في الفصل الأول من رواية "اسمه الغرام"، تناهى إلى سمعي صوت البطلة "نهلة"، يدعوني إلى كتابة حكايتها التي لا أعرفها، ويقول لي: "اكتبي بتستهدي". هكذا هي الكتابة عندي؛ فحقاً لم أشعر يوماً بأنني أكتب لأنني أعرف، بل لأستكشف. أخفضت صوتي في رواياتي لتعلو أصوات بطلاتي. أتنصّت إليها في حبري على الورق، تخبرني أشياءً وقصصاً لم أسمعها في روايات. أتركها تسرح بحريّة، وتروي حكاياتها المخبوءة، ولأعلّم ما هو ممحوٌّ عنها ومنها في روايات. وكان هاجسي منذ البدء، كيف أحيي وأصوغ من الكلام اليوميّ شخصيات، وأبني عالماً روائياً من لحم ودم. لذا انسقت خلال الكتابة لسلطة الشخصيات الحية، تلك التي نزعها منها الكاتب السلطان الطاغي.
والحقيقة أنا لا أكتب بهدف رسالة ما، ولست واعظةً ولا تبشيريةً، لكنَّ العمل الروائيّ يقدّم بالطبع رؤيةً وعالماً وواقعاً وأسئلةً يمكن استنباطها. لكنّ كتابتي بالطبع تحمل أسئلتي وقلقي الفنيين والإنسانيين. أنا أكتب لأعبّر عن ذاتي وعن عوالم نساء أبحر فيها لأكتشف دواخلهن ولغاتهن وذاكرتهن. وربما تكون كتابتي فاضحةً للمرأة والمجتمع، وليس للرجل فقط. وأعتقد أنه لا يمكن التعاطي مع ذواتنا ومع الآخر بمعزل عن التعاطي الجيد مع الحياة، وبمعزل عن حرية حقيقية تحول دون كبح الشخصيات وإنسانية الإنسان. أليست الشخصيات الحية في الكتابة كائنات استحقت الحياة؟ هكذا علّمتنا الروايات.
أعتقد أنه لا يمكن التعاطي مع ذواتنا ومع الآخر بمعزل عن التعاطي الجيد مع الحياة، وبمعزل عن حرية حقيقية تحول دون كبح الشخصيات وإنسانية الإنسان. أليست الشخصيات الحية في الكتابة كائنات استحقت الحياة؟
بالطبع، حين تقارب الرواية الحياة، لا بدَّ أن تطرح إشكالات كثيرةً، والرواية بالنسبة لي عالم واسع مليء بالتناقضات والصراعات والتجاذبات. هي تستجيب دائماً لكلّ الأفكار التي تأتيني حين أكون مستغرقةً في ملاحقة حيوات الأبطال وخلقها من لحم ودم. يقلقني التعرّف إلى حيوات بطلاتي وإلى عوالمهنَّ وإضاءة خباياهنَّ، وعلاقاتهنَّ، ولملمة نثار ذكرياتهنّ، وكشف المكتوم في أعماقهنَّ، وإعلاء أصواتهن المكمومة، لكنّي لا أفعل ذلك انطلاقاً من أفكار مسبقة. الكتابة تستدرج الأفكار، ولكن ليس بشكل خطاب جاهز، وإنما من خلال ترك الشخصيات تتحرك في الحياة لتقرَبَها الرواية وتصير قريبةً منها.
ومن دون وعي منّي، رحت أهجس بأصوات النساء وتجاربهنّ وذاكرتهنَّ أو حتى هزائمهنَّ، كما أني أهجس بالقول إنّ إعلائي أصوات النساء، وتشكيل ذاكرتهنَّ في الكتابة، يبدآن بالشكّ في النمط والذهن الجاهزين، وبكشف المستور وتحرير الذاكرة الكتابية من صنميَّتها، لينفتح القول على طرائق تعبيرية، قلقها محاولة الكشف عن المضمر والمحتمل وتحريره من سجون قوله وطرائقه الكتابية والأيديولوجية.
وبوعي مني، سعيت إلى توليد الكلام حيث القلم رحمٌ أنثويٌّ يضمر فتنةً خاصةً وولعاً شديداً بقدرة المحكيّ على السرد. نعم، حلمت برائحة الحياة في الكتابة، وأردت حيزاً كتابياً مفتوحاً على الحرية وعلى مسرح الحياة ومشهديته لخرائط علاقاتنا المعقدة والمستورة، وأن أذهب بتلك الصورة إلى المعنى القابل للتشكيك والخلخلة والتماري داخل اللغة والشخصيات.
