يُعَدّ واحداً من أهم الشخصيات الثائرة في التاريخ المصري الحديث، وأحد رموز الحركة الوطنية، ويعتبره كثيرون واحداً من فقهاء زمانه المستنيرين. كان من أبرز تلامذة الإمام محمد عبده، وكانت الصحف تعج بآرائه الدينية والاجتماعية، رغم أن الأزهر عارضه في كثير مما طرحه. إنه الشيخ عبد الوهاب النجار، الناشط السياسي وعالم الدين الأزهري المصري.
من بين الأحداث التي أثّرت على النجار (1862-1941) اشتعال ثورة 1919. نشط في حراكها الشعبي بحماسة، وكان حاضراً في اجتماعات الأزهر وبيت سعد زغلول، ومحتكاً بالضباط الإنكليز وكبار الشخصيات السياسية في مصر، وبالتالي كان شاهد عيان على كثير من أحداث تلك الثورة التي عصفت به وبأهل وطنه.
وعلى طريقة يوميات الجبرتي في تأريخه للاحتلال الفرنسي لمصر، كان النجار يوثق كل ما شاهده ووصل إليه من أحداث الثورة بأماكنها وشخصياتها، من بدايتها مروراً بتطوراتها، وتقصّى كل ما كان يحدث في النجوع والقرى، بجانب اهتمامه بالطبقات الكادحة التي شاركت في الثورة، والرأي العام المصري الذي أفرد له مساحة كبيرة في شهادته. ولذلك، تُعَدّ مذكرات النجار المصدر الأدق والأوفى لثورة 1919.
بدأ النجار مذكراته بيوم التاسع من آذار/ مارس 1919 وانتهى يوم 23 حزيران/ يونيو من نفس العام. ويبدو أنه لم يكتب هذه المذكرات لينشرها، إذ يوضح في مقدمة شهادته أن السبب الذي دفعه إلى نشر مذكراته على الملأ هو أن الجرائد المصرية ملجمة عن قول الحق ومكفوفة عن الصدق، فلم تذكر الحقائق كما وقعت.
أراد أن ينشر روايته التي كتبها وقت حدوثها يوماً بيوم، خوفاً من أن تضيع الحقائق، ورغبة منه في خدمة التاريخ والحقيقة. جمع يومياته التي سجلها، ثم نشرها في 71 مقالة في صحيفة "البلاغ" تحت عنوان: "الأيام الحمراء"، وذلك في إشارة منه إلى دماء المصريين التي سفكها الاحتلال البريطاني في أنحاء مصر. وجُمعت هذه المقالات المنشورة بين 22 آذار/ مارس 1933 والخامس من حزيران/ يونيو من نفس العام في كتاب من إعداد وتحقيق د. مصطفى الغريب محمد، صدر عن دار الكتب والوثائق القومية عام 2010.
البدايات الأولى
يحكي النجار أن الثورة انطلقت يوم التاسع من آذار/ مارس 1919، بسبب انتشار خبر اعتقال سعد زغلول ومَن معه من أعضاء الوفد المصري من قبل سلطات الاحتلال الإنكليزي قبل ذلك بيوم، وأشعلها طلاب المدارس الثانوية والعليا.
تظاهرات الطلاب في القاهرة أثناء ثورة 1919.
تظاهر الطلاب بشكل سلمي، إلا أن البوليس المصري وسلطات الاحتلال خافوا من توسع التظاهرات بينهم، فقوبل تحركهم السلمي بقسوة فظيعة، واعتُقل العديد منهم. لكن ما كان يخشاه الاحتلال حدث. يروي النجار أن الكثير من طلاب المدارس لم يعلموا بالتظاهرة التي خرجت إلا حين وصلهم خبر اعتقال زملائهم، وهنا اتفق جميع الطلاب على مواصلة التظاهر يوم العاشر من آذار/ مارس.
وبحسب النجار، اجتمع طلاب المدارس الثانوية مع طلاب الأزهر وأجمعوا على الخروج في تظاهرة سلمية يعلنون فيها احتجاجهم على عنف الإنكليز ضد أهل البلاد، فنظموا أنفسهم على أن يسيروا إلى الوزارات ودواوين الحكومة.
