عندما تسوء الأوضاع العامة بكل مفرداتها ومظاهرها وتمثلاتها الاجتماعية، ويبدو الواقع المحيط مثل كوابيس مليئة بالأشباح، وتتحول الحياة إلى ما يشبه عكسها من مواتٍ, مبعثه الخمول والركود والتجمّد والتنميط والاجترار والدوران في حلقات مفرغة، ففي تلك اللحظة يصير الخروج عن المألوف ومخالفة السائد المستقرّ حلماً أقرب إلى المستحيل، إذ لا يبدو أحد قادراً على الانفلات من القيود المفروضة على الجميع، ومفاجأة المشهد بفعل استثنائي مباغت أو رأي مغاير أو فكرة طازجة مدهشة من خارج الصندوق.
لكن هذا "المستحيل" هو في حقيقة الأمر السبيل الوحيد "الممكن" إلى استعادة نبضات القلوب، وضخ الدماء مرة أخرى في العروق الإنسانية، التي كادت تتيبّس وتتحجّر جرّاء هذه القولبة التي طالت كل شيء وكل كائن، حتى ذلك الصلصال الآدمي الممسوخ، الموجّه عن بُعد، كآلة ميكانيكية مبرمجة.
الرفض بالألوان
ومن أجل محاولة تحريك المياه الآسنة، ودق ناقوس اليقظة، أملاً في تجاوز هذا العالم الضبابي المغلق، وإحداث تغيير نسبي، فإن الإبداع في مجالاته وأنساقه وثيماته المتنوعة، وفق معظم ممارسيه، يصير بالضرورة مطالباً بلعب أدوار أخرى كثيرة، إلى جانب دوره الأساسي المحوري، الفني الجمالي المجرّد.
قدّمت التشكيلية شيرين رجب في معرضها "الطابور" بمقر غاليري "ديمي" في حي الزمالك بالقاهرة (ربيع 2023)، ما يمكن تسميته "صرخة ريشة مصرية في وجه الأحوال الدامية المستعصية"
وتقتضي تلك النظرية وهذه المفاهيم ببساطة واختصار أن يمارس الإبداع مهامّه الوظيفية، الاجتماعية التنويرية، لفضح السلبيات القائمة، وتعرية الأزمات والمشكلات المتجذرة، والغوص تحت الجلد بجرأة وشفافية، والعمل على تحليل هذه الظروف والملابسات المأساوية، وفك شفرتها، والإشارة إلى وسائل حلها، والنجاة من تداعياتها وآثارها المهلكة.
وتحت هذه المظلة، وفي إطار هذه الخطوط العريضة المشتركة، قدّمت التشكيلية شيرين رجب في معرضها "الطابور" بمقر غاليري "ديمي" في حي الزمالك بالقاهرة (ربيع 2023)، ما يمكن تسميته "صرخة ريشة مصرية في وجه الأحوال الدامية المستعصية".
الفنانة المصرية المعاصرة، صاحبة الإسهامات اللافتة السابقة في المنجز التشكيلي المصري والعربي عبر معارضها الفردية ومشاركاتها في المحافل الجماعية، تتخذ في معرضها الجديد من هذا "الطابور" رؤية وفلسفة وتعبيراً ومنطلقاً إلى المناداة بالخصوصية والاختلاف، وإطلاق صيحة الرفض والاحتجاج، وإحداث الخلخلة المنشودة على كل المستويات، بما فيها التطوير والتثوير في الأداء الفني نفسه، وفي الأسلوب التصويري التقدمي، غير الخاضع للهندسات المنضبطة والشروط المدرسية الملزمة، إذ تراهن الفنانة في أعمالها على المعالجة المبتكرة التي تتخطى "طابور" التقنيات والأبجديات التشكيلية الجاهزة والمُعَدّة سلفاً.
"إذا اضطررت للوقوف في طابور، فاجعل منه لحظة للتأمل في فكرة إبداعية، في مهدّئ إبداعي، فقد تأتي أفضل الأفكار وأنت تنتظر في طابور".
في لوحات "الطابور" التخييلية الجامحة، المستلهمة من بيئة محلية خالصة بأمكنتها الشعبية وأناسها العاديين والبسطاء من دون تحديد صارم للملامح والتفاصيل، تصوغ شيرين رجب بسلاسة لونية فائقة دعوتها المركزية الرئيسية "لا تكنْ مع الحشد... لا تقف في الطابور"، لأنه لا قيمة لهذا الفعل التحنيطي البائس. فالطابور، فنياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وتعليمياً ورياضياً وفي سائر الميادين والحقول، يلغي الشخصية الفردية، ويمحو الهوية الجماعية، ويقتل الشجاعة والمبادرة والإقدام والاقتحام.
