شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الملكة فريدة، الفنانة المعذَّبة... شهيدات الصمت والنسيان في الحركة التشكيلية المصرية (2 من 2)

الملكة فريدة، الفنانة المعذَّبة... شهيدات الصمت والنسيان في الحركة التشكيلية المصرية (2 من 2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 25 أبريل 202301:34 م

"الرسم هو عزائي الوحيد في هذا العالم، والأسى هو كل ما يُغلف حياتي". كانت الملكة فريدة التي جلست على عرش مصر إلى جوار زوجها الملك فاروق بين عامي 1938-1948، تُردد هذه العبارة التي تفيض حزناً، وهي تتنقل بخفة في مرسمها الصغير، بعد أن تحررت من ثقل التاج الملكي الذي ظل على رأسها لأحد عشر عاماً حتى الانفصال عن زوجها.

الجرح الدامي

وكان ذلك الانفصال بمثابة حياة جديدة للملكة فريدة، حتى أنها عكفت على محو هذا الاسم الملكي المستعار، مستعيدة اسمها الحقيقي صافيناز ذو الفقار، لكن الحياة الجديدة بالنسبة لملكة تخلت بكامل إرادتها عن التاج، لم تكن بالطبع وردية، بل كانت سنوات من العذاب والقلق والألم الجبار، فمع سقوط التاج، زال عنها المال والجاه، وحُرمت من كل مخصصاتها الملكية المسجلة باسمها.

"الرسم هو عزائي الوحيد في هذا العالم والأسى هو كل ما يُغلف حياتي". كانت الملكة فريدة التي جلست على عرش مصر إلى جوار زوجها الملك فاروق بين عامي 1938-1948، تُردد هذه العبارة 

والأقسى من ذلك كله، أنها حُرمت من بناتها الثلاث، فقد أصرّ الملك على أخذ بناته معه عند طرده من مصر، وحُكم عليها بألا تُغادر البلاد إلا بعد سنوات طويلة من قيام الثورة، وعندما أتيحت لها الفرصة لزيارة بناتها في سويسرا عاملنها معاملة الغرباء، معتبرات انفصالها عن أبيهن جريمة مكتملة الأركان. كانت هذه المعاملة القاسية من جانب بناتها هي جُرح فريدة الدامي الذي ظل ينزف طوال حياتها، فلم يكن يُعذبها ما عانته من فقر وظلم وتشرد بلا مأوى في بلاد العالم، مثلما عذبها هذا الجفاء من جانب بناتها، حتى أنها باتت تشعر بالندم على قرارها بطلب الطلاق.

وهكذا وجدت الملكة نفسها في عالم أسود، محاصرة بشتى أنواع العذاب، يُمزقها الألم النفسي وتنهشها الوحدة، وعندما وصلت الأمور إلى ذروتها، كان عليها الهروب إلى عالم آخر، فكان الفن هو عالمها الجديد ومُنقذها الوحيد من الضياع.

الفن... كـ"هوية"

في الثالثة والثلاثين من عمرها، اتجهت فريدة بكامل وجدانها إلى الرسم، وراحت تُلملم أشلاء ذاتها المبعثرة، وأنفقت سنوات من عمرها في العمل والسفر إلى الخارج للدراسة والاطلاع على التجارب الفنية الحديثة، ورغم هذه البداية المتأخرة إلا أن الفنان التشكيلي والناقد عز الدين نجيب، خلال رصده للحياة الفنية لفريدة في كتابه "فنانون وشهداء" رأى أن جذور الفن لدى فريدة، التي ولدت بالإسكندرية في 5 أيلول/سبتمبر 1921، تضرب في سنوات طفولتها وصباها، حيث نشأت وسط أسرة فنية، في بيت تغمره الموسيقى ويُلونه الرسم "فوالدها يوسف ذو الفقار كان هاوياً للفن، وعازفاً ماهراً على البيانو ورساماً للصور الزيتية أيضاً، وكان خالها الفنان محمود سعيد –أحد أعمدة النهضة الفنية الحديثة في مصر- دائم الرعاية والتوجيه لها، خاصة خلال ترددها على مرسمه بالإسكندرية، وقد رسم لها لوحة زيتية شهيرة وعمرها اثنا عشر عاماً، وهي تلك اللوحة التي تتصدر مكانها حالياً في متحفه بالإسكندرية".

بعد خمس سنوات من انفصالها عن فاروق عام 1949، وجدت الملكة نفسها تعيش وحيدة في الفيلا التي بنتها قرب أهرام الجيزة (قبل الاستيلاء عليها)، مطلة على منظر خلوي مبهر من الحقول والأهرام الشامخة. في تلك اللحظة، انطلق الفن الذي ظل حبيساً لسنوات، من أعماق فريدة، فأمسكت بفرشاتها وراحت تُفرغ كل ألمها وأحزانها على سطح اللوحة، وللمفارقة لم ترسم الملكة المناظر الطبيعية الرقيقة التي كانت تُجيدها، بل راحت ترسم بسطاء الشعب المصري من مزارعين وصيادين وبوابين وهامشيين، وكأنها ترد الجميل لهذا الشعب الذي هتف باسمها وأحبها كما لم يُحب ملكة من قبل.

ورغم ما ردده البعض من أن الفن لم يكن لدى فريدة سوى مادة تتكسب منها وسط ما تعانيه من ظروف مادية صعبة، إلا أن عز الدين نجيب الشاهد على هذه التجربة الفنية المثيرة لفريدة ينفي ذلك تماماً ويقول إن "الكسب المادي كان آخر أهداف فريدة من فنها، بل إن الفن قد أصبح عنوانها وبطاقة هويتها، ولو كانت سعت وراء الكسب المادي، لركزت في رسم المناظر الطبيعية الأكثر قبولاً ورواجاً بين محبي الاقتناء، لكنها كانت تُفضل رسم الوجوه المنطبعة بالعذاب، والتكوينات الدرامية التي تعكس أعماقها المتصارعة، بأسلوبها التعبيري التلقائي الخالي من الأناقة ومهارة الصنعة، الذي كثيراً ما يصل إلى درجة القتامة والعنف وتشوهات الملامح".


في عام 1963، حين سُمح لها بالسفر إلى خارج مصر، اتجهت فريدة إلى بيروت، وعاشت هناك ما يقارب أربع سنوات، واصلت خلالها مشروعها في الرسم، حيث رسمت العديد من الشخصيات التي أثارتها، ووجدت فيها استجابة للتعبير عن مشاعرها. وكانت حياتها هناك هادئة، حيث عاشت محاطة بالدفء والتقدير. وبعد بيروت، سافرت إلى سويسرا عام 1967 لتكون بالقرب من بناتها، لكنها لم تجد سوى البرودة والجفاء، فراحت تُفرغ كل ما يتصارع بداخلها في لوحات شديدة القتامة، كانعكاس لروحها الممزقة. وبعد سويسرا كانت باريس محطتها الفنية المهمة، فهناك تعرفت على متاحف الفن ومراسم الفنانين، واكتسبت خبرات فنية جديدة.

وفي تلك الفترة أتيح لها أن تُقيم أول معرض لأعمالها في باريس. وفي عام 1970 انتقلت للإقامة الدائمة في العاصمة الفرنسية كي تتفرغ للدراسة والإنتاج، حيث التحقت بمدرسة متحف اللوفر لتاريخ الفن، وفي تلك المرحلة –كما يذكر عز الدين نجيب في كتابه السابق ذكره- "راحت تنسخ بعض لوحات الأيقونات البيزنطية وترسم على نسقها، مبهورة بطابع القدم والعراقة والحس الروحي، وقد مستها الأحزان الكامنة في عيون القديسين خلف بريق الذهب المتآكل، وانعكس كل ذلك على لوحاتها في تلك الفترة، حتى بدت كرسوم الكتب القديمة".


وشهدت الفترة من عام 1974 إلى 1983، تألقاً فنياً هائلاً للفنانة "التلقائية"، حيث أقامت العديد من المعارض الناجحة في كل من بيروت، مدريد، مايوركا، المركز الثقافي المصري بباريس، جنيف، وتكساس، فيما كان أول حضور فني لها في القاهرة عبر معرضها الذي احتوى على 77 لوحة. وكفنان وناقد بارع، يُفضل عز الدين نجيب أن يُوضع فن صافيناز ذو الفقار في إطاره الخاص، كفن تلقائي حر، بعيداً عن أطر المدارس الفنية والدراسات الأكاديمية، وهو ما يُطلق عليه "الفن الفطري" أو "الساذج".

ويرى عز الدين أن هذا النوع من الفن له مكانته المحترمة ورموزه المشهورة، وله أيضاً معارضه الدولية ومكانه في بعض المتاحف الكبرى، حتى أنه كثيراً ما تتداخل الحدود بينه وبين حركات الفن الحديث، لما يتميز به أصحابه من وشائج اتصال قوية بالفنون البدائية، التي هي أهم منابع الفن الحديث خلال هذا القرن. وفي ذلك الإطار يرى صاحب "فنانون وشهداء" أن إبداع فريدة أو صافيناز ذو الفقار يستطيع الوقوف بجدارة على مستوى إبداعات الفنانين الفطريين في الشرق والغرب، حيث يتمتع بقوة تعبيرية جياشة وحساسية جمالية عالية نحو لغة اللون والإيقاع والبناء الفني، وكذلك يتمتع بشخصية خاصة ذات أسلوب متفرد يدل على صاحبته.

"أنا ملكة قبل الملك وملكة بعد ذهاب الملك"

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، قررت الملكة فريدة أن تعود لتستقر في وطنها مصر، فلجأت إلى الرئيس السادات تلتمس السماح لها بالعودة وبمكان تعيش فيه، فخصص لها شقة رخيصة من حجرتين بمنطقة المعادي، وهي الشقة التي أقامت فيها حتى وفاتها في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1988.

وفي مصر استعادت فريدة الكثير من حب الناس وعاشت محاطة بالدفء والتعاطف، وكانت السيدة لوتس عبد الكريم صاحبة مجلة "الشموع"، هي الداعمة والسند و"الونس" للفنانة الجريحة في سنواتها الأخيرة، حيث خصصت لها جناحاً بمنزلها كمرسم، وقد وثقت لوتس خلاصة تجربتها مع فريدة خلال تلك السنوات التي عاشتها بجوارها في كتاب تذكاري بعد وفاتها، يحتوي على الكثير من الصور والوثائق التاريخية، ويضم أكثر من أربعين لوحة.

وبالنسبة للوتس فإن الملكة فريدة، كانت –كما ذكرت في كتابها- "شهيدة المرض والألم والظلم والعذاب الطويل، مازلت أراها وأسمع صوتها، بقامتها الرشيقة تنتقل في المكان، ورأسها المرفوع دائماً يقول: 'أنا ملكة قبل الملكة وملكة بعد ذهاب الملك'. ملكة رغم ثوبها الأصفر القطني البسيط الذي كانت قد طلبت مني شراءه مع بعض الثياب المشابهة والمناسبة للمرسم، ثوب قطني لا يعدو ثمنه جنيهات قليلة، لكنه يبدو عليها وكأن ثمنه يفوق المئات… بسيطة... لكن لها حضور عجيب ويشع من عينيها ذكاء حزين".

في لوحتها "مصر" التي رسمتها عام 1984، أخرجت الملكة فريدة خلاصة وجدانها، ومكنونها المأسوي، في دفقة شعورية أشبه بالصرخة، أخرجتها سائلة باللون الأزرق، وتركته ينزف ويسيل فوق التكوين متدفقاً بغير توقف

أما الأيام الأخيرة في حياة الملكة، فقد عاشتها –كما روت لوتس- وسط نوبات من الرعب والهلع، خاصة عندما تتخيل نفاد نقودها، فتسيطر عليها السيناريوهات المتشائمة من أنها ستموت جوعاً أو تذل أو تُهان، وكان هذا القلق يدفعها إلى مضاعفة جرعة المهدئات مما أثر على الكبد في أعوامها الأخيرة. وعندما ازدادت حالتها سوءاً رفضت الأدوية والرعاية الطبية، وصممت على السفر إلى سويسرا لرؤية بناتها وأحفادها. ثم عادت "وحيدة محطمة لتلفظ أنفاسها على أرض مصر، وسط البؤساء الذين أحبوها، أما بناتها فحضرن واجب العزاء تماماً مثل الغرباء".


في لوحتها "مصر" التي رسمتها عام 1984، أخرجت الملكة فريدة خلاصة وجدانها، ومكنونها المأسوي، في دفقة شعورية أشبه بالصرخة، أخرجتها سائلة باللون الأزرق، وتركته ينزف ويسيل فوق التكوين متدفقاً بغير توقف. ويتساءل عز الدين نجيب عن هذا النزيف الأزرق: "ترى أيكون المسفوح هو الدم الملكي الأزرق أم هي دموع إيزيس الأبدية تنهمر لتملأ النهر حتى يفيض على الوادي وهي تسير ملتاعة تجمع أشلاء أوزوريس؟ ومن أين يأتي النزيف... من الجبهة؟ من العينين؟ هل ما تُجسده هذه اللوحة، عذاب الملكة... أم عذاب مصر(الطاردة/الطريدة)؟!".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image