والحقيقة أنني تنصّرت لجنس الكتابة من دون أن أنسى هواجسي في التعبير عن جنسوية من أكتب عنهنَّ، وعن خصوصية تعبيراتهن وأقوالهن بلا خطاب أو أيديولوجيا. وهذا ما جعلني أُعلي أصوات الشخصيات، وأقوم برحلة اكتشاف لعالمها، وعالم النساء الموؤودات بالخوف والجهل والعنف والهزائم والإلغاء والوحشية والانغلاق على الذات في آبار سحيقة تحبس الجسد والروح بالخوف من الآخر، ومن الحياة والرغبات.
آبارٌ تجعل الروح والجسد في أماكن قصية ومحرّمة ومظلمة. وكلّ هذا تطلّب مني الذهاب إلى ما هو حقيقيّ ومتبئّر ومسكوت عنه، بحيث بدا لي ما هو "تابو" عادياً، وملتصقاً أشدّ الالتصاق بتفكيك الشخصية وفهمها، وفهم علاقتها بذاتها وبالآخر، بل بوجودها، وملتصقاً أشدّ الالتصاق بحيوات الناس وذهنية المجتمع، علماً بأنَّ الجرأة لم تكن هاجساً أو هدفاً يحرّك العمل بقدر ما كانت حرية الكتابة وفنّيتها هما هاجسي الأساسي. وبهذا المعنى لم أقارب تاريخ الأنوثة الحافل بالقهر، انطلاقاً من هاجس بحثي، ولم أتوسّل من خلال الرواية حرية المرأة مثلاً، أي توظيف الكتابة لغير أغراضها، لأنَّ الكتابة بحدّ ذاتها هي فعل حرية، يحوي أغراضاً عديدةً لا تُحدّ بمقولة أو خطاب أو فكرة ما.
ولأنني مهجوسةٌ بالمجابهة، والكشف، ونزع الحجب، لم أرَ الشخصيات بمعزل عن العام، ولا العام بمعزل حتى عن الجسد. وطريقتي في السرد والإخبار جعلتني أحاكي المشهد في حقيقيته وصدقه بمعزل عن أيّ رقابة أو ردات فعل أو ادّعاء جرأة، إن في وصف الحالات أو المشاهد الجنسية، أو في طبيعة سرد العلاقات السائدة. ومحاكاتي للمشهد أعطتني قوةً في اختراق زوايا أغوار الشخصيات، بحيث قادتني هذه اللغة الحميمة إلى كوّة أطلّ منها إلى دواخل هذه الشخصيات وإلى عالم يمجّد العنف وتسوده القيم الإلغائية للمرأة.
وجدت نفسي منذ روايتي الأولى، وفي كلّ ما كتبت، أذهب إلى إعلاء أصوات النساء البطلات، وكتابة ذاكرتهن الراكدة والمنسية، وحاولت الكشفَ عنها وعن لغات وأصوات مكمومة في الروايات، وصياغتها، لكن ليس وفق إعادة إنتاج القيم الذكورية السائدة في الأدب. أقول إني حاولت، فاستكشاف حيوات النساء الحقيقية ربما هو مساءلةٌ للأصوات الذكورية وكسرٌ لخطابها، فتواريخ النساء لم تشكَّل بعد ذاكرة الكتابة، تحمل قولهن المستور والمسكوت عنه حقيقةً. فالذهنية الذكورية قد تتحكم بكتابة المرأة كما الرجل. ذاكرة النساء في النهاية منهوبةٌ ومصادرة، والإنسان منقطعاً عن ذاكرته كائنٌ تائه. أليس من الطبيعيّ أن أجعل من كتابة أصوات النساء منارةً تجعلني أستهدي إلى ذاكرتي وذاكرة النساء المنهوبة، والتي تكشف أنَّ تواريخنا تحكمها ثقافة العنف والقهر؟ وكنت من خلال ذلك مهجوسةً بكسر الخطاب الذكوري وإعلاء أصوات النساء للتعبير عن العنف في العلاقات، والعمى الأنانيّ تجاه الآخر والعالم، ومجابهة الواقع وقمعه الوحشي لإنسانية الإنسان، للمرأة كما للرجل البسيط المقموع أيضاً.
لم أقُم باستثمار الصوت الأنثوي أو إعلائه إلا عبر اختراق الحياة وعبر ذبذبات الواقع وهسهسة لغته، لكشف المجتمع البطريركي وتناقضات الشخصيات الإنسانية. وجدتني محاصرةً بقمعهنَّ وبالألم، وفي أوجه الصراع العميق الذي يدور بين الإنسان البسيط وظروفه، وبالخيبات وبالعجز عن التغيير.
