخدمات الإنسانية والمنح الدراسية، لتثبيت شعبيتها بين الناس، مكرِّسة ثقافة الزبائنية والواسطة
في عهد حكم السلطة الفلسطينية لقطاع غزة بين عاميْ 1994 و2007، كانت "الواسطة" بيد شخصيات من حركة فتح التي كانت تحكم ويشغل منتمون إليها نسبة كبيرة من المناصب الرسمية، فكانت الأسر المحتاجة تلجأ إلى مكاتبهم من أجل التسجيل في المساعدات الدورية التي تقدّمها وزارة التنمية الاجتماعية ضمن برامج دعم الأسر الفقيرة، أو تقدّمها مؤسسات رعاية المصابين والجرحى وأسر "الشهداء".
لكن في العام 2019، وفي تواريخ أخرى لاحقة، قطعت السلطة الفلسطينية مخصصات أهالي عدد كبير من "الشهداء"، بذريعة أن بعض العائلات تحصل على مساعدات من الأحزاب الإسلامية في غزة، معتبرة أن ذلك يعني أنها لا تحتاج إلى مساعدة إضافية، وذلك رغم تأكيدات البعض بأن المساعدات التي يتلقونها تقتصر على أمور مثل الكسوة المدرسية للأطفال أو مبالغ ضئيلة تُمنح في مناسبات الأعياد أو في مناسبات دينية، كما يوضح الحاج سعيد، وهو جد يرعى أحفاده الأيتام بعد مقتل والدهم قبل 12 عاماً.
يقول الحاج سعيد لرصيف22: "أتكفل بتربية أحفادي الثلاثة منذ سنوات. يحصلون على مساعدات بسيطة من بعض الجمعيات، لكن السلطة قطعت المساعدات عنّا، والآن خصصت لنا جمعية تتبع لحزب سياسي مبلغاً شهرياً لمصاريف الأيتام، وذلك بعد أن سعيت لدى عدد من الواسطات. هذا حالنا في غزة. حوّلونا من ناس لنا كرامة إلى أشخاص يبحثون عن واسطات لتلقي مساعدات مالية وغذائية".
ومؤخراً تنامت عادة لجوء بعض العائلات الفقيرة إلى أشخاص مؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل الحديث عن قضيتهم ومساعدتهم في العثور على متبرعين أو لفت نظر المؤسسات الرسمية.
"الواسطة"... أعلى أشكال الفساد
تتبنى مؤسسات مدنية فلسطينية محاربة ظاهرة الفساد، وتصدر في سبيل ذلك دراسات وتنظّم ورش عمل وجلسات تثقيفية، مثل "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة" (أمان). لكن عملها يلقى أحياناً انتقاداً، كما جرى عام 2009، عندما نشر رئيس تحرير وكالة معاً ناصر اللحام مقالاً بعنوان "الواسطة في فلسطين ليست فساداً بل ثقافة وقيمة متأصلة"، انتقد فيه خلاصة ائتلاف "أمان" القائلة إن الواسطة والمحسوبية والتعيينات هي أكثر أشكال الفساد انتشاراً في الأراضي الفلسطينية.
فعّلت الأحزاب الفلسطينية برامج المساعدات للفقراء والمحتاجين في غزة، عبر جمعيات خيرية، فخلقت ثقافة عند بعض الفقراء تتلخص في أن "الانتماء يعني الضمان الاجتماعي والوظيفي والمساعدات"
فبرأي اللحام، "الواسطة والمحسوبية في المجتمع العربي لا تحمل في طياتها الفساد مع سبق الإصرار وإنما يعتريها غالباً ‘الخجل’ من المعارف ومن الأحزاب ومن القبائل والعائلات والرغبة الطيبة في المساعدة والتدخل لنصرة المظلوم". وتساءل: "عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه سيطلب من الله الشفاعة لأمة المسلمين يوم القيامة، فهل الشفاعة واسطة؟".
كل سنة، يُجري ائتلاف "أمان" استطلاع رأي واسع ويرصد جرائم الفساد المسجلة لدى الهيئات الرسمية والمحاكم. وفي استطلاع أجراه عام 2022، أشار إلى أن 24% من المواطنين يعتبرون أنّ الواسطة والمحسوبية هي الجريمة الأكثر انتشاراً، تليها جريمة اختلاس الأموال العامة بالمرتبة الثانية، بنسبة 23%، ثم جريمة إساءة الائتمان، بنسبة 13%، ومن ثمّ جريمة إساءة استعمال السلطة بنسبة 12%، ثم جرائم الرشوة مقابل تقديم خدمة عامة، بنسبة 10%، ثم غسل الأموال، بنسبة 8%.
كما يعتقد المواطنون أنّ بعض الخدمات لا تُقدَّم بنزاهة عالية خاصة في مجالات التعيينات والترقيات في الوظائف العليا وكذلك الخدمات الصحية وتوزيع المساعدات الإنسانية ومنح التصاريح، إذ أشار 44% من المشاركين في الاستطلاع والذين توجهوا إلى مؤسسات عامة لطلب خدمة خلال العام 2022 إلى أنهم اضطروا للاستعانة بالواسطة للحصول على مبتغاهم.
"هذا حالنا في غزة. حوّلونا من ناس لنا كرامة إلى أشخاص يبحثون عن واسطات لتلقي مساعدات مالية وغذائية"
يعتقد المحاضر الجامعي المتخصص في الدراسات الاجتماعية رأفت عليان أن مشكلة خلق ثقافة الواسطة وبرمجة المجتمع نحو المساعدات بدأت مع تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 وعودة فلسطينيين من بلدان عربية، حصل كثيرون منهم على مناصب إدارية.
وسرعان ما انتشرت واسطة التوظيف والمساعدات من خلال مؤسسات رسمية كانت تديرها حركة فتح ثم من خلال جمعيات أسستها حركة حماس وأخرى أسستها حركة الجهاد وأحزاب أخرى. ويقول عليان لرصيف22: "في مجالس الطلبة وفي الانتخابات وغيرها، يتم الترويج لمنح مساعدات من أجل حشد التأييد، وهذا متعارف عليه في العالم كله، ولا تختلف غزة عن حال بلدان أخرى، لكنها تمتلك خصوصية انعدام المقومات الاقتصادية فيها والانغلاق المفروض من الحصار الإسرائيلي والذي يضعها في دائرة الفقر والفقر المدقع والبطالة وعدم وجود أي تنمية مستدامة تكافح أشكال الفقر وخلق فرص عمل".
ويضيف أن المساعدات الإنسانية هي أحد أشكال الفساد المنتشرة، "لكن الخطورة تكمن في تسويق بعض الأحزاب أن المساعدات والحصول عليها إنجاز فلسطيني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع