مثّلت عائلة "عنايت"، نموذجاً فريداً في الحركة الوطنية المصرية، بعدما تسابق أبناء محمد عنايت، كبير مهندسي الري في مصر، على الانخراط في العمل الفدائي المصري، وراحوا ضحايا لمغامراتهم واحداً تلو الآخر.
بحسب كتاب "تراجم أعيان الأسر العلمية في مصر"، استعرض جلال حمادة، موجزاً لتاريخ أولاد محمد عنايت، موضحاً أنهم 8 أشقاء: محمود، عبد الحميد، عبد الخالق، أحمد، إبراهيم، عبد العزيز، محمد، وعبد الفتاح.
انخرط عددٌ منهم في العمل الوطني المصري، ونفذوا عمليات اغتيال لن أبالغ لو وصفتها بأنها غيّرت تاريخ مصر حتى اليوم، بعدما تسبّبت في زعزعة عرش زعيم بحجم سعد زغلول.
عام 1995، عُرض على شاشات التلفزيون المصرية الجزء الثاني من مسلسل "المال والبنون"، وفيه جسّد الممثل حسين فهمي شخصية بطل وطني حمل اسم "جلال عنايت"، ليُصرّح المؤلف محمد جلال عبد القوي بأنه أضاف هذه الشخصية لإبراز دور أسرة عنايت الوطني في تاريخ مصر.
أحمد عنايت
لم يُرصد دور سياسي مؤثر لعبه أحمد، لكنه امتلك صلة صداقة قوية بأحد أهم الفدائيين المصريين، وهو عبد العزيز علي، الذي لعب دور البطولة في تأسيس "جماعة عنايت".
كان أحمد زميلاً لعبد العزيز في مدرسة التجارة العليا، وعقب رحيله وضع عبد العزيز الإخوة عنايت تحت رعايته وحقَنهم بضرورة العمل الوطني، ونجح في ذلك مع عبد الخالق وعبد الحميد وعبد الفتاح.
مثّلت عائلة عنايت، نموذجاً فريداً في الحركة الوطنية المصرية، بعدما تسابق أبناء محمد عنايت، كبير مهندسي الري في مصر، على الانخراط في العمل الفدائي المصري، وراحوا ضحايا لمغامراتهم واحداً تلو الآخر
على المصحف والمسدس أقسم الإخوة الثلاثة أمام عبد العزيز علي، بأن يعيشوا "فداءً لمصر" وأن يعتني كل شقيق بالآخر.
لاحقاً سيلعب عبد العزيز علي دوراً مهماً في تأسيس تنظيم "الضباط الأحرار"، وعيّن وزيراً للبلديات في أول تشكيل وزاري قامت به ثورة تموز/ يوليو.
محمود عنايت
افتتح الشقيق الأكبر باكورة نشاط الأسرة في العمل الوطني، بعدما انضم إلى جمعية فدائية، وهو لا يزال طالباً في مدرسة "المهندسخانة"، حيث جعل من منزل الأسرة في حي عابدين مقراً للاجتماعات.
بحسب ما ذكره جلال حمادة، فإن هذه الخلية نفّذت عمليات اغتيال ضد "الشخصيات الفاسدة المتعاونة مع البريطانيين".
شارك عنايت الأكبر في عملية اغتيال بطرس غالي، عام 1910، التي أُعدم فيها الفدائي الكبير إبراهيم الورداني. بعدها حاول تنظيمهم السري اغتيال الخديوِي عباس حلمي الثاني خلال زيارته للأستانة عام 1914، ثم دبّروا حادثتَي قتل للسُلطان حسين كامل، بسبب انصياعه السافر لأوامر الإنكليز، خطّط لها محمود بصحبة صديقه محمد نجيب الهلباوي.
ووفقاً لما روته لطيفة سالم في كتابها "مصر في الحرب العالمية الأولى"، فإن دور عنايت الأكبر في هذه العملية تمثّل في تحضير "صوابع ديناميت وضع فيها مسامير وربطها بالجلد وعمل لها كبسولة بشريط".
عقب فشل هذه العملية، حُكم على الهلباوي بالسجن المؤبد وعلى عنايت الأكبر بالنفي في سجن في مالطة. في السجن تدهورت صحته ومات عام 1917.
عبد الفتاح عنايت
وُلد عام 1900، وكان يعدّ أخاه محمود قدوةً له. شارك بصحبة أخيه عبد الحميد في مظاهرات 1919، وكانا خلالها طالبَين في المدرسة الثانوية.
اختار دراسة القانون في مدرسة "الحقوق"، وشكّل مع شقيقه عبد الحميد جمعيةً سريةً عُرفت باسم "التضامن الأخوي" لقتل العسكريين الإنكليز.
وبحسب اعترافات عبد الفتاح، التي نشرها الصحافي الوفدي مصطفى أمين، فإن جمعيته عملت بالتنسيق مع "مجلس أعلى للاغتيالات"، قاده أحمد ماهر والنقراشي وشفيق منصور.
وفقاً لعنايت، فإن فكرة التنظيم بدأت في كانون الثاني/يناير 1922، حينما فاتح عنايت المحامي شفيق منصور في رغبته في تنفيذ عمليات انتقام ضد الإنكليز. قال شفيق: "مش كفاية أخوك الكبير اللي راح؟"، فردّ عليه: "يجب أن ننتقم لجميع الضحايا وفي مقدمتهم أخي"!
نجح التنظيم في تصفية 35 ضابطاً وجندياً إنكليزياً، قبل أن يتورطا في ما هو أكبر؛ في تشرين الثاني/ نوفمبر 1924، أطلقا الرصاص على السير لي ستاك، سردار الجيش المصري في السودان، أمام مبنى وزارية الحربية في شارع الفلكي.
وشى بهما محمد نجيب الهلباوي، زميل أخيهما محمود في عملية اغتيال السلطان والذي حوّل ولاءه وأصبح عميلاً للإنكليز، فقبضت عليهما سُلطات الاحتلال وباقي الخلية، وحوكموا سريعاً ونالوا حكماً بالإعدام، إلا أن عبد الحميد نجا من حبل المشنقة في اللحظات الأخيرة، بعدما تقرّر العفو عنه بسبب صِغر سنّه، واستُبدل الإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة.
في 19 آب/أغسطس 1925، صدر الأمر الملكي بإسقاط عقوبة الإعدام عن عبد الحميد.
وبحسب مذكرات سعد زغلول، فإن هناك سبباً آخر لتخفيف الحكم على عبد الفتاح، وهو انهياره السريع تحت الضغط والتعذيب، والاعتراف للبوليس السري بتفاصيل دقيقة عن جمعيته وعن أعضائها.
هزَّ هذا الاعتراف من مكانة عبد الفتاح بين الوطنيين المصريين، بالرغم من قضائه 20 عاماً في السجن، بعكس شقيقه الذي رفض إدانة أيّ من زملائه ومات بسبب ذلك، فنال المجد الثوري وحده. ولولا مكانة أسرته الرفيعة لما سامحوه أبداً على ما فعل، وربما كانوا خططوا لاغتياله وعدّوه ضمن الخونة مثلما فعلوا مع محمد نجيب الهلباوي، الفدائي السابق الذي وشى بجميع أفراد الخلية.
قضى عبد الفتاح خلف القضبان 20 سنةً استغلّها لاستكمال دراسته القانونية، وأتقن لغات عدة.
يقول الصحافي والمؤرخ صبري أبو المجد في كتابه "صفحات مطوية من تاريخنا الوطني"، إنه كان يحرص على زيارة عبد الفتاح عنايت، خلال سجنه بدعوى إعداده لدراسة عن قضية مقتل السردار.
ويضيف أبو المجد: "كنتُ باستمرار أدعه يتحدّث لي عن والده ووالدته وأشقائه، وقد مات الأخ الأكبر محمود في السجن، وأُعدم الأصغر عبد الحميد، وهرب عبد الخالق إلى النمسا".
في كتابه نقل أبو المجد جزءاً كبيراً من اعترافات عبد الفتاح التفصيلية للنيابة، والتي منحتنا قدراً كبيراً من المعلومات عن عائلة عنايت، منها أنه وإخوته أيتام الأم، وأن أباه -عقب خروجه على المعاش- سافر إلى الإسكندرية وتزوّج هناك تاركاً لهم إدارة أملاكه المتمثلة في 3 منازل إيجارها 17 جنيهاً شهرياً.
كشف عنايت أيضاً، أن الأجواء كانت خاليةً لهم لممارسة العمل السياسي في غياب الأب، فلم يعد يشرف عليهم إلا جدّتهم لأمهم والخادمة.
أُفرج عن عنايت في عهد حكومة أحمد ماهر عام 1944. وخلال وزارة محمود فهمي النقراشي -العضو السابق في المجلس الأعلى للاغتيالات- (تولت الحُكم سنة 1948)، سُمح لعبد الحميد بكتابة مذكراته في الصحف، والتي شنَّ فيها هجوماً ضارياً على الإنكليز، الأمر الذي أثار حفيظة السفير البريطاني رونالد كامبل، وقدّم احتجاجاً عليه في لقاءٍ مع النقراشي، الذي اكتفى بوعده بإرسال المقالات للنائب العام ليُحدد إن كان محتواها يقع تحت طائلة القانون أم لا، وفقاً لما ذكره محسن محمد، في كتابه "مَن قتل حسن البنا؟".
وبحسب ما نُشر في كتاب "محمد أنور السادات: قصة حياة"، فإن عبد الفتاح عقب الإفراج عنه عمل في شركة أسّسها حسن عزت صديق أنور السادات، الذي سيُصبح رئيساً لمصر لاحقاً.
عقب وقوع ثورة تموز/يوليو، عمل في الشؤون القانونية في جريدة الجمهورية، ثم أسّس مكتب محاماة ومصنع نسيج، كما ساهم في تأسيس جريدة الأحرار، وفي 1964 ترجم كتاباً بعنوان "مصر كيف غُدر بها" طبعته وزارة الثقافة والإرشاد القومي حينها، وهو مذكرات إلبرت فارمان (Elbert Eli Farman)، القنصل العام لأمريكا في مصر من 1868 وحتى 1875.
كذلك ألّف عنايت كتابين هما: "الشدائد كيف تصنع رجالاً"، والثاني مذكراته في العمل الوطني بعنوان "قصة كفاح". كوّن جمعية "تخليد الكفاح القومي"، وتوفي في كانون الأول/ ديسمبر عام 1986، عن عمر ناهز الـ86 عاماً،، لتنعاه جريدة الجمهورية بخبرٍ صغير في صدر صفحتها الأولى بعنوان "وفاة المناضل".
عقب وفاته، أعدّت ابنته ابتسام كتاباً عن والدها بعنوان "الشهيد الحي عبد الفتاح عنايت: صفحات من تاريخ الفدائية المصرية".
عبد الحميد عنايت
التحق بمدرسة المعلمين العُليا، وكما تقدّم في سيرة أخيه، كان عضواً بارزاً وناشطاً في تنظيمهم السري الذي استهدف أمراً بسيطاً، وهو "قتْل الإنكليز" أينما وجدوهم، وعقب سلسلة ممتدة من الجرائم سقطوا باغتيالهم "لي ستارك". تمتّع بمكانة رفيعة داخل الجمعية السرية، فكان بمثابة الرسول بين جميع أعضائها.
يقول الدكتور سعيد عبد الرازق في كتابه "محمود فهمي النقراشي"، إن الجمعية تشكلت عقب نفي سعد زغلول للمرة الثانية في 1922، بهدف إرهاب الإنكليز وكسر شوكتهم في مصر، ولتحقيق هذا الأمر عمدوا إلى كتابة المنشورات السياسية الساخنة وإلى شراء الأسلحة والتدرب عليها لاستخدامها لاحقاً في تنفيذ حوادث إرهاب.
يقول محمد عبد الرحمن حسين في كتابه "كفاح شعب": "ظلّت هذه الجمعية تعمل في تكتم وحذر زهاء 3 سنوات حتى أقلقت الإنكليز وأعوانهم من المصريين، وأشاعت الخوف والرعب في قلوبهم وحرمتهم من الخروج ليلاً، فكان الإنكليزي يخرج من بيته إلى عمله وهو لا يدري إن كان سيعود إليه أم يختطفه الموت".
ويؤكد حسين، أن كثيراً من كبار الموظفين الإنكليز استقالوا من وظائفهم وعادوا إلى بلادهم، أما باقي الموظفين الإنكليز الذين بقوا في مصر، فلقد عقدوا اجتماعاً في فندق "الكونتننتال" حضرته جميع الجاليات الإنكليزية للتناقش في كيفية حماية أنفسهم من موجة الاغتيالات التي لم ترحم أحداً.