وكان هاجسي النفي لكلّ ما هو محجوبٌ وما هو يقيني للمجتمع الذكوري البطريركي وكشف وجوهه على كلّ المستويات، حتى على مستوى الجسد. بدا لي الواقع عبر إعلاء أصوات الشخصيات قاسياً وعنيفاً، خاصةً للمرأة، عالمٌ بطريركي بكلّ سلطته، عنيفٌ بوجوه متعددة على المستوى الذاتيّ والشخصيّ والعام. أصواتٌ تشهد على كلّ أوجه العنف ضدَّ المرأة، دينيّ، عائليّ، جنسيّ، نفسيّ، اجتماعيّ... وإلى كل مرادفات العنف.
أنني تنصّرت لجنس الكتابة من دون أن أنسى هواجسي في التعبير عن جنسوية من أكتب عنهنَّ، وعن خصوصية تعبيراتهن وأقوالهن بلا خطاب أو أيديولوجيا. وهذا ما جعلني أُعلي أصوات الشخصيات، وأقوم برحلة اكتشاف لعالمها.
لم يكن إعلاء صوت المرأة إلا من باب حرية التعبير، للغة المؤنث في الرواية. كيف كان عليَّ أن أعلي أصواتهن الحقيقية بلا حرية؟ أليس فعل الأدب هو حريةٌ بامتياز؟ الحرية تحت شرط الفنية، وحدَها تخرج الأدبَ من احتمال التحنيط وتحرّره ليكون كاشفاً ونقياً.
اللغة من دون حرية مستعبدةٌ وطريحة الخوف والترهيب للتعبير، بحيث يروّع الكاتب أصوات الشخصيات ويخرسها. تصادر القولَ وتقصيه عن الحقّ الإنسانيّ والفنيّ في التعبير، للنساء كما للرجال.
الحرية الفنية هي أن ننقطع عن المكموم ليتاح لنا أن نعترف بذواتنا وأن نستقبل الآخر في لغتنا وكلماتنا وخيالنا كما في الحياة. حرية أصوات الشخصيات شرطٌ لكيلا نتحجّر في اجترار القول الاستهلاكيّ المعتّم المعمّم، ولكي نبعد ثقلَ تنميط النساء في الكتابات الذكورية. مع أصوات النساء الحقيقية نتعلم النطق واللغة ولا نتآكل في خَرَس الموت. هي ما يجعلنا متحوّلين في كلّ لحظة نمتلكها، متغيّرين بأرواح جديدة ومرايا جديدة كاشفة للذات والآخرين، حرية الشخصيات النسائية كي نزيح السلطات القامعة للأدب الحيّ، ولكي نحرّر الذاكرة الكتابية من صنميتها ونمطيتها، وأن نجاهر بحقّنا الإبداعيّ في التعبير.
أن نقرأَ نصاً حراً مبدعاً يعني أن نتغير ونصبح قراءً أحراراً، لأنَّ الأدب بهذا المعنى يحرّر، ولست من القائلين بأن الأدب يبقى أبكم في أجواء الاستبداد والقهر. نعم، أنا في كتاباتي مهجوسة بحلم الحرية لكل المقموعين والمقموعات. الحرية لأنها ليست ملكي وحدي وإنما لكلّ الناس ولأبطالي كما القرّاء.
أعتقد أن حرية التعبير عند بطلات رواياتي دعت نصي إلى الإقامة في المناطق الخطرة والصعبة التي تحدّد فنيته وشرطه الإبداعي. استدعتني لكيلا تكون الكتابة غريبةً عني. للمؤنث أو للمذكر حقٌّ في استقلالية تعبيرهما وخصوصية هذا التعبير انطلاقاً من الشرط الإبداعي. ويمكن للغة المؤنث أن تستحقَّ استقلاليتها، بمعنى اختلافها وخصوصيتها، حين تستطيع المؤنث أو شخصية المؤنث أن تملك قولها الخاص وتعبيرها المختلف في الكتابة التي لا تتمّ على مساحة ملغاة من هواء الحرية. كما لا تتمّ بافتعال الجرأة أو الحرية. فالجرأة ليست ردَّ فعل، وإنما تعني استعادة الحقّ بالقول الفني وامتلاك الخطاب الإنسانيّ من دون تمييز، ومن دون أن يكون هذا الخطاب ثأراً من الرجل أو المجتمع أو وسيلةً بلا شرط فني، فشرط الخطاب الإبداعي أن تبني له المرأة مسكناً فنياً يقولها معنى ومبنى كإنسان حرّ جريء وحقيقي.
