حين سئل بعض أهل صيدا عن الحادثة التي حصلت على شاطئ مدينتهم الشمالي، في 14 أيار/ مايو، ثم أعقبها ذيلها في 21 من الشهر نفسه- وهي أمر شيخ معمم امرأة من أهل المدينة، تسبح في لباس بحر (مايوه) على شاطئ يعود إلى البلدية، بالخروج من "المسبح الشعبي"، و"الاستتار" بلباس "محتشم"، ثم، بعد أسبوع، انتصار تظاهرتين للمرأة وللمعمم، وأمر المجلس البلدي بغلق المسبح في وجه المستحمين- (حين سئلوا) عن رأيهم في الحادثة، وتعليلهم وقوعها في هذا الوقت، وهذا المكان، أجاب معظمهم في أول الأمر، أنها لا تستحق التعليق والوقوف عندها. فهي تجمع الضآلة، أو ضعف الدلالة والأهمية، إلى الاعتياد السائر والمكرر.
ويؤيد هذا الرأي، أو قد يؤيده، حصول الحادثة في إطار خلاف أو نزاع "المحافظين" المتدينين (المسلمين أو الإسلاميين في هذا المعرض)، والمدنيين "التقدميين"، على معايير الظهور والسلوك في الحياة العامة، ودوائرها العلنية والمشتركة. فمنذ طلب الحركات الإسلامية السياسية "أسلمة" الحياة العامة، حين استيلائها على السلطة أو قبل هذا الاستيلاء وتمهيداً له، تحولت معايير الظهور والسلوك إلى مدار من مدارات هذا النزاع المتعاظم، ووجه من وجوهه اليومية.
وتجدد حادثة "المسبح الشعبي" على شاطئ صيدا الشمالي، والمحاذي للطريق العامة التي تصل صيدا بالعاصمة بيروت، على بعد أقل من 40 كيلومتراً، خلافاً بين اللبنانيين المسلمين، سنّة وشيعة، تجلى في صور وأشكال كثيرة، تبعاً للأوقات والأماكن والجماعات.
تُجدد حادثة "المسبح الشعبي" خلافاً بين اللبنانيين المسلمين، سنّة وشيعة، تجلى في صور وأشكال كثيرة، تبعاً للأوقات والأماكن والجماعات
فأُكره شطر من مسلمي (ومسلمات) طرابلس على التزام حجاب قريب من البرقع، أو التشادور على أضعف صيغة أو تقدير، حين سيطرت حركة التوحيد الإسلامي (الشيخ المعمم سعيد شعبان)، في أعقاب جلاء الفصائل الفلسطينية المسلحة عن المدينة في 1982- 1983، واقتتال أحزاب لبنانية و"حليفة" للقوات السورية، وأخرى معادية و"حليفة" لإيران الخمينية، على المدينة والسيطرة عليها.
إسلام وغرب
وعمّ الحجاب، في صيغ متفرقة، أوساطاً شيعية، في المهاجر القسرية والضواحي والبلدات شبه الريفية، في معرض بسط حركة "أمل"، أو جناحها "الإسلامي"، نفوذها على الأطراف و"الضواحي" ثم في سياق استيلاء "حزب الله" على هذه البيئات، في موازاة اشتداد ساعد الجهاز العسكري- الأمني ("المقاومة الإسلامية")، وتولي المرافق "المدنية" (مؤسسة الشهيد، جهاد البناء، كشافة المهدي... والتعاونيات والمدارس الملحقة) رعاية "مجتمع الحاجات" الأهلي وتعهّده ومراقبته من قرب. وطُرد بائعو الكحول من الأحياء بواسطة المتفجرات الليلية...
ومنذ أربعة عقود، على أضعف تقدير، تشهد مجتمعات عربية وإسلامية كثيرة أخذاً ورداً تتفاوت حدتهما، ويتفاوت عنفهما، موضوعهما صور الظهور في الحياة الاجتماعية أو العامة. وتقاس هذه الصور على مثالين معياريين: المثال "الإسلامي" والمثال "الغربي". وإذا سَيَّسَت إجراءات مصطفى كمال أتاتورك في الملبس، والقيافة، والمشرب، والمأكل، والأبجدية، والاختلاط- في أواخر الربع الأول من القرن العشرين، مسائل مثل الاختيار بين القنباز والعباءة وبين الصدرية والسترة وتحتهما القميص، أو بين الملاية السوداء وتحتها الثوب الطويل، وبين إظهار الثوب الملون و"وصفه" جسم المرأة، لم تلبث هذه المسائل أن تركت بعض الشيء إلى تفاعل المثالين البطيء، وإلى عدوى واحدهما الآخر، وتوليفه من الإثنين وفروعهما مركباً تتقدّم جماليته وعمليته معياريته "الحضارية" المفترضة.
والحق أن الحركات السلفية لم تسكت يوماً عما عدّته التزاماً دينياً بالأوامر والنواهي أو إخلالاً بها وانتهاكاً، قبل "الإخوان" وبعدهم. وإنشاء جمعية الإخوان المسلمين أواخر العقد الثالث من القرن العشرين، في الإسماعيلية، المدينة المولودة من أعمال قناة السويس، وشركتها وخديويها "الأوروبي"، يكاد يكون، على صعيد الاجتماعيات، رداً مباشراً على نزول جاليات غربية، كثيرة ومتجانسة وآمرة، بين مسلمين هم "أهل البلد" وقلة ضعيفة فيه. وحملت رسائل حسن البنا (1906- 1949) الأولى إباحة الحانات، وتناول المشروبات الروحية وسفور النساء، على "اغتصاب" يفوق الاحتلال العسكري أذى وعدواناً.
والحادثة الصيداوية، في اللوحة اللبنانية أو البلدية الضيقة، عَرَض ثانوي أو هامشي من أعراض النزاع العريض والمزمن هذا. وتضافر على إبراز الحادثة أمران: الأول هو نموذجية الطرفين المتقابلين والمتنازعين، وتمثيل كلاهما تمثيلاً حاداً على "معسكره" أو "حزبه". والثاني هو بقاء الخلاف في إطار سجالي سلمي، على رغم المواجهة القصيرة بين التظاهرتين، وانتقاله إلى مسرح الشبكة والوسائط الاجتماعية، وعلانيتها الإعلامية والتحريضية. وكانت السيدة ميساء حانوني (50 عاماً؟) صاحبة لباس السباحة، المبادرة إلى نقل الحادثة إلى العلن، والخوض فيها. وهي لم تتستر على اسمها، ولم تتجنّب محاورة الإعلام، وزوجها إلى جنبها، وصاغت الخلاف في صورة عدوان غير ذي حق ومنتحل صفة على مواطنين آمنين في كنف مجتمع آمن.
الهرب إلى بيروت
والسيدة ميساء حانوني أو الحانوني- وهذه شهرتها عزباء، ومن يعرفونها يضيفون شهرة الزوج، يعفوري، إلى شهرتها الأولى، على ما تفعل هي على مثال محدث أو غربي لا يقتصر على التقليد أو المحاكاة، ويقصد به من دون لبس حمل الزواج على عقد بين اثنين يتشاركان التوقيع عليه ويتقاسمان التبعة عنه- تكاد تكون عَلَماً على حداثة اجتماعية وشخصية صريحة وبـ"الفم الملآن". ومصدر قوة هذه الحداثة قيام طبقة وسطى محافظة، وبلدية، بها، ومن غير تزمت، على ما يصفها صيداوي "عريق" ونبيه.
كانت بيروت متنفساً للفئات الوسطى المحلية، المولودة من تقسيم عمل اجتماعي كثير الوجوه، ولرغبة متعلميها وموظفي مكاتبها وأصحاب مهنها الحرة وشبابها من الجنسين في تذوق ثمرات الحداثة الاجتماعية واستهلاكها
وأهلها كانوا أصحاب محل خضار في وسط صيدا، غير بعيد من "حسبة" المدينة، أو سوق القضاءين الزراعيين اللذين يحوطانها من الشرق والجنوب، إلى قضائها هي. وما يستحق الذكر في الأمر، على ما يروي الصيداوي، هو تجديد أصحاب المحل في اختيار بضاعتهم، وجودتها. وفي عرضها والتأنق فيه. وذلك، ربما، قياساً على تقليد سوق الحسبة الفج، ورميه الصناديق على أرض الفناء، واستنكافه عن ترتيبها على الرفوف. ولم يصمد المحل المجدد والأنيق، والغالي السعر على الأرجح، طويلاً. فاضطر أصحابه، آل الحانوني، إلى الهجرة إلى بيروت، والعمل هناك.