سار الطلاب عند شارع الدواوين، وكان الجنود الإنكليز ينتظرونهم هناك، وحين شاهدوا المتظاهرين على مقربة منهم، أطلقوا عليهم الرصاص، فسقط في اليوم الثاني للثورة أول القتلى. أغرب ما شاهده النجار في ذلك اليوم هو أن الناس لم يهرعوا عندما سقط من بينهم قتلى وجرحى، بل كانت قطرات الدماء تلك البداية الحقيقية للثورة.
تشييع جنازة بعض ضحايا ثورة 1919.
شهدت مصر بعدها العديد من التظاهرات، وارتفعت المطالب إلى الحرية والاستقلال التام. وبحسب النجار، معظم الهتافات التي رددها الثوار كانت: "ليحيا الاستقلال، ليحيا الوطن، لتحيا مصر الحرة، لتحيا الحرية، ليحيا سعد زغلول، ليحيا نجيب غالي باشا، ليحيا الاتحاد، أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا".
الكفاح المسلح
تمددت رقعة الثورة في باقي الأنحاء المصرية، وشارك فيها عمال وموظفون وأرباب حرف، وأضرب طلاب المدارس عن حضور دروسهم، ولعبت منشورات الفئة الأخيرة دوراً كبيراً في تحريك الشارع، وتوسع الإضراب وشمل معظم الشرائح الكادحة، مثل عمال الترام والمواصلات، فتعطل سير المواصلات داخل القاهرة، ما اضطر الأغنياء إلى ركوب عربات الكارو.
إحراق الترام في القاهرة لمنع سيره.
استدعى القمع الوحشي الذي واجهت به سلطات الاحتلال البريطاني الإضراب والتظاهرات السلمية عنفاً منظماً من قبل الثوار، فقطعوا أسلاك التلغراف ودمروا خطوط السكة الحديدية لمنع وصول جنود الاحتلال الزاحف لقمع الثوار في مختلف أقاليم البلاد، كما قتل الثوار الموظف الإنكليزي الكبير في مصلحة السكك الحديدية آرثر سميث، فتعطلت الاتصالات والقطارات إلى الوجه القبلي، واللافت أن النجار يذكر أن الثورة امتد تأثيرها إلى الهند حيث قام الهنود بقطع المواصلات والسكك الحديدية أسوة بالثوار المصريين.
ويذكر النجار أن مدينة دير مواس، في محافظة المنيا، شهدت العديد من الأحداث الملتهبة خلال ثورة 1919، إذ قام الأهالي في 18 آذار/ مارس بقطع خطوط السكة الحديدية وقتلوا عدداً من ضباط الجيش الإنكليزي، كما حفروا خنادق في الطرق المؤدية إلى الإسكندرية لمنع السيارات من المرور، وعند كل خندق كانت توجد جماعة من الأهالي، يسألون السائر عن اسمه وشأنه ويأمرونه بقراءة الفاتحة، فإذا قرأها وضعوا الأخشاب على الخندق ليمر عليها.
ثم شيئاً فشيئاً، أفلت زمام التدبير من العقل، وصار الناس يصدرون عن وجدانهم لا عن عقولهم على حد تعبير النجار، فأعلنت العديد من المدن والمديريات المصرية استقلالها عن سلطات الاحتلال، وانتخبت إدارات محلية تدير شؤونها.
في قرية تدعى العزيزية، وصل الجنود الإنكليز، وأمروا الأهالي بالخروج من بلدهم وأخذ ما يخافون عليه من نقود ومصوغات، ففعلوا، وبينما هم في الطريق خارج قريتهم، حاصروهم وقتلوهم وسرقوهم، واغتصبوا النساء اللواتي حاولن النجاة من المذبحة
ففي مدينة زفتى، في محافظة الغربية، أعلن الثوار قيام جمهورية زفتى والانفصال عن مصر، وفي مدينة المنيا، هاجم الثوار ديوان المركز واستطاعوا أن يطلقوا سراح المسجونين بعد معركة دامية، ثم أعلن "الشيخ أحمد حتاتة" تنصيب نفسه إمبراطوراً على مدينة المنيا المستقلة.
وأيضاً، أعلنت فارسكور، في دمياط، استقلالها، وأعلن أهل الفيوم استقلالهم، وكاد أهل أسيوط أن ينجحوا هم أيضاً في إعلان استقلالهم، إذ يذكر النجار أن الثوار هناك هاجموا معسكرات لكتائب الإنكليز، وقتلوا 1500 جندي إنكليزي، إلا أن الإنكليز وقوات البوليس المصري سرعان ما قاموا بكسر شوكة التمردين الثوريين في كل الأقاليم المستقلة ونكّلوا بالأهالي وقبضوا على الثوار.