ما هو حقيقيٌّ في أصوات النساء، ما حكته أصوات شخصياتي؛ جعل قرائي، نساءً أم رجالاً، يجدون أنفسهم/نّ في الرواية ويتمارون/ين مع البطلات والأبطال، وأنا نفسي كأنني أصير كلَّ واحد منهم/نّ وأنا أكتب. أتقمصّهم/نّ خلال الكتابة إلى حدّ أنني أنفصل عن الواقع خلالها، وليتحولوا هم/ هنّ إلى عالم حقيقي. أصير أنا هم/هنّ وهم/هنّ أنا، وهذا الفعل التقمصيّ يستدعيني لأعيش وأحسَّ وأتفهّم حيوات ومشاعر وسلوكيات الشخصيات.
ربما هذا سرٌّ من أسرار الكتابة الروائية عندي، تتلبسني كلّ شخصية إلى حدّ مرعب. أشعر بأنفاسهم/نّ وأشمّ روائحهم/نّ وأسمع نَبَضات قلوبهم/نّ وأنا أكتب عنهم/نّ، ليس بيدي فحسب بل بلحمي وكلّي. وكم اكتشفت وأنا أعبّر عن ذاتي بالكتابة أني تعلّمت منهم/نّ ما سمعته من أصواتهم/نّ، لا سيما النساء، وأغنوا مشاعري ووهبوني معرفةً بالحياة التي هي الجاذب الأكبر لي في الكتابة.
تصيبني أيّ شخصية بانفعالاتها وأحاسيسها روحياً وجسدياً ونفسياً، أجدني أرقّ وأعيش الحبّ وأحاسيسه، أشعر بألمهم/نّ وقمعهم/نّ. أصير حرّةً أكثر، أتألم أو أسخر أو أثار أو أغضب، وتتقلّب مشاعري تبعاً للحالة أو المشاهد أو المواقف، ولتتدفق في اللغة وتجعلها حيةً ونابضةً، وكما قلت مثلما تنسحب حالة لعبة المرايا بيني وبينهم/نّ إذا جاز التعبير، تنقل إلى الخارج، فكثيرون من قارئاتي أو قرّائي وجدوا حيواتهم/نّ وذاكرتهم/نّ في الشخصيات التي كتبتها.
لم يكن كلّ ذلك دون إعلاء أصوات الشخصيات، لا سيما النسائية، على صوتي. وحين يفلَت مني الخيط أحياناً لأتدخّل في لغة الأبطال، أجد نفسي أنهم/نّ هم/ هنّ يسعفونَني/فنني لإعلاء أصواتهمنّ على صوتي.
وأحياناً كثيرةً أشعر بأنّ بطلاتي يقُدنَ السرد ويلقنَّني ما يردن قوله من خلال إصغائي لهنَّ ولتعبيراتهن عن عوالمهن وحيواتهن. نعم حين يفلت مني الخيط تخطفه الشخصيات بحرية، وتروح ترسم مصائرها بمعزل عني. شخصياتي في الحقيقة هي التي تختار مصائرها. وكنت في كثير من الأحيان أباغَت، لأنَّ هذه الشخصيات بقرارها تثبت لي جدارتها في الاختبار.
هذا لا يعني أن الكتابةَ بريئةٌ. ليست هناك كتابةٌ بريئةٌ بالمطلق، عامل التخييل عندي قد يقود أبطالي الى مصائر تراجيدية تحت شرط الإقناع، واستجابةً لخبراتهم/نّ وحركتهم/نّ في الحياة، فأضطرّ إلى دفع بعضهم/نّ للتعرض للقتل أو الجنون أو الموت مثلاً. وكان هذا يحزنني ويبكيني أحياناً، خاصةً تجاه الأبطال الذين أجد نفسي متعاطفةً معهم/نّ خلال الكتابة. وأعترف أنَّ هذا الأمر كان يدفعني إلى التوقف عن متابعة الكتابة لفترة من الوقت بسبب الحالة الوجدانية التي تصيبني، ثم أستعيد أنفاسي بعدها لأتابع ما وصلت إليه.
ولا شكّ في أنّ تدخّل الروائي موارباً يحرّر أصوات الشخصيات من صوته، لكن أعتقد أنّ كلّ كاتب في النهاية يضمر نزعةً استبداديةً تجاهَ أبطاله، سواء أراد ذلك أم لم يرد. لكن ثمة فرقاً بين تقمّص الشخصية لفهمها والتعبير عن لغتها، وبين مصادرة لغة الأبطال لإحساس الكاتب أنَّه العالم والعارف وأنه مختلفٌ بوعيه ولغته عن أبطاله، الأمر الذي يجعل العمل الفنيّ إزاء هذا الشعور لا يأخذ طابعاً روائياً بأبعاده وطبقاته وفضائه.
