في تشرين الثاني/ نوفمبر 1915، وبعد نشوب الحرب العالمية الأولى، تحالفت تركيا مع ألمانيا وأعلنت الحرب على إنكلترا، ومن ثم بدأت تحرشات الجيش التركي في ليبيا بمنطقة السلوم المصرية، ما دعا بريطانيا إلى اتخاذ قرار بإقامة قاعدة عسكرية في مطروح لمواجهة هذه العمليات.
وبالفعل، كلّفت سلطات الاحتلال البريطاني ضباطاً وجنوداً مصريين، بقيادة محمد صالح حرب، بإخلاء مناطق معيّنة تمهيداً لإقامة هذه القاعدة، لكنهم أعلنوا ثورة مسلحة ضد الإنكليز، وانضم إليهم متطوعون من قبائل مرسى مطروح والواحات في الصحراء الغربية، وكذلك متطوعون ينتمون إلى الطريقة السنوسية، بقيادة أحمد الشريف، في مصر وليبيا.
ترحيل المدنيين من مرسى مطروح
في مذكراته التي نشرها في مجلة "الشبان المسلمين"، وهي مجلة شهرية كانت تصدر عن جمعية الشبان المسلمين، في أعداد مختلفة أعوام 1957 و1958 و1959 و1965، يذكر محمد صالح حرب أنه، وقت إعلانه الثورة على الإنكليز ليلة 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1915، كان يشغل منصب قائد قوات الهجانة والسواحل والحدود في مرسى مطروح.
ويروي أنه بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، أرسلت تركيا الضابطين نوري باشا وجعفر باشا إلى ليبيا، وأرادت أن تزج بالسيد أحمد الشريف و"المجاهدين" معه في حرب ضد الإنكليز في مصر، باستعدادات هزيلة، لكن الشريف كان يرفض الدخول في هذه المغامرة الفاشلة.
في تلك الأثناء، كلّف الحاكم السكري لمطروح سيسل سنو بك "حرب" بترحيل جميع سكان مطروح من المدنيين وعائلات الموظفين، وبالقيام بجردة لكل ما في الدكاكين من بضائع وتقدير أثمانها وإعطاء أصحابها إيصالات لتحصيلها من الإسكندرية، وذلك تمهيداً لاتخاذ المنطقة مركزاً للعمليات العسكرية ضد القوات التركية والسنوسية.
وفي 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، وصلت إلى ميناء مرسى مطروح ناقلات من الإسكندرية تحمل فرقة من الجنود الهنود، ومعها كل ما يلزم من مؤن وعتاد ومعدات للقتال، وعند الغروب وصلت 36 سيارة مدرّعة عن طريق البر، ثم بدأ محمد صالح حرب عمله في تشكيل لجنة جرد بضائع التجار.
لكن "حرب" اتخذ قراره بإعلان الثورة على الإنكليز في مطروح والانضمام بالضباط والجنود المصريين إلى القوات التركية وجيش السنوسي. يروي في مذكراته أنه كان يعلم أن جيش السنوسي لن يصمد أمام الإنكليز وسيُسحق، وكان يستصعب أن تنضم هجانة الحدود من الضباط والجنود المصريين إلى الجيش الإنكليزي لمحاربة إخوانهم العرب.
وبعد صلاة الصبح، في 25 نوفمبر، جمع الضباط والعساكر، وأخبرهم بما نوى عليه، وخيّرهم بين الانضمام إليه أو العودة إلى بيوتهم، فما كان منهم إلا أن وافقوا على الثورة وقتال الإنكليز، وقالوا في صوت واحد "الرب واحد والعمر واحد والوطن واحد".
المواجهة العسكرية الأولى
كان أوّل ما فكر فيه "حرب"، بعد ذلك، هو أن الإنكليز إذا أصبح الصباح سيعرفون كل شيء، ولا بد أن يجردوا قوة سريعة تقتفي أثرهم وتتعقبهم، وتجعلهم مثلاً لمَن تحدثه نفسه بالخروج على بريطانيا العظمى، ومن ثم فكر في أن يقيم وبسرعة كميناً يعيق تقدّم الإنكليز إذا حاولوا تعقبهم، ومتى فاجأهم فإنهم سيصرفون النظر عن التقدّم ويعتقدون أن هذا الكمين هو جزء من قوة لمقدمة الجيش السنوسي، فيعودون أدراجهم ليستعدوا لمقابلة هجوم السنوسي بهجوم يقومون به.
