شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"وجع بدون اسم"... رحلة في عالم آني إرنو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 3 نوفمبر 202204:12 م

"ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمسَ جرح أو علاجِه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا ينسى". آني إرنو


السيرة الذاتية التخيلية في معالجة القضايا العالمية

على الرغم مما عرف أن الأديبة آني إرنو مرشحة على لائحة جائزة نوبل للآداب منذ سنوات، وبرغم الموضوعات الهامة والأسلوب الأدبي المميز الذي ابتكرته الأديبة الفرنسية وريادتها، إلا أن النقاد والمتابعين كانوا يتوقعون جائزة هذا العام للروائي سلمان رشدي، كتعاضد مع الكاتب الذي فقد عينيه وكبده بسبب قمع حرية التعبير في العالم. فبالإضافة إلى إبداعه الأدبي وأسلوبه الكثيف والواسع، فإن جائزة لهذا الكاتب كان تحمل أبعاداً ضد الأنظمة الشمولية والتيوقراطية في الفترة التاريخية الراهنة.

لكن، اختيار اسم آني إرنو أقنع المتابعين/ات بجدية. عدا عن أسلوبها الأدبي المميز، فإن مجموعة من الموضوعات العالمية الراهنة تعالجها الكاتبة في أدبها، ويرى بعض النقاد أن أهمها موضوعة "الإجهاض" راهناً، في ظل ما يحصل من تقييد قواعد وحق المرأة بالإجهاض في الولايات المتحدة وعديد الدول الأوروبية التي تشهد تراجعاً في حقوق المرأة، وحقوق الاختلاف الجنسي والمساواة، وكذلك اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء تبعاً للنظام الاقتصادي العالمي الحالي، والتمييز بين المركز المكرس وبين الهامش المختلف والمغاير على المستوى الثقافي والاجتماعي. كل هذا يجعل من أدب آني إرنو راهناً وزاخراً بالقضايا السياسية والاجتماعية والتقنيات الأدبية والسردية على حد سواء.

الذات الروائية بين تجربة الحياة وكتابة الأدب

يتحتم على أي ناقد/ة الوقوف على السيرة الذاتية لآني إرنو، ذلك أن أدبها يقوم بشكل أساسي على نوع من الدمج بين المذكرات الشخصية وبين القضايا الاجتماعية والسياسية. فأغلب أعمالها تنتمي إلى نوع السيرة الذاتية التي تروي من خلالها الحدث التاريخي والاجتماعي، ويرى البعض أنها صاحبة تيار رائد تدعوه "التخييل الذاتي"، القائم على الدمج بين الذاتي والتخييلي.

"ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا ينسى"... آني إرنو

عملها الأول "الخزائن الفارغة" (1974) هو من نوع السيرة الذاتية، التي استمرت الكاتبة في الاستلهام منها للكتابة الأدبية، فكتبت عن نفسها كأنها شخصية روائية، كتبت عن مراهقتها في "ما يقولونه أو لا شيء" (1977)، عن علاقتها الجنسية الأولى "مذكرات فتاة" (2016)، عن زواجها "المرأة الجامدة" (1981)، وعن علاقتها العشقية الشبقية مع رجل مجهول من أوروبا كتبت "شغف بسيط" (1991)، وأما أبرز رواياتها فهي "الحدث" (2000) التي تعالج موضوعة الإجهاض وصعوباته في فرنسا في فترة المنع، وكتبت أيضاً عن مرض الألزهايمر "لم أخرج في ليلتي" (1997)، وعن وفاة والدتها "امرأة" (1987)، وعن سرطان الثدي كتبت "استعمال الصورة" (2005).

ويعتبر النقاد أن "السنوات" (2008) يشكل العمل المركزي في أدبها، وفي هذا الكتاب تكتب إرنو عن نفسها بصيغة المخاطبة الغائبة "هي" (elle)، وهي رواية تعاين واقع المجتمع الفرنسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سنوات الـ2000. وفي العام 2011، كتبت "الفتاة الأخرى" وهي رسائل إلى أختها التي لم تولد قط.

كذلك، نشرت إرنو عدداً من الدراسات الأدبية وخصوصاً حول "الكتابة" التي تشكل التفكير بها جزءاً واسعاً من أجزاء نصوصها الأدبية، وكذلك حواراتها الصحافية والأكاديمية، منها "الكتابة كسكين" (2003)، و"الأدب سلاح معركة" (2005)، "كتابات البيضاء" (2009)، "الكتابة، أكتب، لماذا؟" (2011). ومؤخراً أصدرت كتاباً نظرياً لم يترجم بعد بعنوان "الورشة السوداء"، وهو كتاب يجمع أفكارها الذاتية وهي تصمم نصوصها، وشذرات من خياراتها وتمارينها ومحاولاتها الأدبية في صياغة نصوصها وتحريرها.