وهذا الفرق ينعكس على طبيعة السرد، وإذا كان هناك تنوّعٌ في السرد وتعدد أصوات عندي، فلأني أؤمن بأنَّ الكاتب في العمل الروائي تحديداً هو المحاور الدائم للدخول في الآخر الذي هو جزءٌ منه، بل لا يستطيع الاستمرار في الكتابة من دونه ولا يستطيع البناء من دونه أيضاً.
لكن بالتأكيد لا يبني الكاتب عالم روايته بعيداً عن ذاته وعن رؤيته للواقع، فهو يبقى حاملاً لهواجسه ورؤيته وخياله، ولكن من دون أن يُسقط ذاته ولغته وأفكاره في الكتابة على لسان الشخصيات. أعليت أصوات الأمهات والجدّات والبنات، نماذج كثيرة لصور الأمهات. أمٌّ تحرمها الأمومة من الأنوثة، أو تلك التي تخاف من رغباتها، أمٌّ شرسة وأخرى نقيضة لها. صورٌ كثيرةٌ ونماذج تتجاور في الرواية الواحدة كما في الحياة؛ عاشقات، متزوجات، مطلقات، غاضبات، ثوريات، مكسورات، حرّات، مقموعات، وقامعات... وهكذا لكلّ شخصية صوتها.
وفي كلّ ذلك طاردتني أصوات النساء المعنّفات حتى وقت طويل بعد الانتهاء من الرواية. كم آلمني أن يكون مصدر هذا العنف مثلاً الأمّ أو الأب أو الأخ، أو عنف أصدقّه يأتي من مكان آخر وأوسع هو المجتمع/الخارج. العنف الذي بدا لي بوجوه متعددة، من قانونيّ إلى عائليّ واجتماعيّ وحتى ذاتيّ.
تبدو بعض أصوات شخصياتي وكأنها أدمنت عنفاً خارجياً بات مع العادة والزمن جزءاً من وجود الذات والإحساس بها، حيث لا يعود للذات وجود خارج هذا العنف. البعض يسميه مازوشية. أنا أسميه منتهى الضّعف، الضّعف الذي لم أكتفِ بوصفه كما في روايات، وإنما دخلت إلى مكامن السرّ فيه والإعلان عنه والتبئير فيه كما أفعل مع كل الشخصيات. قد يألف الضعيف ضعفه انطلاقاً من القمع المتجذّر، وانطلاقاً من التماهي بالصورة التي تُملى عليه، كما انطلاقاً من تصديقه لهذه الصورة على أنها حقيقته الثابتة. عنفٌ يمارَس حتّى من الضعيفة ضدّ أخرى مثلها، حيث لا يعود هناك مجالٌ للفكاك من فخّ العنف المتجذر.
تعيد الضحية إنتاجه مثلاً حين تتولى الترويج لموروث القهر من منطق الأمومة الراعية لمفاهيم السلطة الذكورية. ألسنا نلاحظ ما تقوله بعض أصوات النساء في رواياتي بأنّ المرأة/الأمّ تبدو أشرس من الرجل/الأب في هدر دم الابنة المتهمة بالجنوح؟ تشجع على قتلها أو تصمت استرضاءً للذكورة وصوناً لشرف هذه الذكورة وقيمها. كأنَّها هي السيف أو الرصاصة القاتلة. كأنها في مثل هذه الحالة ليست أمًاً بل هي كائن آخر. كأنّها هي أداة ترويج صور السلطة الذكورية القمعية. وكوني كاتبةً يجعلني أؤمن بأن تعبيرات النساء وأصواتهن وحكاياتهن الحقيقية، وسيلة لمقاومة العنف عبر الإعلان عنه والكشف عن صوره وتعرية وجوهه. الأصوات التي تصير في الكتابة قولاً وفناً وسرداً لنجاة الأنوثة من أسر الصورة النمطية القامعة لأيّ تعبير أو نطق أو كلام أو بوح.
لطالما وددت أن أكتب بطلات غير منمّطات، وكانت البطلة "نهلة" في "اسمه الغرام" خارج الأنماط. امرأةٌ تعي جسدها ومالكةٌ له، فعبّرت بصوتها عن جسدها بكلام حقيقيّ من اكتشافه إلى عيشه. كان هاجسي وصلَ ما انقطع بين اللغة والجسد وملء الفراغ الحكائي ولا سيما النسائيّ. كيف يمكن تحرير القول المعتقل والمكتوم من دون اللجوء إلى أيّ مواربة لغوية وأي نفاق اجتماعي؟ كيف يمكن لبوح الشخصيات الإنسانية أن تختار الخطاب السائد في الأدب الذي كلّس الأعماق، وبدا صعباً أن يطوف على السطح بفعل التحريم أو العيب أو المحرمات، أو بفعل الذهنية الذكورية، أو كتابة الكلاشيهات التي تحوّل فيها الجسد إلى خطاب أيديولوجي أو إشكالات للكتابة تعبّر عن هواجس فضائحية أو تحصر الجنس في تكنيك الفعل، في حين أن الجنس فعلٌ يتسع لحياة كاملة ليست منفصلةً عنه ولا هو منفصلٌ عنها.