وحشية الاحتلال البريطاني
يسجل النجار في شهادته الكثير من مشاهد همجية الإنكليز ضد المجتمع المصري، مثل قتل الأطفال، وإطلاق الرصاص على المنازل وعلى الأهالي بلا سبب وبدون تمييز، وقيام فريق من الجنود البريطانيين بدخول حديقة الأزبكية، وتفريقهم الموت والقتل على الناس بلا تمييز على حد تعبير النجار. يقول: "رأيت بعض الإنجليز على مقربة مني في شارع زين العابدين وشارع سلامة وقد أطلقوا الرصاص من البنادق على بعض المارة كأنما يريدون أن يتصيدوا وحوشاً".
ووصل الأمر بالإنكليز إلى حصار العديد من مساجد القاهرة. وكانت مساجد مصر في تلك الفترة بمثابة ملتقيات سياسية، حتى أن ثورة أهل قليوب تحركت من المساجد. لكن أهم مسجدين حاصرهما الإنكليز هما جامع الأزهر والحسين، كما ضربوا الجامع الأخير بالمدافع، وارتكبت فيه يوم الجمعة، في 14 آذار/ مارس مجزرة بشعة عند بابه الأخضر. يروي النجار أن الجنود الإنكليز انتظروا المصلين للخروج من المسجد، ثم أطلقوا النار بغزارة عند الباب الأخضر لدرجة أنه تحول إلى بركة دم وآكام من جثث الأبرياء.
ويذكر النجار أن الشيخ محمد شاكر، وهو من كبار علماء الأزهر المؤيدين بشدة للثورة، ذهب إلى سكرتير دار الوكالة البريطانية، مستر كومباين، وقال له: "لقد أوجدتم في كل بيت من بيوت مصر مأتماً، فلم يبقَ مجلس من مجالسنا العامة والخاصة إلا وفيه عيون تذرف الدموع، وأنا لا أفهم كيف يقبل الشرف البريطاني والشهامة البريطانية أن يصدر هذا العمل من الجند البريطاني".
حصار الجامع الأزهر أيام ثورة 1919.
وكان الجنود الإنكليز يتواجدون بكثرة في جهات المشهد الحسيني والأزهر، ويذكر النجار أن قوات الاحتلال البريطاني مدعومة برجال البوليس المصري حاصروا الجامع الأزهر عدة مرات، وصوبوا المدافع نحوه، كما كانوا يفتشون المصلين، ويستعدون لقمع التظاهرات المرتقبة عقب صلاة الجمعة، وكان الجامع الأزهر معقلاً أساسياً لثورة 1919 وغاصاً بالثور والخطباء. يقول النجار: "يوم السبت 22 (آذار) مارس: لا تزال المواصلات على حالها من الانقطاع، والجند الإنجليزي يقطع طرق الأزهر على الأزهريين والطلبة، وهو آخذ بأفواه جميع الطرق المؤدية إلى الأزهر، إلا بعض مخارم لا يعرفها سوى الأزهريين في ناحية شارع الشنواني، وقد جُرد البوليس المصري من الأسلحة جميعها سوى العصي، وذلك خوفاً من انضمامهم إلى المتظاهرين".
شارع الشنواني.
كذلك، يذكر النجار عدوان الإنكليز الهمجي على الفلاحين، ويبدو أنهم كانوا من أكثر الفئات التي تم التنكيل بها في الثورة، فقد عقدت لهم محاكمات جائرة، ونصبت لهم المشانق وسجنوا وجلدوا على مرأى ومسمع من الجميع، من ذلك محاكمة عسكرية إنكليزية عقدت في "صفط الملوك"، وصدرت فيها أحكام قاسية تفوق بشاعة دنشواي.
في الواقع، تفنن الإنكليز في تعذيب الأهالي. من ذلك قصة الجلد البشع التي رواها النجار، ومفادها أن الإنكليز أخذوا أعدداً كبيرة من الناس في الصعيد، ولم يجلدوهم بالطريقة المعتادة على الظهر، بل كانوا يلفون الإنسان بخشبة خلف ظهره ثم يجلدونه على بطنه عارياً وعلى وجهه بالكرباج السوداني، ومات بعض الناس، وبعضهم قطعت آذانهم، والأغلبية شُوهت وجوههم.