وحدث ما توقعه "حرب". فعندما اكتشف الإنكليز خروجه وخروج الضباط والقبائل عليهم جُنّ جنونهم، وكان أشدهم غضباً الأميرالاي سنو بك الذي اقترح قيام قوة من الفرسان بتعقب "حرب"، حتى أنه رافق القوة، فإذا بالكمين يفاجئهم ويوقع بهم، وكانت خسائرهم كبيرة، وكان سنو بك أحد القتلى في هذه المعركة التي سُمّيت بمعركة وادي ماجد الأولى.
ويذكر المؤرخ حمد خالد شعيب، رئيس لجنة الحفاظ على التراث في مطروح، لرصيف22، أن "حرب" خرج بعد ذلك بالضباط والجنود إلى دار العاصي في منطقة زاوية أم الرخم، غرب مرسى مطروح بنحو 20 كيلومتراً، والتي ازدحمت بالذين هبّوا لـ"الجهاد" بمجرد أن سمعوا الدعوة، واتجهوا جميعاً إلى الغرب.
وبحسب شعيب، هنالك أسباب محلية دفعت بسكان الصحراء الغربية للثورة على الإنكليز، أهمها القيود التي فرضتها قوات الاحتلال على البدو في التنقل من مكان لآخر، فضلاً عن المضايقات التي طالت البدويات.
بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، أرسلت تركيا الضابطين نوري باشا وجعفر باشا إلى ليبيا، وأرادت أن تزج بالسيد أحمد الشريف والمجاهدين معه في حرب ضد الإنكليز في مصر، باستعدادات هزيلة...
وكانت مع "حرب" قوات الهجانة وبعض مشايخ الزوايا السنوسية وزعماء القبائل، وقصدوا منطقة سيدي براني لمقابلة قائد الفرقة التركية القابعة هناك جعفر بك، ثم اتجهوا إلى منطقة "مساعد" شرق ليبيا لمقابلة السيد أحمد الشريف، وإقناعه بالمشاركة في مقاومة الإنكليز.
ويذكر "حرب" في مذكراته أن الشريف وافق رغم غضبه الشديد على العبث الذي يدور من حوله من جانب الضباط الأتراك، والذي سيؤدي إلى كوارث تحلّ على جيشه من أبناء القبائل ويذهب ضحيتها رجال أبطال دون تحقيق أي هدف، وإنما ليقال عن نوري وجعفر أنهما قاما بحركة ضد الإنكليز، وهما يعلمان أنها حركة "مذبوحة" لأنهما لم يعدّا لها أي عدة.
جيش "المحافظية" ضد الاحتلالين الإيطالي والبريطاني
لم يكن إصرار صالح حرب على الحصول على موافقة أحمد الشريف من أجل جلب جيش كبير من خارج الحدود، ولكن لعلمه بتأثيره الكبير على الزوايا المصرية ومتطوعيها، دينياً وأدبياً وتنظيمياً، حسبما ذكر عبد القادر طريف في كتابه "ثورة مصر المنسية/ مقاومة الاحتلال البريطاني في مطروح والواحات".
ولم يكن أحمد الشريف يستطيع منع أتباعه من مقاومة المحتل الإنكليزي في مسقط رأسهم في مطروح، وهم الذين تطوعوا أصلاً مع السنوسي للجهاد ضد الإيطاليين. ولذلك، كان السنوسي مطالباً برد الجميل ومساعدة المصريين في مقاومة الإنكليز.
أطلق على هؤلاء المتطوعين مسمى "جيش المحافظية"، نسبة إلى حافظي القرآن الكريم في زوايا السنوسي على طول مطروح وعرضها، وغيرها من المحافظات، مثل زاوية عبد القادر في الإسكندرية، وزوايا حمّور وأبو شوشة وحوش عيسى في البحيرة، وزاويتي أبو رواش وكرداسة في الجيزة، وغيرها.