ثم أيضاً من قال إنَّ الجسد هو معادلٌ واحدٌ فقط للجنس؟ إذ بهذا المعنى نبعده عن إنسانيته. "اسمه الغرام" جاءت صادمةً، إذ لا شكَّ في أن القطيعة الكاملة بين الجسد واللغة حدثت بفعل التابو الدينيّ أو الاجتماعي. وغطاءٌ وراء غطاء، وُضعت أغطيةٌ كثيرةٌ على الموضوع الجنسيّ. فالرجل حين حكى فعل تحت مظلة السلطة الذكورية، فيما المرأة حكت تحت مظلات كثيرة، من سلطة السياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ إلى سلطة الزوج والأخ والابن والحبيب. وهو حين حكى تحت مظلة الذهنية الذكورية لم يستنطق جسدها بالطبع إلا الذي لا يراه سوى ملك له، أو الذي لا يراه إلا كموضوع جنسيّ، وتالياً فإنَّ اللغة حملت هذا التسلط أو الإلغاء أو تلك الاستيهامات الذكورية أو عدم الاعتراف بها أو التبعية أو اعتبار الجسد الأنثوي لغزاً غريزياً مخيفاً أو غامضاً أو موضوعاً للغزو الجنسي.
وهذا الفراغ الحكائيّ عند النساء في الكلام عن الجسد له دلالاته. فالرجل هو من يعبّر عنه، فهو مالكه، وفروسيته قائمةٌ على أنه يرى أنه من العيب أن يعترف بجسدها كآخر وبمعزل عن كونه موضوعاً جنسياً. والحقيقة أنّ كلّ اختلاف يحتاج إلى اعتراف وإن كان كلّ اختلاف يضمر صراعاً.
هذا الاختلاف من المفترض أن يحمله الأدب وينعكس على خصوصية التعبير، إلا أنّ هذا الاختلاف على مدى زمن طويل لم يكن من الممكن تلمّسه حين تماهت كتابة المرأة بصورتها التي رسمها الرجل، وتعاطت مع جسدها ضمن الصورة. وبكلام آخر، حين كتبت عن الجسد كتبت بما يرضي الرجل ويرضي الذهنية الذكورية، في حين يجب أن تستكشف لغة الجسد ولغة الاختلاف بما يرضيها ذاتياً وأنثوياً وفنياً وإنسانياً، وليس بما يعيد إنتاج الخطاب الذكوريّ السائد.
اللغة من دون حرية مستعبدةٌ وطريحة الخوف والترهيب للتعبير، بحيث يروّع الكاتب أصوات الشخصيات ويخرسها.
وبطبيعة الحال، لم تكن المرأة متعلمةً أن تفكَّ حروف جسدها، كما أنَّ تمثّلَ أحاسيس المرأة في الكتابة الذكورية تبقى مرجعاً بديلاً وليس تمثّلاً حقيقياً. وفي المقابل، فإنَّ تمثّلَ أحاسيسها باللغة يكون بناءً على قدرة فعلية وقدرة على إعلاء حرية التعبير في الصوت النسائي، وقبل ذلك امتلاك السلطة على الجسد الحي للتعبير عنه.
والحقيقة أن علاقة المرأة بجسدها بقيت منطقةً مجهولةً حين بقيت أسيرة الصور وإطاراتها التي اخترعها الرجل، من صورة المرأة في الجنس إلى الأمومة والحبيبة والعشيقة وحتى كلّ ما له علاقة فعلية بجسدها الملغى في الأدب.
وهي لم تعرّفنا على أحاسيسها وجسدها المنفيين في الأدب، ولم نسمع صوتها الأنثويّ الفعلي والأصحّ الحقيقي. لذا، يبقى السؤال كيف يمكن أن نبني معرفةً لم تشارك المرأة في إنتاجها؟ المعرفة تبقى ناقصةً من دونها. قدرتها هي أن تقول الجسد ليس انطلاقاً من الصور وإنما انطلاقاً من الاعتراف بوجوده وانطلاقاً من علاقتها بالآخر. أي عندما تملك جسدها وتعتقد أنه ليس من العيب وجوده أو التعبير عنه، تكون لها تمثّلاتها اللغوية بصوتها.