خلال هذه الفترة، نجحت "جمعية عنايت" في تنفيذ عمليات اغتيال مروّعة بحق موظفين إنكليز بارزين في نظام الحكم المصري، مثل: المستر براون، المراقب الإنكليزي العام لوزارة المعارف العمومية، والمستر بومباشي كيف، وكيل حكمدار بوليس القاهرة، والكولونيل بيججوت، مدير مالية الجيش، والمستر براون بيتر، مدير قسم البساتين في وزارة الزراعة، والمستر ويسون، أستاذ القانون المدني في مدرسة الحقوق، انتهاءً بحادث اغتيال السردار الذي مثّل نهاية نشاطهم.
عند القبض عليه، أبدى عبد الحميد صموداً كبيراً خلال التحقيقات ورفض الاعتراف بأي شيءٍ على نفسه أو على زملائه، وعندما واجهه المحققون باعترافات شقيقه قال: "أخي كذاب".
في الساعة السابعة من صباح يوم 23 آب/أغسطس 1925، نُفذ فيه حكم الإعدام في قضية مقتل السير لي ستاك، بصحبة باقي المحكوم عليهم بالإعدام.
وبحسب كتاب "تأملات في ثورات مصر"، لمحمد أبو الفضل، فإن عبد الحميد كان أول من أُعدم من رفاقه، وأبدى ثباتاً لحظة شنقه فقال: "أنا لا يهمني شيء، لقد قمت بما هو واجب عليّ خير قيام، ولا يهمني الإعدام، يا رب أدخلني جنة النعيم".
عبد الخالق عنايت
عمل مدرّساً للّغة الفرنسية، ثم درس الطب في جامعة "إنسبروك" (Innsbruck) في النمسا بدءاً من عام 1932. قبل رحيل عبد الخالق إلى النمسا أحضر شقيقيه، وقال لهما: "عبد العزيز علي هو شقيقكم الكبير فاحرصا عليه وعلى سلامته".
وفقاً لكتاب "البوليس المصري" لعبد الوهاب بكر، فإنه عند وقوع حادث السردار، أقدم البوليس السري المصري على إجراءٍ غير مسبوق، وهو إجراء تحريات حول أنشطة عبد الخالق وملاحقته في أوروبا، وبالفعل قدّمت أجهزة الأمن تقريراً سرّياً إلى القضاء رصد تحركاته خلال زيارته إلى ألمانيا وعلاقاته المتشعبة بـ"الاشتراكيين الدوليين" في روسيا وخارجها، على حد وصف التقرير الأمني.
انخرط عددٌ منهم في العمل الوطني المصري، ونفذوا عمليات اغتيال لن أبالغ لو وصفتها بأنها غيّرت تاريخ مصر حتى اليوم، بعدما تسبّبت في زعزعة عرش زعيم بحجم سعد زغلول
وقال عبد العظيم رمضان في كتابه "تطور الحركة الوطنية في مصر"، إن الصحافة البريطانية حاولت سكب المزيد من التضخيم على حادث السردار، فزعمت الديلي تلغراف، أن السوفيات لهم دور في الأمر بعدما فتحوا قناة اتصال وثيقة بعبد الخالق عنايت.
وفي 1937، عاد إلى مصر بعدما اشترى سمّاً "من أشد أنواع السموم"، خطط لأن يقتل به محمد نجيب الهلباوي الذي وشى بإخوته عند البوليس السري، لكن تعذّر تنفيذ الأمر بسبب تحصّن الهلباوي في منزله داخل قريته في المنيا؛ خوفاً من انتقام الناس منه.
وعندما علمت السلطات بوصول عبد الخالق إلى مصر، منعته من العودة إلى النمسا بسبب سفر الملك فؤاد إلى أوروبا، وخشيتهم من أن يدبّر عبد الخالق عمليةً لاغتيال الملك.
راسل عبد العزيز مدير الجامعة، واعتذر له باسم عبد الخالق عن عدم حضور الامتحان فتفهّم الأمر وسمح له بأدائها في موعدٍ آخر تمكّن فيه من العودة إلى النمسا عقب رجوع الملك إلى مصر.
لم يعد عبد الخالق إلى مصر، وتزوّج في النمسا، وأنجب عدداً من الأبناء، وبرع في مجال الطب، وعاش في أوروبا حتى مات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 18 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...