والعديد من القرى القريبة من خط السكة الحديد أبادها الإنكليز عن بكرة أبيها، فقد كانوا يضربونها بالقنابل بواسطة الطائرات، فضربت الفيوم وبني سويف الوسطى، وأبيد سكان أربع قرى في الصعيد وبعض قرى البحيرة.
أراد الإنكليز في إحدى المرات إجبار طلبة مصريين على ركوب عربة معيّنة، فلما اعترضوا، قال لهم الضباط: "أنتم ذباب دنيء وحشرات محتقرة، وسأعلمكم كيف تحبون الإنكليز وكيف تحترمونهم، ولا يغركم أنكم متعلمون"
ويروي النجار موقفاً بشعاً قام به الإنكليز قبل حرق أحد القرى. ففي قرية تدعى العزيزية، وصل الجنود الإنكليز، وأمروا الأهالي بالخروج من بلدهم وأخذ ما يخافون عليه من نقود ومصوغات، ففعلوا، وبينما هم في الطريق خارج قريتهم، حاصروهم وقتلوهم وسرقوا كل ما حوته أيديهم من مصوغات ونقود، أما النساء اللواتي حاولن النجاة من المذبحة، فقد اغتُصبن، ويعقب النجار: "إن القوم غدر خداعون لا عهد لهم ولا ميثاق".
وحتى الفئات المتعلمة من المجتمع المصري لقيت الكثير من بذاءة الإنكليز أثناء الثورة. يذكر النجار العديد من المشاهد العنصرية، منها أن الإنكليز أرادوا في إحدى المرات إجبار الطلبة على ركوب عربة معيّنة، فلما اعترضوا، قال لهم الضباط: "أنتم ذباب دنيء وحشرات محتقرة، وسأعلمكم كيف تحبون الإنكليز وكيف تحترمونهم، ولا يغركم أنكم متعلمون".
تنفيذ أحكام الجلد بحق المشاركين في ثورة 1919 في أحد الميادين العامة.
بطولات النساء في ثورة 1919
بنظرة من الإعجاب، يحكي النجار عن مشاركة النساء المصريات في ثورة 1919، والتي يعدها البعض أول تظاهرة لهنّ في التاريخ الحديث، لكن يلاحظ من كلام النجار أن مشاركة المرأة في الثورة طغت عليها فئة اجتماعية معينة، يسميها بـ"عقائل العائلات الراقية".
ويبدو أن النجار يقصد هنا سيدات الطبقة الأرستقراطية، فالسيدات اللواتي قدن التظاهرات في الثورة كن من الطبقات العليا، وقد اعتقل أزواجهن من قبل الاحتلال البريطاني، مثل صفية زغلول حرم سعد زغلول، وهدى شعراوى حرم علي شعراوي.
هدى شعراوى تسير في مقدمة بعض المتظاهرات.
ويروي النجار أن هؤلاء السيدات خرجن في التظاهرات بدافع مشاركة الرجال في إبداء العاطفة الوطنية نحو البلد، وسرن في صفين على جانبي الطريق، وفي أيديهن عرائض كتبت فيها مطالب المصريين وفي مقدمتها استقلال البلاد، بجانب رفع علم أبيض كبير وضع فيه الصليب داخل الهلال بلون أحمر، وعلم آخر كتب عليه "الحرية من آيات الله.. الحرية غناؤنا والاستقلال حياتنا".
وبحسب النجار، بلغت أعداد المتظاهرات في أحد الاحتجاجات 320 امرأة، سرن معاً في شوارع القاهرة الرئيسية، وقصدن دور القنصليات، ثم ذهبن إلى ميدان سراي عابدين، قاصدين منه الذهاب إلى بيت سعد زغلول. ويحكي النجار أن الإنكليز حاولوا إيقاف التظاهرة، وصوّبوا بنادقهم نحو السيدات، فتقدمت امرأة شجاعة وكشفت عن صدرها بيدها اليسرى، وقالت لأحد الضباط الإنكليز: "هذا صدري فهات ما عندك، نحن لا نهاب الموت"، وظلت واقفة في مكانها والضابط أمامها خجلاً خافضاً سلاحه، ثم أمر عساكره بإفساح الطريق. ويعلق النجار على هذا المشهد بالقول: "لم يسبق لي ولا لأحد أن رأى مثل ذلك قبل هذا اليوم".