الكتابة عن الجسد والجنس والرغبة لا تتمّ من دون هاجس معرفيّ وفنيّ وإنسانيّ، ومن دون امتلاك المرأة للغة تحمل قولها بكلّ صدق وحرية. الكتابة عن الجنس أراها وسيلةً أيضاً لانكشاف ما هو إنسانيّ واجماعي وحسي ونفسي عند صدامات العلاقات وأقبيتها وأسطحها ووسيلةً لاستنطاق الجسد وأنماط وسلوكيات الأبطال والضوء على ذهنيات ومفاهيم ونظم تتحكم بأطراف العلاقة التي تجمع بين المرأة والرجل.
استكشاف القول الأنثوي لا سيما حول الجسد، لا أراه سوى مجابهة ومساءلة للذاكرة الذكورية في اللغة وكسر خطابها، لذا قمت في "اسمه الغرام"، بتفكيك النسق الفحولي عند تجارب صديقات البطلة "نهلة" وتجارب نساء أخريات. لقد أعليت أصواتهن لكشف هذا النسق. أما علاقة "نهلة" بحبيبها هاني التي استعادتها في منتصف العمر، فكانت خارج النسق.
أعتقد أنّ "اسمه الغرام" أصواتٌ أنثوية بامتياز. ما حدّثتنا عنه "نهلة" في صوتها يستكشف "أنا الأنثى" العالية، ويعلو فيها الحسّ الأنثوي، ويستكشف جسدها في كلّ أعماره وتبدّلاته، حتى في المشاهد الإيروسية. فلو لم تكن "نهلة" مالكةً لجسدها ومعترفةً به في كلّ مراحله العمرية حتى في منتصف العمر، ولو لم يكن حبيبها هاني معترفاً به، لما استطاعت "نهلة" أن تعبّر عن تمثّلاتها اللغوية الأنثوية.
ربما تكون "اسمه الغرام" حدّثت عن تجربة الأنوثة بكل وجوهها، أعلت صوتها، من اكتشافها وعيشها إلى محوها أو انحرافها، لأن لنهلة رؤيةً نسجتها على نحو مختلف كما نسجته روايات.
حدّثت عن علاقة الأنثى بجسدها فعلياً، بالجنس، بالحب، بالشريك الذي يساعد على اكتشاف الجسد، أو ذلك الذي يمحوه أو يقمعه. نعم، كان كلام "نهلة" في كلّ ذلك خارج النمط. ولم يكن من السهل عليّ أن أخلق عالماً روائياً انطلاقاً من ثيمة الجسد لتكون الرواية هي مرايا لأجساد نساء دفعتهن التجارب مع الرجال وفي الحياة إلى خيارات عدة.
صحيحٌ أنّ صوت الحسّ الأنثوي يعلو فيها، وإنما ليحدّث عن العالم، عن علاقته بالآخر، بالزمن، بالعمر، بكل مراحله ولا سيما في منتصف العمر، الصداقات، الجنس، العلاقات، لا ليقول نفسه، بل ليقول توقه إلى الانغماس في الآخر، لاكتشافه، للتعرّف إليه أكثر. ما معنى أن تكون البطلة الساردة تعي جسدها وقادرةً على الكلام عنه؟ ما معنى أن يكون الواحد وحده، أي من دون الآخر، حتى ولو كان معه؟ كيف لنهلة أن تستكشف عالمها ومشاعرها في الرغبة والغرام لو لم يكتشفا معاً، هي وحبيبها هاني، تعبيرات الرغبة ويتعلّما معاً أسرار جسديهما حتى في منتصف العمر؟ هذه المعرفة تتحقق لأنَّ جسدَها شريكٌ وليس فقط منفعلاً، ولأنَّ إعلاء صوتها الأنثوي حقيقيٌّ وحسي. كلاهما فاعلٌ في علاقته بالآخر.
المعرفة لا تتمّ بلا شريك حقيقي، و"أنا" الأنوثة تتحقق هنا. وجسد نهلة المليء بالحياة كان يتعلم كلَّ يوم شيئاً جديداً مع الزمن، أكانَ في الغرام أم في الأمومة كأنثى وكإنسانة. والمعرفة لا تتحقق بلا فعل حر. كان كلّ كلام نهلة حقيقياً، حتى حين حدّثتنا عن تجربة العنة. لم أقرأ في الروايات العربية عن تجربتها تلك التي تصيب الرجال، ولا كيف عبّرت الكاتبة عن تجربة المرأة مع الرجل في هذه الحالة.