وهذه الحال- محاولة التجديد، الخروج من دائرة التقليد، تكلفة التجديد والخروج هذين، "الهرب" إلى بيروت حلاً- قرينة على معوقات التحديث، بالغاً ما بلغ تواضعه وتناوله موضوعاً ضعيف الدلالة الرمزية، في المدن الصغيرة أو "الضيعوية"، على ما يسميها الفرنسيون. وعالج صيداويون كثر، ومثلهم طرابلسيون وبعلبكيون وكسروانيون ونبطانيون (من النبطية، بلدة أو مدينة جنوبية في وسط الأراضي والروابي) على مقادير متفاوتة، بطء تحديث الحياة الاجتماعية ومرافقها العامة في المدن الصغيرة، وكبح الاختلاط وارتياد المقاهي والمطاعم وصالات السينما والنوادي وتعليم النساء الثانوي والجامعي وعملهن والاحتفال بالأعياد العامة والخاصة... عالجوا البطء والكبح، والحظر في بعض الأحيان، بالتردد إلى بيروت، أو باللجوء إليها.
فكانت بيروت متنفساً للفئات الوسطى المحلية، المولودة من تقسيم عمل اجتماعي كثير الوجوه، ولرغبة متعلميها وميسوريها وموظفي مكاتبها وأصحاب مهنها الحرة وشبابها من الجنسين في تذوق ثمرات الحداثة الاجتماعية واستهلاكها. وأدى استعجال التنفس والتذوق، من وجه آخر، إلى التراخي في طلب التحديث المحلي، والاستعاضة عنه، وعن تمكينه وتقويته في وجه الرتابة والكسل المحليين، وفي وجه ضيق ذات اليد وضعف الموارد، بـ"الأصيل" البيروتي، الجاهز والقريب المتناول.
فبقيت حداثة صيدا، شأن حداثة المدن الصغيرة وعواصم الأقضية، وعلى رغم اكتساحها دوائر الحياة العامة، تشكو الهزال والركاكة والتعويض عن أصيل بيروتي (ولا يعني هذا أن "الأصيل" المفترض معافى الأصالة وعريقها، فمعيار الحكم يتناول إجراء المواصفات وتماسكها وإحساس أصحابها). وقامت هذه الحداثة بإزاء "قطاع" أو دوائر محافظة، ومتمسكة بمعايير عمل ورأي قاطعة ومتشددة في بعض المسائل التي تتناولها الأوامر والنواهي، ومتساهلة أو متوسعة في مسائل أخرى مثل تعليم النساء واختلاطهن حيث لا معدى من الاختلاط.
سيرة المرأة
وميساء الحانوني هي من بنات جيل الحداثة الثالث أو الرابع، قياساً على مجايلي شبابهم الأول أو مراهقتهم الحرب الثانية. فأتمت دراسة جامعية، ودخلت سوق العمل باكراً، وتزوجت بزميل في سنها اختارته واختارها، ينتسب إلى عائلة ورثت وقفاً عائلياً في وسط صيدا (قرينة على قدم تقليد أسرة وثقافي واجتماعي). وبعض قريبات الزوج، من جيل والده، عملن في التعليم الرسمي في أواسط القرن الماضي. وقصر الزوجان أولادهما على اثنين. وتميل العائلة إلى الاقتراع، في الانتخابات البرلمانية التي عادت تشهد منافسة حادة بعد طي هيمنة حريرية (نسبة إلى رفيق الحريري فولده) موقتة، إلى أسرة البزري "الوسطية".
ميساء الحانوني هي من بنات جيل الحداثة الثالث أو الرابع، قياساً على مجايلي شبابهم الأول أو مراهقتهم الحرب الثانية
وقبل عقد من السنين توجت السيدة مسارها الدراسي المهني بتوليها إدارة مركز تجاري، "مول" بارز في صيدا. وجمعت إلى الإدارة، والمرتبة الاجتماعية المتفرعة عنها، اهتماماً بالمحترفات وأهلها، فرعت، في المول التجاري، معارض حرفية. ونسجت علاقات عملية وشخصية بنساء يزاولن حرفاً فنية، وترشحت إلى المجلس البلدي وانتخبت عضواً عاملاً. وزاولت السباحة وألعاب القوى مزاولة نحت إلى الاحتراف.