اغتراب البروليتاريا عن ثقافة المجتمع، وخيانة الابنة لقيم العائلة

العديد من روايات آني إرنو تتعلق بالفوارق الطبقية والثقافية، وبالعلاقة مع الأبوة والأمومة في المجتمع الفرنسي المعاصر. وهذه هي موضوعات روايتها "المكان" (1983) التي تركز على الحياة الطبقية والثقافية التي عاشها والداها، والفوارق التي تعيشها الابنة اليوم، أي الكاتبة، التي طورت قدراتِها التي مكنتها من الاندماج في المجتمع، بعيداً عن الطبقة، الفئة، الأفكار، والقيم والسلوكيات التي تصدر عن عائلتها الريفية المتواضعة.

تميزت هذه الرواية بجرأةِ ما روته الابنةُ عن والدها، في وصف العلاقة المركبة التي عاشتها مع والدها ووالدتها، بينما راحت الابنة تشعر بالانتماء والتقارب مع طبقات ثقافية واجتماعية مغايرة. إنه كتاب بوحٍ عن الاغتراب عن العائلة، عن الشعور بالبؤس حيالها، ومحاولة تفسير الأسباب السياسية والاجتماعية والثقافية التي شكلت عقليةَ والدها ووالدتها على هذه الطريقة. تكتب آني إرنو في ترجمة الرواية إلى العربية، رسالة خاصة للقراء العرب:

"هذا الكتاب ولد من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى بقالة. وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد، لماذا لا يقرأ أبي، لماذا يتصرف بفظاظة كما يكتب الروائيون. كان موت أبي المفاجئ سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثاً فاجعاً. وراء الحزن غمرني يقينٌ بخيانة طبقية، كنت قد انتقلت دون شعور، من عالم أصلي، شعبي، أي عالم أبي إلى عالم آخر، عالم البرجوازية المثقفة، التي تعتبر نفسها الوحيدةَ حاملةَ القيمة. كنا قد عشنا، أبي وأنا في داخل ذات الأسرة، صراعَ الطبقات الاجتماعية السائد في المجتمع بأسره".

بالتالي إن الكاتبة تشاركنا الحميم والبسيكولوجي في بواطن أفكارها عن والدها بالتحديد، وتلجأ إلى فعل الكتابة كفعل خلاص للتعامل مع هذه المسألة الذاتية والاجتماعية على السواء، لكن كيف يمكن التعبير عن العالم الطبقي والثقافي الذي شكل حياة عائلتها دون الوقوع في الشعبوية والبؤسوية؟: "بسرعة، فرضت الكتابةُ نفسها كواجب، ضرورة الكتابة عن حياة أبي وعن المسافة الثقافية بيننا. كنت قد تعلمت لغة القبيلة المهيمنة، وأن استعملها للحديث عن العالم المسود الذي أتيت منه، والذي كان أبي ينتمي إليه، كان ترسيخاً للخيانة. كنت أفشل في الوصول إلى ما كنت أشعر به على أنه حقيقةُ وضعِ أبي. أسقط بين نمطين بديلين للكتابة الدارجة عن عالم العمال والفلاحين، الشعبوية والبؤسوية. يقوم الأول على وصف الثقافة الشعبية دون إشارة إلى الاستلاب الاقتصادي، ولا يرى الثاني في هذه الثقافة سوى التعاسة وتدهور الثقافة الحقيقية".

سرد الكاتبة لحياة عائلتها من الأجداد والجدات إلى الأب والأم لا يتوقف عند إطار حكايات السير العائلية والذاتية، بل هو حالة نموذجية تشريحية لطبقة اجتماعية تحاول الاندماج في السياق الثقافي والاقتصادي الفرنسي من حولها، فحكاية الأب تبدأ مع هجره المدرسة للعمل في الأرض كفلاح: "كان أبي يعمل في أرض الآخرين، لم ير جمالها، فاته رونق الأرض الأم وغيرها من الأساطير".