نفي الحضور
تؤمن شيرين رجب بأن الانصهار في الحشد هو تآكل للذات، وتعتقد بأن الحضور في الطابور هو نفي أصلاً لمعنى الحضور. وعلى الرغم من وضوح هذه المرتكزات التنظيرية والمعرفية التي تستند إليها الفنانة في تجربتها، وإمكانية التقاطها من أجواء لوحاتها وعناصرها ورموزها، فإنها آثرت إثباتها قولياً في دليل المعرض، ربما لتأكيد الفكرة والإصرار عليها "لا تكن مع الحشد، فأقصى ما تفعله هو الانتظار في الطابور للحصول على شيء لا قيمة له. ولكن، حلقْ في سماء الإبداع، وكن مختلفاً، ففي الاختلاف حياة. أكثر ما يكرهه الحشد هو إنسان يفكر بشكل مختلف، الحشد يكره جرأة هذا الفرد في امتلاك الشجاعة للتفكير بنفسه لكي يكون مختلفاً، وهذا تحديداً ما لا يستطيعه الحشد. وإذا اضطررت للوقوف في طابور، فاجعل منه لحظة للتأمل في فكرة إبداعية، في مهدّئ إبداعي، فقد تأتي أفضل الأفكار وأنت تنتظر في طابور".
وكعادتها في معارضها الزاخمة بالحيوية والصخب والدراما اللونية والأحداث المتصاعدة، تتسلح شيرين رجب في معرضها "الطابور"، التاسع في مسيرتها، بالوعي والنزعة المعرفية، على كافة الأصعدة الفنية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية وغيرها.
وهي، إلى جانب إبراز اللحظة المعيشة الراهنة، تحفر كذلك في دروب الذاكرة، مستدعية معالم الحياة وتموّجاتها الكثيفة (كتلها البشرية، وطوابيرها المتعددة على وجه الخصوص) في الأحياء الشعبية في العاصمة المصرية القاهرة (المحروسة) عبر العصور المتتالية.
طوابير الفنانة، بما قد تحمله من قسوة وبؤس وتكلس وزحام وغيبوبة وضياع، وغيرها من المظاهر والإسقاطات السلبية، هي رسائل فنية تنطوي على ما هو أعمق وأخصب من رصد القبح وتسجيله.
وتتقصى الفنانة بأناة واصطبار اليوميات البريئة والنثارات المشهدية والمواقف العابرة في الشوارع والحارات والأزقة الضيقة، وداخل البيوت، وفوق الأسطح، وفي المقاهي، وفي الأسواق، مستحضرة ممارسات البشر في مناسباتهم المألوفة، وإجراءاتهم المتكررة ومعاناتهم في مواجهة المصاعب والتحديات، ومتسللة برهافة إلى منظومة عاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم ومعتقداتهم ومعاملاتهم المتنوعة.
مرايا المدينة
وتمثل لوحات معرض "الطابور" كذلك امتداداً لجوانب من تجربة الفنانة ذات الطبيعة الخاصة في معارضها الثمانية السابقة، لاسيما معرضها "كايرو" منذ أشهر قليلة. وتبدو شيرين رجب منشغلة عادة بتقديم مرايا عاكسة للأمكنة والبشر، في المدينة التي تعشقها "القاهرة"، وتحلم بغسلها بماء الورد، وانتشالها من العشوائية والضجيج والأتربة (صورتها في العصر الحديث).
وتأتي تكوينات الفنانة دالة وإيحائية ورامزة في تعبيرها، زاهدة في النقل الحرفي الميكانيكي للواقع، إذ تحرص على ما هو تأثيري وتجريدي متعدد التأويلات والدلالات، فاتحة المجال على مصراعيه أمام الاحتمالات اللامتناهية والتفسيرات غير المحدودة للمشاهد والمواقف والعلاقات، وشحذ الخيال بالانزياحات والنبوءات والتساؤلات.
طوابير الفنانة، بما قد تحمله من قسوة وبؤس وتكلس وزحام وغيبوبة وضياع، وغيرها من المظاهر والإسقاطات السلبية، هي رسائل فنية تنطوي على ما هو أعمق وأخصب من رصد القبح وتسجيله. فهي مشحونة على طول الخط بذلك الغوص السحري في أعماق البشر، وفي جماليات المدينة، التي لا تزال محتفظة بطاقتها المتوهجة الخفية تحت الأنقاض والنفايات، مثلما يتمسك الإنسان بمعدنه الأصيل وروحه الخصبة، وإن عراه الصدأ والفتور ظاهرياً، وبدا أنه غير قادر على اللمعان والاشتعال من جديد.
وهنا، تبرز مقدرة الفنانة شيرين رجب على جعل الإبداع طاقة حيوية خلاقة، تبعث القيم الإيجابية، وتغمر المتلقي بالتفاؤل والمرح والبهجة، والأمل في غدٍ مشرق غير بعيد، وتلك هي المعادلة الصعبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...