نساء مصريات يتظاهرن ضد الإنكليز برفقة الرجال في ثورة 1919.
يروي النجار مشاهد كثيرة من مشاركة المرأة في التظاهرات، بل والجنازات الشعبية أيضاً، ويبدو من كلامه أن نساء الطبقة المتوسطة والفقيرة شاركن أيضاً في الثورة وإنْ لم يؤرخ لهن أحد.
ففي أثناء هجوم الإنكليز المتكرر على جامع ابن طولون الذي يسكن النجار بالقرب منه، كان الناس يقومون بتشييع العديد من الجنازات، وكانت تمشي فيها نساء من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة في الخط الأمامي، ويذكر النجار أن بعضهن ألقين خطبة مؤثرة وهتفت لشهداء الحرية.
واللافت أن النجار يذكر أن النساء الثوريات كن يجتمعن أيضاً في الجوامع مثل الرجال، خصوصاً وأنه لم يكن يوجد في ذلك الوقت لا إذاعة ولا تلفزيون، فكان المسجد ملتقى ثورياً للنساء المصريات الفقيرات اللواتي لا يستطعن الذهاب إلى الملتقيات الكبيرة الخاصة بالطبقة الأرستقراطية. ويحكي أنه شاهد في مسجد السيدة زينب يوم الثلاثاء 22 نيسان/ أبريل، عقب صلاة الظهر، مجموعة من السيدات، وقامت منهن خطيبة ندية الصوت ذلقة اللسان على حد تعبيره، ثم تابعتها أخريات، وتنوعت خطب هؤلاء النساء ما بين الوطنية والإنشاد ومتابعة أخبار البلد. كل هذا داخل المسجد.
الثورة المضادة
يحكى النجار أن الإنكليز أعلنوا حظر التجول في البلد من الساعة السابعة مساءً إلى الساعة الخامسة صباحاً، ولما فشل، أصدروا منشوراً آخر يحظر الاجتماعات في الشوارع والمقاهي والدكاكين والمحال العمومية، كما مُنع الاحتفال برؤية هلال رمضان خشية التظاهرات.
لم تعطل هذه الإجراءات النشاط الثوري، وهنا يرى النجار أن الإنكليز راحوا يشجعون على عمليات التخريب والنهب، من أجل إظهار الثورة في لون غير لونها ورمي المتظاهرين بالبلطجة وإلباسهم مظهر النهب والسلب.
يذكر أنه علم بتظاهرة اشترك فيها طلبة الأزهر مع طلبة المدارس، واندس في غمار الثوار بعض الأشخاص الذين ارتدوا ملابس الأزهر، وقاموا بتحطيم بعض المحال التجارية بالموسكى، وسرقة ما تصل إليه أيديهم من البضائع، ولم يكتفوا بذلك، بل حطموا زجاج مصابيح الشوارع في كثير من جهات القاهرة، وحطموا أيضاً عربات الترام.
وحزن النجار كثيراً بسبب أعمال التخريب، إذ يرى أن ما بُني في 15 سنة خُرّب في عشرة أيام، ويأسف لأن بعض الثوار انجرفوا نحو أعمال التخريب تحت تأثير الغضب، وقد حاول إقناع العديد منهم بالعدول عن هذا الأمر.
كذلك، يروي أن رجال البوليس المصري السري كانوا يندسون وسط الجموع وفي المساجد والكنائس، لكن الطلاب الأزهريين استطاعوا الحصول على أسماء هؤلاء الجواسيس وأماكن سكنهم، وكتبوها على أوراق وألصقوها على أعمدة الأزهر، فهرب الجواسيس من الجامع. ويبدو من كلام النجار أن قضية الجواسيس والمندسين أرهقت المتظاهرين كثيراً، إلى درجة أنهم شكلوا جماعة لهذا الشأن.
الشرطة المصرية تجلد مؤخرة أحد الثوار بعد القبض عليه ضمن أحداث ثورة 1919.