وعبر حكاية الأب تعبر الأحداث السياسية الأساسية التي عرفتها فرنسا، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى، يضطر الأب لترك الفلاحة والانخراط في الجيش الذي شكل له فسحة لاكتشاف العالم:

"من خلال الجيش دخل أبي العالم، باريس، المترو، مدينة في منطقة اللورين، والزي العسكري الذي كان يجعلهم جميعاً متساوين. زملاء قادمون من كل مكان. الثكنات أكبر من قصر"، ولم يكن بعد الحرب من خيار إلا العمل في المصانع وفورة التصنيع".

الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية

تدين رواية "المكان" النظام التعليمي المطبق في المناطق الريفية. كان المعلم يقول للأب وأخيه: "يعني أهلكم عاوزينكم فقراء زيهم"، وتقحم الرواية في نصها نماذج من الجمل الواردة في كتاب تعليم القراءة، التي تبين حال التمعن فيها مقدارَ الاغتراب والانفصال عن واقع الطفل الفقير الساعي إلى العلم. فتلتقط الكاتبة تلك العبارات التي تعلم القناعة، وحب الفقر، وتقنع بالتعاضد الإنساني، وتوصي بالسعادة، كل ذلك لطفل يعيش واقعاً بائساً وتعيساً:

"كان عنوان القراءة المقرر على أبي (جولة طفلين حول فرنسا) وتقرأ فيه جمل غريبة مثل:

(نتعلم كيف نكون دائماً سعداء بوضعنا)، (أجمل شيء في الدنيا شفقة الفقير)، (أسرة تجمعها المحبة تمتلك أفضل الثروات".

لا شك، أن ميزة الرواية هي المصادمة التي يحملها النص بين الثقافة الشعبية، الفلاحية، العمالية وبين النظام التعليمي أو القيم الأخلاقية التي يحملها الأدب والقواعد الأخلاقية والتربوية التي يرسخها المجتمع المعاصر؛ فمثلاً يبنى الأب صورة الدونية الثقافية على لهجته نفسها:

"بالنسبة لأبي كانت اللهجة الإقليمية شيئاً قديماً وقبيحاً، علامة تدنّ. كان فخوراً أنه تخلص منها جزئياً، حتى لو تكن فرنسيته جيدة، فهي فرنسية على كل حال. وأنا طفلة كنت أشعر بأنني ألقي بنفسي في الفراغ حينما اجتهد في التعبير عن نفسي بلغة منقحة. ظل الأدب بين الأبوين والأطفال لغزاً بالنسبة لي لمدة طويلة. قضيت سنوات أيضاً أفهم اللطف المبالغ فيه الذي يظهره الناس المهذبة في مجرد إلقاء تحية الصباح".

وينشأ التواطؤ بين الرواية وبين القراء حين نكتشف المفارقات المضمرة داخل النماذج والأمثلة والمعالجات الثقافية التي تقدمها الرواية، فتتوقف الكاتبة عند سخرية الكاتب بروست من لغة الخادمة (فرانسواز) في رواية "البحث عن الزمن المفقود"، وتستعرض الرواية نماذج من صورة الريفي الساذج والفظ أحياناً، في الأعمال السينمائية.

بداية اغتراب الابنة عن والدها ووالدتها ينشأ مع عالمها المدرسي، الكتب، ألبومات الموسيقى، وهذه المعرفة أو المسافة التي فصلتها عنهما، هي المسافة ذاتها التي قطعتها الابنة في الاندماج مع العالم الثقافي والاجتماعي المديني الفرنسي:

"كنت أذاكر دروسي، أستمع إلى الأسطوانات، أقرأ، دائماً في غرفتي، لا أتركها إلا لأجلس على مائدة الطعام. كنت اقرأ الأدب (الحقيقي)، وأنقل جملاً، أبياتاً، كنت أعتقد أنها تعبّر عن (روحي). ما يصعب وصفه في حياتي، مثل (السعادة إله يمشي ويداه عاريتان. هنري دي رينييه). دخل أبي في فئة الناس البسطاء أو المتواضعين أو الناس الطيبين".

العديد من روايات آني إرنو تتعلق بالفوارق الطبقية والثقافية، وبالعلاقة مع الأبوة والأمومة في المجتمع الفرنسي المعاصر 

وتحلل الكاتبة أثر المحيط الاجتماعي والاقتصادي على الذائقة، فتكتب بما يشبه السخرية على ذائقة والدها. ومع تشكل شخصية الابنة وتطور فكرها ومعارفها وأسلوب حياتها فقدت تعاليم الأب وافكاره أية قيمة بالنسبة لها، ولم تعد مجرد مثيرة للاهتمام، بل على العكس، تقنع الابنة داخلياً بأن عليها تغيير سلوك والدها، تصحيحه، تهذيبه:

"كنت اعتقد أنه لم يعد يستطيع أن يعطيني أي شيء. كلماته وأفكاره لا وجود لها في دروس الفرنسية أو الفلسفة، في الصالات المعيشة بأرائكها ذات القطيفة الحمراء عند زميلات المدرسة. في الصيف، من خلال نافذة غرفتي المفتوحة، كنت أسمع ضوضاء محراثه الذي يسوي الأرض المقلوبة بانتظام".