وشأن كثيرات وكثيرين مثلها، آثرت السباحة والتريض في بلدة الرميلة "المسيحية"، إلى شمال صيدا، وشاطئها الحر الذي لجأ إليه الشيوعيون اللبنانيون وأنصارهم غداة غزو القوات الإسرائيلية لبنان، صيف 1982، واحتلالها شطراً من الشوف ومن الجنوب إلى شتاء 1985، تفادياً لملاحقة الإسرائيليين البوليسية واضطهاد "الإسلاميين" الشيعة الناقمين يومها على "انحياز" الاتحاد السوفياتي إلى صدام حسين على دولة الخميني، والمتعهدين إنشاء "دولة الإسلام الإلهية" على الأرض.
ولما اندلعت حركة الاحتجاج المدنية، في خريف 2019، على الفساد والانهيار السياسيّين والاقتصاديّين، نزلت جماعات من الصيداويين إلى ساحة إيليا، القريبة من المول. فكانت "الناشطة" المدنية والبلدية، على ما عرفها أمثالها وعرفت نفسها، ميساء الحانوني اليعفوري، بين المتظاهرين والمحتلين المحتجين.
الشيخ والأمر
هذه هي المرأة التي كانت تستقبل وزوجها شمس 14 أيار/ مايو وأحده، على شاطئ صيدا، ومسبحه الشعبي، البلدي والحكومي، في لباس البحر النسائي، حين تقدم من الزوجين رجل ثلاثيني، معمم الرأس، يرتدي ثوباً طويلاً تحت معطف صيفي رقيق، ووراءه معممٍ ثانٍ وشابان يرافقان المعممين، الشيخين.
وكلَّم الرجل، مقدَّم صحبه، الزوج، وقال له إن عليه "أخذ" زوجته إلى البيت، وإخراجها من المسبح، وإلباسها ثياباً "محتشمة" تليق بنساء المسلمين. وهو، المعمم، "يعطيه"، يعطيهما، عشر دقائق لإنفاذ أمر الشرع، وإلا عاد ومعه أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو منهم، المتكفلون بإنفاذ النصيحة بيدهم بعد لسانهم.
والرجل هو الشيخ عبدالكريم عَلّو، من "أهل الدعوة" السلفيين، وإمام صلاة مُصَلى يعرف باسم مصلّى الفرقان، في ضاحية صيدا الشرقية، الهلالية. ويشرف على وقف في الناحية، ويتلقى التبرعات باسمه، وباسم "أهل الدعوة". واشترى هناك أرضاً ينوي تشييد مسجد عليها. وعبدالكريم عَلّو فلسطيني الأصل، شأن معظم زملائه، وحصل على الجنسية اللبنانية، وأقام خارج مخيم عين الحلوة. والشابان، مرافقا المعممين، أحدهما فلسطيني والآخر سوري. والعشرة الذين قدموا مع عَلّو وزميله، وأرادوا إنفاذ أمر الشرع بأيديهم، بعضهم لبنانيون وبعضهم فلسطينيون وبعضهم الثالث سوريون.
وعَلّو جزء من ظاهرة اجتماعية دينية في صيدا، وفي مدن الساحل الإسلامية الأخرى، هي توالد الجمعيات الإسلامية الصغيرة بعضها من بعض. وتنشأ الجمعية من هذا الصنف في اجتماع عدد قليل من الأشخاص حول داعية شاب ومبتدئ، تربطه علاقة غامضة، دعوية ومالية، ويقول بعضهم استخبارية، بجماعة أخرى في مخيم عين الحلوة، أو في أحد المخيمات المتفرعة عن المخيم الأم هذا والمنتشرة شرق صيدا. ويعود تكاثر هذه الجمعيات إلى جلاء الفصائل الفلسطينية المسلحة عن لبنان، في أواخر صيف 1982، وضعف يد "فتح" على الجماعات الفلسطينية بعد الجلاء هذا.
فتنازعت قوى وجماعات متفرقة- "خليجية" فردية أو جمعية، ودعوية سلفية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأخرى سلفية مسلحة، وقاعدية "وهابية"، وإخوانية حماسية، و"متشيعة"، وداعشية، وعصية على التعريف- على ولاء ثلث السكان والمقيمين الذين يصدق أو يصح وصفهم بـ"المهمّشين" الصريحين.
وهذا الهامش العريض يتمتع بتذرر ناجم عن تصدّع العلاقات الاجتماعية والسياسية على الأخص، وعن بطالة متفشية قد تطاول سبعين في المئة من السكان، وإعالة ريعية على حساب "المنظمات" والموارد الخارجية، والإقامة في مجمعات لا استقرار فيها لإدارة محلية ولا مشروعية لسلطة. وينشط العمل الاستخباري على أنواعه في بيئة مثالية لا يضبط تبدل الولاءات وضياع المسؤوليات فيها ضابط.