وحين فشلت مساعي إجهاض الثورة، حاول الإنكليز إلصاق الثورة بتهمة وقوف الألمان ورائها، وأنهم أصحاب اليد فيها، بل يذكر النجار أنهم تحدثوا كثيراً عن نقود ألمانية تمول الثوار، وبعض الإنكليز الآخرين تحدثوا عن أن جمعية الاتحاد والترقي التركية تمول الثورة، ويعقب النجار: "فما أسخف العقول التي تتصور ذلك، وما أحط النفوس التي تسمح لنفسها باعتقاد هذه السخافات".
ثم عندما فشل السيناريو الألماني، حاول الإنكليز إثارة الفتنة الطائفية بين المصريين، فزعموا أن الثورة دينية ضد الأقباط والأجانب، لكن فطن المسيحيين والمسلمين لهذا المسعى الخبيث، وتبادلت منابر المساجد والكنائس الرسائل الوطنية، بل وانعدمت الحوادث الطائفية خلال الثورة رغم محاولات إشعالها.
ويسرد النجار الكثير من قصص التلاحم الفريد بين المسيحيين والمسلمين ويتحدث عن إعجابه الشديد بخطبة ألقاها "القمص سرجيوس" حث فيها بطريقة بديعة على الاتحاد من أجل الحرية ومقاومة الاحتلال، وقد نفاه الاحتلال بعدها إلى رفح. يقول النجار: "يوم السبت 19 (نيسان) أبريل: شهدت اجتماعاً حافلاً بالأزهر، احتشد إليه الطلبة والموظفون والعلماء والقسوس وأصناف الناس، وتبودلت الخطب في موضوع الإنجليز وفتكهم بالعباد وتخريبهم البلاد ومعارضتهم للمصريين في أمانيهم القومية".
في سيناريو آخر، حاول الإنكليز تسكين هياج الشارع من خلال استمالة وجهاء الناس الذين لهم كلمة مسموعة بين العامة. وبحسب النجار، أرسلوا إلى كبار الموظفين المصريين في الدولة وأمروهم بالطواف في القرى والمدن لتهدئة الحال وتسكين الناس، إلا أن العديد منهم رفضوا القيام بذلك، فعول الإنكليز على تلاميذ مدرسة البوليس والإدارة، فرفضوا هم أيضاً.
واللافت أن الإنكليز كانوا يطبعون الكثير من المنشورات التي أوردها النجار في شهادته، منها منشور ألقي على الفلاحين في القرى بواسطة الطائرات، يناشدهم العودة إلى العمل، وألا ينخدعوا بما يروجه فتيان مصر من الحرية والاستقلال، كما شملت المنشورات تهديدات للفلاحين بحلول المصائب بهم من الجيوش الإنكليزية وقتلهم وإتلاف مزارعهم وتخريب قراهم، وأنهم لن يجدوا عطفاً من باريس ولا لندن.
قوات البوليس المصري تعذب بعض المشاركين في ثورة 1919 بعد تعريتهم من ملابسهم.
وبعد فشل كل هذه المساعي، استعان الإنكليز بـ"الأرمن" القاطنين في مصر لإخماد الثورة من جهة، وتصويرهم من جهة أخرى على أنهم مضطهدون يتعرضون لعنف الثوار، من أجل استثمار الورقة الأخيرة في مؤتمر الصلح في باريس. فبحسب ما يرويه النجار، تمركز بعض الأرمن في أعلى بيوت شارع عابدين وأطلقوا الرصاص على المتظاهرين، فرد المتظاهرون عليهم بمثل ما صنعوا. وفي الواقع، كان الأرمن يقفون بجانب بريطانيا ويعترفون بحمايتها على مصر، مع الأخذ في الاعتبار أن الأرمن كانوا يعتمدون على بريطانيا في حل قضيتهم، وبالتالي تعاملوا حسب مصلحتهم.
ولم ينسَ النجار الإشارة إلى نفاق الدول التي وقفت في البداية مع الثورة مثل إيطاليا وأمريكا، ثم سرعان ما اعترفت بحماية إنكلترا على مصر. وأيضاً سجل النجار موقف الجيش المصري من الثورة، والذي كان يؤثر مهادنة الإنكليز. يذكر النجار أن أكبر ضابط مصري، الفريق إبراهيم فتحي، اجتمع مع بعض القيادات الثورية وأمرهم بوضع حد للثورة وتهدئة الشارع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...