كان يوماً شديد الحرارة، قرّرت فيه الذهاب إلى منطقة السيدة نفيسة بالقاهرة، فمنذ زمنٍ طويل لم أذهب إلى هناك. نزلت من السيارة أمام مدفن مكتوب عليه كلمة "نزع"، وهي علامة وضعها الحي لأن المدفن معرض للإزالة، كجزء من خطة للتوسع العمراني. انخلع قلبي من المشهد، وأخذت أسأل نفسي: أين ذهب جلال الموت؟ أو كما يقول نجيب سرور: "لا حق لحيٍ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات/ لا حق لميت إن يُهتك عرض الكلمات/ وإذا كان عذاب الموتى أصبح سلعة/ أو أحجية أو أيقونة أو إعلاناً /أو نيشاناً فعلى العصر اللعنة/ والطوفان قريب".
مشيت إلى مسجد السيدة نفيسة. المنطقة كلها محاطة بالمقابر المهدّدة بالإزالة. أمام المسجد يقف بلدوزر، ورُصّت بجانبه شكائر أسمنت، الإزالات تُجرى على قدم وساق، في المنطقة وكلمة السرّ هي التطوير، لكنها لا تحمل المعنى ذاته عند كل الأشخاص.
لا أحب من القاهرة غير منطقة القاهرة القديمة، فقد عشت في منطقة السيدة زينب لمدة ثلاث سنوات بمفردي، كانت السيدة هي من تؤنسني في وحدتي. كنت أترجّل صباحاً في شوارع السيدة زينب، وفي منطقة الدرب الأحمر والسيدة عائشة. في الطريق للسيدة عائشة أجد إعلاناً عن كفن "رجالي وحريمي". أفكّر: هل يوجد فرق؟ في مقابر السيدة عائشة وجدت شخصاً أخبرني أنبيته قد انتُزع ومقابر عائلته في الوقت ذاته. أصبحت الحياة صعبة والموت أيضاً.
في كل مرة أذهب فيها للقاهرة أتوه في الكباري الكثيرة. تغيرت القاهرة بصرياً. هناك علامات مميزة للمدينة لم تعد موجودة، فقد أزيلت عوامات الكيت كات، التي تمنيت كثيراً أن أعيش في واحدة منها، والتي كتب عنها نجيب محفوظ في رواية "ثرثرة فوق النيل"
في المقابر المهدّدة بالإزالة، ترقد شخصيات تاريخية وفنية وسياسية، تاريخ هائل معرّض للإزالة. تحيط المقابر بمسجد السيدة نفيسة من كل جهة، تركيبة المكان فريدة وغريبة، حيث يحيا الناس بجوار الموت، ويعيش آخرون بالمدافن وأحواشها. أفكّر: ماذا لو قرّر المسؤولون إزالة المقابر المدفون بها أبي؟ نعم مقابرنا ليست في نطاق القاهرة القديمة، لكن بما إن هذه هي الخطة العامة في الدولة، ما الذي يمنع أن تكون مقابرنا عرضة يوماً ما للإزالة. وأي ألم سأشعر به حينها؟ لم أزر مقابر عائلتي الموجودة في أحد الأقاليم منذ وفاة أبي، فلم أستطع حتى الآن رؤية الشاهدة المكتوب عليها اسمه.
أفكر بما قد يشعر الناس بعد هدم المناطق التي ألفوها؟ تقول الشاعرة آية نبيه: "الشجرة التي كانت أمام بيتنا اقتلعوها بالأمس لإصلاحات في الطريق، لم يتركوا سوى بقايا من جذوع وأوراق صفراء. واليوم أجرب الفزع الذي خلفه الفراغ".
في بلدتي التي أعيش بها حديقة موجودة منذ أن وعيّت على المدينة. أصبت بصدمة عندما وجدتها قد تحولت لمجموعة من الكافيهات والمطاعم. أبحث عن مساحة عامة لأجلس بها فلا أجد. لم تعد هناك مساحات مجانية للجلوس وتأمل المارة واستنشاق الهواء، لا أجد غير ساحة المسجد الكبير لأجلس على الدرج بلا هدف. في كتاب "نشتري كل شيء"، يقول الباحث أحمد زعزع، إن الفراغات العامة تحولت إلى مساحات للاستهلاك والنشاط التجاري والترفيهي الذي يقدر عليه بالطبع الشرائح العليا، و"التطوير" المتمثل في الكباري انتزع أجزاء من الحدائق العامة، مثل حديقة قصر عابدين، وحديقة سعد زغلول في الإسكندرية.
أتذكر مقولة ألقاها الفنان شريف منير أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في افتتاح مدينة المنصورة الجديدة: "ياريس أنا بنام وبقوم بلقى الدنيا متغيرة". منير يرى الأمر إنجازاً يُحسب للجمهورية الجديدة، أما أنا فأرى الأمر مرعباً، أن تصبح الأماكن المألوفة لي غريبة عني، هذه الأماكن أعرّف بها نفسي، وأرى فيها طفولتي ومراهقتي وحياتي، ماذا يتبقى مني إذا طُمست ملامح أمكنتي التي أعرفها؟
أبحث عن مساحة عامة لأجلس بها فلا أجد. لم تعد هناك مساحات مجانية للجلوس وتأمل المارة واستنشاق الهواء، لا أجد غير ساحة المسجد الكبير لأجلس على الدرج بلا هدف.
في كل مرة أذهب فيها للقاهرة أتوه في الكباري الكثيرة. تغيرت القاهرة بصرياً. هناك علامات مميزة للمدينة لم تعد موجودة، فقد أزيلت عوامات الكيت كات، التي تمنيت كثيراً أن أعيش في واحدة منها. العوامات التي كتب عنها نجيب محفوظ في رواية "ثرثرة فوق النيل": "استوت العوامة فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه بين فراغ إلى اليمين، احتلته العوامة دهراً، قبل أن يجرفها التيار ذات يوم". تغيرت الأماكن التي أعرفها. أستدعي صورة قديمة من طفولتي للإسكندرية، "مصيف" العائلة، في شاطيء مجاني. صورة لم تعد موجودة، فقد غزت الكافيهات والمطاعم والجراجات المدينة. أصبح البحر غير مرئي.
في صغري كنت أزور المقابر مع أهلي، وفي الأعياد كانت تلك هي نزهتي الأسبوعية. لم يكن ذلك غريباً، فثقافة المصريين هي ثقافة تقدّس الموت والموتى. الموت في مصر القديمة كان باب يعبره الميت للدخول في حياة أبدية. يقول بعض الباحثين إن كلمة الموت في مصر القديمة كانت تقترب من كلمة "الأم"، لارتباط الموت بالميلاد. لا أعلم كيف وصلنا لنقطة هدم الجرافات للمقابر، لإقامة محور أو كوبري. كان هدم مقابر القاهرة التاريخية قد بدأ منذ عامين، أخذ الناس في زيارة المقابر واستكشاف كنوزها التاريخية، وتنظيم رحلات استكشاف صغيرة، لإلقاء نظرة وداع والتقاط صورة لشاهدة قد تكون سلاحاً في الحرب على الذاكرة. رجعت من زيارة المقابر بقلب ثقيل، وتأكدت أنه لا أحد آمن، حتى الموتى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...