المكان الطبقي، المكان الثقافي، والمكان الترفيهي

تحترف الرواية في رسم أثر المكان على الفكر والشخصيات، والرواية تحمل عنوان "المكان"، لأنها من جهة أولى، تصف الواقع المغيب عن المركزية الثقافية عبر وصف الأمكنة في أغلب الأحيان، فالمكان تعبير عن طبقة وثقافة في الفقرة التالية التي تصف ما بعد وفاة الأب:

"جمعنا ملابس أبي لتوزيعها على المحتاجين، في سترات العمل، المعلقة في المخزن، وجدت محفظته. كان بها بعض النقود، ورخصة القيادة. وفي الجزء المطوي، صورة مدسوسة ضمن قطعة من صحيفة. الصورة قديمة بحافتها المسننة، تظهر مجموعة من العمال في ثلاثة صفوف، ناظرين إلى الكاميرا، وجميعهم بالكاسكيت. لوحة نموذجية لكتب التاريخ تصور إضراباً أو جبهة 1936 الشعبية".

المكان أيضاً تعبير عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي، كما يظهر في وصف أحياء العمال: "لم يكن سكان الحي عمالاً متجانسين كسكان؛ كانوا حرفيين، موظفين في شركة الغاز أو المصانع المتوسطة وأصحاب معاشات من النوع المحدود اقتصادياً. بيوت صغيرة من الطوب اللبن معزولة بأسوار بين مجموعات من خمسة مساكن أو ستة ذات طابق واحد ونشترك في حوش واحد".

وكذلك وصف المقهى الذي أداره الأب والأم لفترة من الزمن. ومن خلال وصفه كمكان ندرك المضامين الثقافية والاجتماعية التي تحاول الابنة أن ترسمها عن مقهى والديها: "مقهى للمترددين الدائمين، يأتون بانتظام ليشربوا قبل العمل أو بعده، حيث مكانهم مقدس، ورديات الورش، وبعض الزبائن الذين كان من الممكن نظراً لوضعهم، أن يختاروا مكاناً أقل شعبية، ضابط بحري على المعاش، مفتش في التأمين الاجتماعي، أناس غير متعالين إذن".

عقدة ملأ المكان، خوف التواجد في غير المكان

من جهة أخرى، يبدو المكان معضلة مركزية في حياة الشخصيات الروائية، فالطبقات التي تشعر بالدونية، وقلة المعرفة تخشى من أخطاء السلوك، تخشى أن تجد نفسها في المكان الخاطئ، فالتواجد في المكان غير الملائم يعني التصرف الخاطئ، يعني التعرض للمهانة، يعني الشعور بالخجل والعار، و"العار" عنوان رواية أخرى للكاتبة:

"خوف أن نكون في غير مكاننا، أن نخجل. ذات يوم ركب خطأ في الدرجة الأولى بتذكرة الدرجة الثانية. جعله المفتش يدفع الفرق. ذكرى أخرى للخجل عند مسجل العقود، كان عليه أن يكتب هو أولاً.  لم يكن يعرف الإملاء فأخطأ. في طريق العودة الحاح هذه الغلطة الضيق. ظل المهانة".

برغم ما عُرف أن الأديبة آني إرنو مرشحة على لائحة جائزة نوبل للآداب منذ سنوات، وعلى الرغم من الموضوعات الهامة والأسلوب الأدبي المميز الذي ابتكرته، إلا أن النقاد والمتابعين كانوا يتوقعون جائزة هذا العام للروائي سلمان رشدي كتعاضد مع الكاتب الذي فقد عينيه وكبده بسبب قمع حرية التعبير في العالم

ولذلك، فإن "ملأ المكان" هو هاجس الأب الفاقد للثقة بالنفس، والراغب بالانخراط في السلوكيات والممارسات الاجتماعية من حوله، بالعربية "يعبي مكانه":

"لم يغلق المقهى أبداً، كان يقضي إجازاته في الخدمة. كانت العائلة دائماً تطب عليهم. لم يكن يشرب، كان يحاول أن يملأ مكانه. أن يبدو تاجراً أكثر منه عاملاً".