ينعقد الخلاف على المرجع الحاكم في معايير العمل والمسلك الفرديين الاجتماعيين، معاً وجميعاً. وهذا ظاهر في الحادثة "الصغيرة" التي تتناولها هذه المقالة. وظاهر في الحوادث التي هزت إيران طوال خريف 2022
ومنذ انفجار الدولة والمجتمع السوريين وفد مهاجرون سوريون- إسلاميون على مقادير متفاوتة، وميسورون بعض اليسر، ومتضامنون بعض التضامن- إلى شرق صيدا، والهلالية مرة أخرى، ورفدوا الخليط الصيداوي، الضعيف اللحمة، برافد جديد ومختلف، وفاقموا ارتثاثه. وبعضهم "عاد" من دول الخليج إلى هذا الموضع من لبنان، وبعض آخر من سوريا مباشرة. ووصلت جسور التحزب والعصبية والغرضيات بين هؤلاء وبين مهاجرين سابقين ومقيمين يشبهونهم بعض الشبه.
الجسم الآمر
عندما أمر الشيخ عبدالكريم عَلّو السيدة ميساء الحانوني اليعفوري بمغادرة "المسبح الشعبي" في غضون عشر دقائق، وتوجه إلى زوجها، أو "محرمها"، بالأمر، بادرت هي إلى الإجابة بالرفض. واستبق هو التعريف بنفسه، إلى تعريف زيه المهني به بداهة، فقال إنه هنا للأمر بالمعروف. وسند "أمر" المعمم- على معنيي الأمر: التوجه بالفرض والانتساب إلى جسم اجتماعي و"شرعي" يملك الحق في الإملاء- هو شرعه الديني.
ولا ينتقص من مشروعية الأمر، أو الأمرين، في نظر عَلّو ورأيه أن الجسم الذي ينتسب إليه "جماعة الأمر بالمعروف..." أو المطاوعة، أو "شرطة الأخلاق" في الباسيج الخميني- لا يتمتع بقوة القضاء، أو الحكم العملي في المسائل التي يزعم الحكم أو القضاء فيها، ولا بقوة الواقع، إلا في الدائرة الخاصة أو الفرعية التي ينتسب إليها الآمر الظرفي. ويرد الزوجان على توسيع الآمر نطاق صلاحيته، أو قوة قضيته وجسمه، بالانتساب إلى المكان وقانونه. فيقولان إنهما في "المسبح الشعبي"، وفي نطاق بلدي يسري فيه قانون البلديات الوطني، وينويان الاحتكام والشكوى إلى هذا القانون.
وينعقد الخلاف على المرجع الحاكم في معايير العمل والمسلك الفرديين الاجتماعيين، معاً وجميعاً. وهذا ظاهر في الحادثة "الصغيرة" التي تتناولها هذه المقالة. وظاهر في الحوادث التي هزت إيران طوال خريف 2022 وأودت بحياة 520 مواطنة ومواطن إيرانيين وأدت إلى اعتقال نحو 21 ألفاً. وهو ظاهر في تاريخ السعودية الاجتماعي الحديث، وكبح مطاوعتها في الأعوام الأخيرة من غير فحص عن الأعوام السابقة الطويلة والقاسية، والمستمر بعضها على بعض الوجوه.
وجواباً عن استقواء السيدة وزوجها بالدولة الإقليمية- وهي الدولة التي تسن قوانينها على أراضيها بواسطة هيئاتها الاشتراعية الوطنية وتنفذها بواسطة أسلاكها- يقول عالم الدين المسلم (وهو ليس "رجل دين"، أي كاهناً)، أولاً: إنه لا يخاف البلدية ولا الدولة، وثانياً: إن الاشتكاء إلى الدولة يقلل من احترامه (لأنه ينكر عليه صفته "الدينية" التي لا يملكها)، وثالثاً: إنه يأمر بما يأمر به لأن "الأخلاق" تقضي به وعلى الزوجين "الاستحياء"، ورابعاً: ما عليهما إلا السباحة في الرميلة، خارج "دار الإسلام"، وشرعه وأخلاقه، ضمناً، أو في صور، المدينة التي تترأس بلديتها حركة "أمل" ا لشيعية، وتبيح حرية اللباس والشراب على شاطئها.
