شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كيف تكتب نصّاً يرضي المحرّر والجمالية

كيف تكتب نصّاً يرضي المحرّر والجمالية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن وحرية التعبير

الأحد 11 يونيو 202306:13 م

هذا النص خارج لتوه من غرفة عمليات التجميل. قلّب الطبيب الجرّاح في مجلة تتضمّن أجمل نصوص  العام وأكثرها قراءة، ثم أعدّ العدة لإنجاز هذا النص. كتب قائمة طويلة من المعايير الجمالية التي سيمتثل النص لها. قرّر سلفاً الشكل النهائي، وشرع باتباع الخطوات التي سترشده لهذا الشكل السائد الذي قرّره، وعمّمه على كل الصحف.

من المفضل ألا يكون بحثياً. ترشدنا خطوات تحسين محركات البحث في هذا الخصوص. حجمه يقتصر على سبع مئة كلمة، تتدحرج بانسياب على أي شاشة. لم تعد تدعم المعايير الجمالية للنصوص الطول والعرض الموضوعين بقالب أوحد، واللذين يطبعان على الورقة، بل أصبحت المرونة هي سمة جمال نصوص العصر. مرونة تتسع لشاشة الحاسوب وتتقلص لشاشة الهاتف. معادلة "مرونة لكل جهاز ومرونة لكل شاشة"، تصف بدقة الجهة التي كتب لأجلها النص: الجهاز. في عصر الجمال، النص للعرض والترويج.

ترشدنا وسائل تحسين محرك البحث ثانية في هذه الحالة أيضاً. تعبّد الطريق لنستدلّ على كيفية دفع نصّنا إلى المرتبة الأولى من نتيجة البحث الأولى حتى المرتبة الأولى على قائمة الأكثر قراءة. تماماً كما هي الحال في مسابقات ملكات الجمال

ينتقل الطبيب إلى المعيار الثاني بعدما تأكد من الأول. يصفّف العنوان شعراً طويلاً ليتأكد من تبني القارئ للرأي حتى وإن لم يقرأ النص كاملاً. الموقف واضح وصريح. لا يتكلف أحد عناء القراءة، فهدف النص الأول الجمال. حتى إنه عادة ما يُستعاض عن النص بعنوانه، خاصة أن النص يزداد قصراً كل عام. يعبر بعض الجراحين القدماء عن مخاوفهم بالاستعاضة عن النص بعنوانه إذ إنه يحقق الأهداف المرجوة إذا وضعنا الجمالية جانباً.

بعد العنوان، يشرع الطبيب بتجميل المقدمة عبر تقليصها إلى كلمات قليلة. كانت من قبل ترمي للاحاطة بالموضوع، كما أنها كانت تنتهي بسؤال يأخذ الكاتب على عاتقه الإجابة عنه. اليوم، أصبح هذا السؤال هو العنوان ريثما تغيب الإجابة. العنوان الجاذب الذي لا يحتاج لإجابة لأن إجابته عادة ما تكون نعم أو لا، ويتمحور حول قضية غالباً ما تحتاج شرحاً يستفيض لأكثر من ست مئة كلمة.

على كل حال، لا يتلقى الطبيب تمويلاً كافياً يسمح له بجعل نصّه أطول، وإن توفر التمويل، لا يجب نسيان هدف الطبيب الأساسي: إعداد النص الأجمل. وفي معايير الجمال السائدة اليوم، الحشو الزائد غير محبذ. يفضل الجمهور النص ذا القامة الهيفاء، النص الرشيق الرفيع الذي تحمله الشاشة بسهولة وتقلبه العينان بسهولة تحت ذريعة "خلق السهل الممتنع". يفضّل القرّاء النص غير المتكلّف، ذاك الذي يشبه سائر النصوص. النص الذي يمشي بخطى واثقة على السراط المستقيم الذي يسيره كل نص آخر ليصل إلى فردوس الجمال. النص الذي يظهر بأعلى قائمة البحث على موقع إلكتروني موثوق، وليس ذلك الذي يتطلب عناء القراءة بصفحة نتائج البحث الثانية.

يحدث أن نقول لنص اليوم جملة شارل بودلير الشهيرة: Sois belle et tais toi، أو كن جميلاً واصمت

ترشدنا وسائل تحسين محرك البحث ثانية في هذه الحالة أيضاً. تعبّد الطريق لنستدلّ على كيفية دفع نصّنا إلى المرتبة الأولى من نتيجة البحث الأولى حتى المرتبة الأولى على قائمة الأكثر قراءة. تماماً كما هي الحال في مسابقات ملكات الجمال، حيث تتصدّر إحدى المشاركات المسابقة بينما تليها وصيفات أخريات.

هنا، نقع في معضلة نسبية الجمال، حيث يتفق الجمهور على أحقية فوز متسابقة أو يختلف على ذلك، مثلما قد يتفق أو يختلف على أحقية تصدّر نص قائمة الأكثر قراءة. لكن عوامل تحسين محركات البحث تحسم الجدال بعين ثالثة وثاقبة، تسمح برؤية متجرّدة لأي نص أو وجه كان. حتى أنها تلك التي تصنع القالب الجمالي الأمثل ليمتثل داخله كل نص ويقولب قبل أن يقصّ الفائض ويزاد الناقص.

قد تختصر فكرة ما لأنها لا تخدم الجمالية المبتغاة، ويبالغ في فكرة أخرى لتبرز وتتضح، وقد يطغى البارز المهم على النص، كي يصبح نصاً مكرّراً يدور في فلك فكرة واحدة يعبر عنها الكاتب بطرق شعرية عدة لكنها لا تبلغ هدفها.

يحدث أن نقول لنص اليوم جملة شارل بودلير الشهيرة: Sois belle et tais toi، أو كن جميلاً واصمت، وهي نفس الجملة التي غناها سيرج غاينسبورغ سنة 1959: "الحمامة تهدل، العصفور يغرّد، الدجاجة تنقنق، الغراب يصيح، يتذمّر النمر، وتكسر الرافعة، وأنت كوني جميلة واصمتي". اذ إن الاستيتيك قد يرشد النص نحو تهلكته، كما قد يؤدي الجمال إلى الصمت المطبق للصورة الأجمل.

لكن أتيقن أنه، من بين المتصفحين الكثر، هناك من يبحث عن نصّ يبوح بشيء ما. من بين النصوص الممتثلة لمعايير الجمال واللغة وسياسة التحرير والخط السياسي للناشر، هناك أحد يطأطئ رأسه بأسفل الصفحة. لا يرقى للمانشيت ولا يعتلي قائمة الأكثر قراءة. لا يظهر على مواقع التواصل الاجتماعي كمنشور مروّج له ببضع دولارات، وقد لا ينشر إلا ليوم على الموقع الإلكتروني.

هذا النص القبيح والطويل، أو القصير أكثر من اللازم، والذي يصعب إيجاده هو حتماً ذلك الذي يستحق القراءة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image