العلاقة بين الأفراد والمكان من حيث هو دولة، مجتمع، ثقافة، هي موضوعة محورية في أعمال آني إرنو. يكتب الناقد سومر شحادة عن أثر المكان على الشخصيات في كتابات إرنو: "شخصيات إرنو تراقب الحياة التي تجري من حولها في قاعة الانتظار لدى طبيب، في الشارع وعلى الرصيف، وفي القطار، وهي أماكن تمثّل مشاركةُ الآخرين لنا فيها نوعاً من التجاهل، وترف ألّا يكون المرء مرئياً بالنسبة إلى الآخرين".

الكتابة الرؤية، الكتابة العيش، الكتابة الوجود

"أكتب ببطء، أحاول أن أكشف عن النسيج الدال على حياة، بمجموعة من الوقائع والاختبارات، لدي الانطباع أنني، تدريجياً، أفقد الوجه الخاص لأبي. يميل التصور ليأخذ المكان كله، والفكرة تجري وحدها، لو تركت، على العكس، صور الذاكرة تنساب، لرأيته كما كان، ضحكته، مشتيه، يقودني من يد إلى الملاهي وأفزع من المراجيح، تصير غير ذات أهمية كل السمات التي تميز وضعاً نشترك فيه مع آخرين، في كل مرة أنزع نفسي من فخ الفردي.

لاشك أن الكتابة على هذا المستوى من تحليل المحيط العائلي، والأفكار الذاتية، وعلاقات الفوقية والدونية في مشاعر الابنة تجاه أبيها، والاغتراب والخجل في علاقة الأب مع المجتمع، كل ذلك يتطلب جهداً استثنائياً على مستويين؛ المستوى الأول مصارحة الذات بين الكاتبة ومشاعرها المتعاطفة أو النافرة من محيطها العائلي، والمستوى الثاني الخيارات الأدبية الأنسب لهذا النوع من السرد الحميم والدقيق. وهذه واحدة من الموضوعات التي تتكرر في روايات آني إرنو، فأغلب نصوصها الأدبية تتضمن تنظيرات، فقرات تفكير وتأمل، بوح ومشاركة مع القراء، حول الكتابة، وفي "المكان" هو التساؤل عن كيفية الكتابة عن الأب، وتجسيد حياته المهنية والعائلية والفكرية، وبالوقت عينه انتقادها.

وبعد أن انطلقت الرواية بدايةً من ضرورة الكتابة عن حالة الاغتراب المعقد عن الأب، بل الكتابة كحلٍّ وحيد أمام إشكالية على هذا المقدار من العمق، تشاركنا الروائية قلقها حيال الأسلوب الذي يجب عليها فيه التعبير عن هذه الموضوعة الحساسة، تتردد، ربما كان من الأفضل الكتابة عن الأب بالطريقة التقليدية، حيث العائلة السعيدة وألعاب الطفولة، لكن اختيار تحليل طبقية ذائقة الأب يحمل التجربة الأدبية إلى عالم قاسٍ:

"بالطبع، لا سعادة بالكتابة، في هذا المشروع الذي أكون فيه أقرب ما يمكن إلى الكلمات والجمل التي سمعتها، وأبرزها أحياناً بالخط المميز. ليس من أجل أن أعطى القارئ معنى مزدوجاً ومتعة تواطئية أرفضها بجميع أشكالها، الحنين، المأساوية أو السخرية. فقط لأن هذه الجمل تقول حدودَ ولونَ العالم الذي عاش فيه أبي وعشت فيه أيضاً. وفيه لا تستبدل كلمة بأخرى أبداً".

في روايتها "الضياع" (2001) تعتبر إرنو أن الكتابة نوعاً من الأخلاق بالنسبة لها، وفي روايتها "الحدث" (2000) تخصص أيضاً فقرات في تأملات الكتابة:

"ما وراء كلّ الأسباب الاجتماعية والنفسية التي يمكن أن أجدها في كل ما عشته، هناك سبب أنا واثقة منه أكثر من أي شيء آخر: الأشياء حدثت لي كي أدرك معناها، ولعلّ الهدف الحقيقي في حياتي هو فقط التالي: أن يتحوّل جسدي وأفكاري وحواسي إلى كتابةٍ، إلى شيء واضح وشامل، إلى وجودي الذائب بأكمله في أذهان الآخرين وحياتهم". ثم نسمعها تقول لنا: "ما الهدف من الكتابة، إن لم يكن الكشف عن الأشياء؟".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image