هنالك أسباب محلية دفعت بسكان الصحراء الغربية للثورة على الإنكليز، أهمها القيود التي فرضتها قوات الاحتلال على البدو في التنقل من مكان لآخر، فضلاً عن المضايقات التي طالت البدويات
وقبل الثورة على الإنكليز، كان هذا الجيش يُجهَّز ويُدرَّب في هذه الزوايا، ويحصل على مؤونته وعتاده منها، إذ كانت الزوايا تجمع الطعام والأموال والسلاح من تبرعات أهل الخير، ومن أموال الزكاة والعشور والصدقات، وكذلك تجبي بعض الضرائب الإجبارية. ووفرت هذه الطريقة ما يقرب من 10 آلاف وربما 13 ألف مقاتل شاركوا في معارك ضد الاحتلال الإيطالي في ليبيا، ثم في معارك مطروح ضد الإنكليز.
وكانت هذه الزوايا تمارس أنشطتها وتجنّد وتجمع الأموال تحت بصر الدولة، بل وساهمت الأخيرة فيها أحياناً، كما في تنازلها عن جزء من ضرائب سيوة لصالح الزاويتين الموجودتين هنالك، لعجزها عن بسط نفوذها الكامل على تلك المناطق.
على كلٍ، قاد المتطوعون ضد الاحتلال الإنكليزي عبد العاطي أبو أمحيفظة العميري من منطقة النجيلة في مطروح، وهو أحد أبناء زاوية النجيلة البحرية، وسليمان أبو حنيش العميري، وهو خريج من نفس الزاوية، والشيخ حسين جبريل العاصي شيخ زاوية أم الرخم في مركز مطروح وأحد أهم قادة معارك وادي ماجد، ومحمد عبد الجليل أبو العروية المحفوظي، خريج زاوية المثنان جنوب شرق سيدي براني، وعبد النبي المصري الذي استشهد في معركة وادي ماجد، وغيرهم.
معارك عدّة وانقسام الثوار
بحسب أبو الفتح الصفتي، في كتابه "جهاد قبائل الصحراء الغربية ضد الاحتلال الإنكليزي 1915- 1923"، ضمّ قوام الثورة قوات الهجانة الموزعة على أقسام الحدود من مطروح حتى السلوم، وقبائل أولاد علي وجيش السنوسي والحامية العثمانية.
ويروي أن ثاني المعارك التي وقعت بين الثوار والإنكليز كانت معركة وادي ماجد الثانية في 13 كانون الأول/ ديسمبر 1915، وانتهت في نفس اليوم دون خسائر من الطرفين.
وفي 18 كانون الثاني/ يناير 1916 وقعت معركة بير أبو تونس شمال غرب مرسى مطروح بـ70 كيلو متراً، وشارك فيها أحمد الشريف وصالح حرب ونوري باشا وجعفر باشا، وقُدّر عدد الإنكليز بثلاثة آلاف جندي وضابط تساندهم عربات المدافع والطائرات، ومع ذلك تجاوزت خسائرهم 50 قتيلاً، وأكثر من 200 حصان من قوة الفرسان الإنكليزية.
ويروي طريف، نقلاً عن الدكتور محمود دياب في كتابه "الكفاح الإسلامي"، أن المجاهدين في معركة بير تونس كانت تنقصهم المؤن والذخائر، وكانت الأرض مكشوفة ويصعب السيطرة عليها، لذلك دار نقاش حاد بين القادة العسكريين، وطلب صالح حرب بالانتقال إلى الواحات وممارسة حرب العصابات، لأن التضاريس تسمح بذلك بعكس أرض مطروح المكشوفة التي تُعتبر مكاناً مثالياً لتحرك المدرعات والسيارات الإنكليزية، فضلاً عن أن الساحل في صالح الإنكليز حيث تمدّهم السفن والبوارج بالإمدادات وتشارك في القتال. غير أن الضابط التركي نوري باشا أصرّ على الاستمرار في المناوشات الساحلية لقربها من الإسكندرية.
واتُّفق في النهاية على أن ينقسم المقاتلون إلى مجموعتين: الأولى تتوجه إلى الواحات وتضم السيد أحمد الشريف ومجموعته والضباط والجنود المصريين النظاميين ويقودها عسكرياً "حرب"، وكان عدد مقاتليها 3500 شخص، وانضمت لها كتيبة من أبناء سيوة. فيما استمرت المجموعة الثانية بالقتال في مطروح والساحل، وكان عدد مقاتليها ستة آلاف شخص، وجميعهم من أبناء مطروح، إضافة إلى بضعة ضباط وجنود أتراك، وكان يقودها نوري وجعفر.
المجموعة الثانية هي التي حضرت آخر المعارك في المناطق الساحلية، وهي معركة العقاقير في أواخر كانون الثاني/ يناير 1916، وهُزم في نهايتها "المجاهدون" وتشتت جيشهم، وأُسر الضابط التركي جعفر باشا وأربعة ضباط أتراك وبعض المقاتلين.