صوت نهلة في "اسمه الغرام" يحدّثنا عن عيشها للتجربة. حين ترى المرأة الإنسان في الرجل وفي حبيبها برغم تحولاته الجسدية وضمور فحولته أو عنة عابرة أو ربما دائمة، وحين ترى فيه قيمةً إنسانيةً عاطفيةً في حدّ ذاتها، فلا يؤدّي ذلك إلى التقليل من عشقها له ولو بذرة، فهذا برأيي منتهى الحب، هذا يطلع الرغبةَ من سفليتها، ويعلي كثيراً من قيمة العلاقة ولا يقلل من كثافة الحب. كانت نهلة كائناً واقعياً يكشف صوتها عن سرديته، كما لو أنها كائنٌ أنثوي للكشف عن سريرتها أمامي. وعبر سرد حكايتها، دلَّتنا على أنه ليس هناك من مراحل عمرية تستحق المدح وأخرى نقلب الصفحة عنها، أو أخرى نعدّها خارج الحياة.
ربما كانت تجربة نهلة في "اسمه الغرام" في كلّ ما سردته معرفةً، كنت أحاول أن أفهم من صوت ها مدى علاقتي بها (المعرفة)، ولم يكن ذلك متاحاً إلا من خلال السرد. كانت الكتابة استكشافاً جديداً لي ولأصوات نسائية أخرى، وقلت ما قلته في الرواية عن تجربة الحب والجسد، ولكن من باب تمجيد الحبّ والحياة وإنسانية الإنسان. ذهبت فيها إلى أبعد من الغرام. ربما هي تضمر فلسفةً بأنَّ الموت والحياة محكومان بالحب، الحب بمعناه الإنسانيّ الكبير.
في كل مرة، في كل رواية، مع كلّ صوت نسائي، كنت أحاول أن أعبّر عن عالم النساء وأدوارهن المختلفة وعلاقاتهن بأنفسهن وبالآخرين. في كل مرة أحاول أن أفهمَهن وأستكشفَهن، وأتعلمَ منهن كيفَ يجب أن أحكي حكاياتهن، حتى يحقّ لي أن أحكيها
ثيمة الجسد موجودةٌ في كل رواياتي التي تعلي صوت كلّ بطلة بكلام مختلف عنه، أكان منتهَكاً أم معنفاً أم مستبَداً به أم ملغى أم معيشاً أم يحلم بحريته، رافضاً أو خانعاً وقابلاً باستعباده. وإزاء هذه الصور أمامي تحضرني الآن مثلاً ما قالته "فريال" عن جسد حبيبها في رواية "دنيا"، التي وصفت فيه جمالية جسد الذكورة بصوت وبنظرة وبلغة أنثوية بامتياز.
تعدد أصوات النساء هاجسٌ أساسيٌّ عندي. أجد نفسي وأنا أتنقل في السرد بعفوية ويسر أمازج الفصحى بالعامية، الملهاة بالمأساة، الشعريّ بالعادي وغير ذلك من تنوّع السرد. وأعتقد أنّ صدق الكاتب هو ما يجلب الحياةَ للتقنية. إنّ تعبيراتي عن أصواتهن الحقيقية ربما هي التي أشعرت قارئاتي بأن شخصيات رواياتي تنطق بلسانهنّ، وتحيا معهنَّ وتتمارى بهنَّ، وذهب البعض إلى القول بأنهم شعروا بهذه الشخصيات تجالسهم، وأنا صدّقت وجودهم، صدّقت أنهم أنا وهم من يشكّلون ذاكرتي الكتابية، ولعبة المرايا هذه انعكست عليَّ فخُيّل لكثيرين وكثيرات أنّ كلّ بطلات رواياتي هي سيَرٌ ذاتيةٌ لي. وكما ذكرت تهيأَ لي ذلك مع كل شخصية كنت أتقمّصها وأنا ألهث خلف حكاياتهن. خلقنني ككاتبة وأنا خلقتهن لأعبّر عن ذاتي من خلال أصواتهن وحكاياتهن.
وفي كل مرة، في كل رواية، مع كلّ صوت نسائي، كنت أحاول أن أعبّر عن عالم النساء وأدوارهن المختلفة وعلاقاتهن بأنفسهن وبالآخرين. في كل مرة أحاول أن أفهمَهن وأستكشفَهن، وأتعلمَ منهن كيفَ يجب أن أحكي حكاياتهن حتى يحقّ لي أن أحكيها. هذا الحقّ يبقى ادعاءً للكاتب/ة، وربما الأصحّ هو وهمٌ، لا تستطيع/يستطيع النجاة منه، ما دام هو من يروي الحكايات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...