وبانتهاء هذه المعركة، تشتت قوات "المجاهدين"، وبعدها دخل الإنكليز السلوم يوم 24 آذار/ مارس دون قتال، ثم دخلوا الواحات الداخلة والبحرية والفرافرة في تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 1916، وفي شباط/ فبراير 1917 دخلوا واحة سيوة.
ويذكر الصفتي أن بعض زعماء ومشايخ القبائل قُبض عليهم وهم جرحى في المعارك، والبعض الآخر قبض عليهم في الحملة التي قامت بها قوات الاحتلال عقب معركة العقاقير لهدم الزوايا السنوسية والمنازل ومصادرة الأموال، ورُحّل هؤلاء إلى سجون طرة في القاهرة وأبي زعبل في القليوبية وسراي الاعتقال السياسي في الجيزة وبلبيس، وكان أبرزهم العمدة فرج زهيويق، وولده داود فرج، وحميدة جبريل، والشيخ هارون بدر، وحميدة عطيوة، وحميدة كريم.
وقضى هؤلاء في سجون الاعتقال ثلاثة سنوات، ثم أُعيدوا بعدها إلى مطروح للمحاكمة، وقضت المحكمة العسكرية الإنكليزية على معظمهم بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة 25 عاماً، واستمروا في السجون حتى صدر عفو شامل عنهم سنة 1923.
مصير الضباط المصريين... أحكام إعدام ثم عفو شامل
ويذكر طريف أن الضباط والجنود المصريين، والذين زاد عددهم عن 134 شخصاً في أغلب الإحصاءات، وعلى رأسها الإحصاءات الإنكليزية، انتقلوا إلى منطقة الواحات المصرية حيث احتلوا واحات "البحرية" و"الفرافرة" و"الداخلة"، وهنالك بدأت حرب عصابات ضد الاحتلال طوال عام 1916 وأوائل عام 1917، وانتهت بتضييق القوات البريطانية الخناق على القوات المصرية، ما اضطرها إلى الانسحاب إلى واحة جغبوب.
وقتها، وصل أحمد الشريف خطاب من محمد إدريس السنوسي الموجود في منطقة عكرمة، في شمال شرق ليبيا، يقول فيه إن الإنكليز هددوه بتدمير جغبوب ونسف ضريح مقام والده محمد بن علي السنوسي، إذا لم يبرح أحمد الشريف الواحة، ما ترتب عليه مغادرة الشريف وحرب ومَن معهما جغبوب إلى واحات جالو وأوجلة في ليبيا، لتنتهي بذلك مقاومة الإنكليز في الواحات المصرية.
وبعدها، انتقل الضباط المصريون إلى الجهاد ضد الطليان، ومنهم مَن سافر إلى تركيا بعدما صدرت ضدهم في مصر أحكام عسكرية بالإعدام.
واستمر هذا الوضع حتى قامت ثورة 1919 في مصر، ثم إعلان استقلال جزئي في مصر عام 1920، أعقبه إعلان دستور عام 1923، وأجريت بموجبه أول انتخابات برلمانية، تولّت بعدها حكومة سعد زغلول زمام الأمور، وأعلنت عفواً عاماً في البلاد عن كل المحكوم عليهم في قضايا سياسية سابقة، فعاد هؤلاء الضباط من تركيا، وأُفرج عن المسجونين في مصر.
أما صالح حرب فصار عضواً في مجلس النواب بالانتخاب لعدة دورات، ثم اختير وزيراً للحربية في حكومة علي ماهر عام 1939.
وكان من بين مَن شارك في هذه الثورة عبد الرحمن عزام، الذي عاد من تركيا وانتخبه المصريون نائباً لأكثر من دورة، ثم عُيّن وزيراً، وهو صاحب فكرة إنشاء جامعة الدول العربية، واختير كأول أمين عام لها، واستمر في منصبه عدة سنوات.
أما الضباط من رفاق صالح حرب، فعادوا إلى القوات المسلحة، ومنهم مَن وصل إلى رتبة لواء مثل الأميرالاي محمود علي عبد الواحد، ومنهم مَن عُيّن محافظاً مثل علي عبد الوهاب، محافظ مطروح، وعلي شاهين، محافظ سيناء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...