ويفند الرجل الاحتجاج بحرية العمل (ما دام العمل لا يلحق ضرراً بالآخرين)، فيقول خامساً: إذا كانت هي، المرأة، حرة في لباس المايوه، وهو يترجمه "شلحاً" أي عرياً، عليها أن ترضى بتعريه هو، الشيخ المعمم وعالم الدين، لها، "إزا هيك أنا حر إشلحلك!"، على ما نقل موقع صحيفة إلكترونية لبنانية، وهذا احتجاج يخرج من حد الفقه ويدخل في حد آخر، ويُسلِّم بأن الشيخ رجع إلى غلواء الطبع "المدني" أو "الزمني" العادي.
العُري
العري هو صفة الوجه "الآخر" و"القريب" على قول إيمانويل ليفيناس (1905- 1997)- عن أجزاء من جسدها يغطيها اللباس الاجتماعي والنهاري
يقول صيداويون يشهدون على أحوال مدينتهم شهود المتفرجين العاجزين أن محاورة الشيخ والزوجين (والمرأة هي الموضوع، على معنى الموضوع المنطقي، أي هي الذات أو الإسم في النحو) هي مرآة أمينة لاحتجاج الإسلاميين والمسلمين "الأميين"، من غير ذوي العلم المفترض.
فمن لا يرى ضيراً في لباس المرأة لباس بحر وسباحة يسفر- على ما يقال في الوجه "العاري"، والعري هو صفة الوجه "الآخر" و"القريب" على قول إيمانويل ليفيناس (1905- 1997)- عن أجزاء من جسدها يغطيها اللباس الاجتماعي والنهاري، يرد عليه أمثال الشيخ عَلّو بـ"سؤاله": هل يرضى لزوجته، أو بنته، أو أخته، أن تري الغرباء "عورتها"؟
وقول الآمر بالمعروف المفترض للسيدة إنه حر إذن، بـ"الشلح" لها، يساوي بين لباس البحر، وقطعته المتصلة والواحدة (ليس اعتذاراً بل تخصيصاً!)، وبين التعري الكامل، وبين التعري البحري والظرفي، والجزئي الاجتماعي، وبين الإباحة والانتهاك، وقبل انتهاك المرأة انتهاك الرجل في امرأته و"حرمته"، على المعنى السائر والعامي.
والرجل الذي يرضى، أو لا ينكر بصر رجل غيره ببعض أجزاء من جسد زوجته، أو بنته أو أخته أو زوجة أخيه... يسمّيه المحتجون للنواهي عن المنكرات بـ"الديوث". وهو اسم رهيب يُخرج من يسمى به من أدنى درجات الإنسانية الاجتماعية وكرامتها و"ماء وجهها"، وينفيه من الاجتماع والتعارف.
ونصيحة الشيخ الزوجين الحانوني- اليعفوري، بالرواح إلى البلدة المسيحية، أو إلى المدينة الشيعية "الأملية"، يعرِّض من طرف غير خفي بالجماعتين المفترضتين، ويطعن في أخلاقهما، وينفيهما، وإن كانت الرميلة هي المقصودة أولاً بهذا النفي، من الاجتماع السوي، أو الإسلامي، الذي يجمع بين "مؤمنين"، ولا يجمع غيرهم، مثل أهل الرميلة وبلدية صور، إليهم.
ويبرم هذا الرأي (أو يختم على... ويقرّ) حادثة اجتماعية، وسياسية من بعد، دام حصولها نحو ثلث القرن. فصيدا العثمانية، وما بعد العثمانية والاستقلالية إلى أواخر العقد السادس من القرن العشرين تقريباً، كانت مدينة مختلطة السكان. وأقام مع الغالبية المسلمة مسيحيون، أرثوذكس وكاثوليك خصوصاً، بلغوا بين ربع السكان وثلثهم، إلى أقلية يهودية ذوت منذ غداة الحرب العالمية الثانية.
وكان مسيحيو صيدا جزءاً راجحاً من نخب تجارها ومقاوليها وأطبائها وصيادلتها ومدرسيها وحرفييها، ومن أوائلهم. وبعضهم وفد إليها من ضواحيها الشرقية، ومن جزين. وجاء آخرون من قرى الزهراني، إلى الجنوب منها. وتضافر الانقسام اللبناني/ العروبي، وضيق سوق المدينة الصغيرة وبطء استجابتها حوافز التحديث والتوسع ودعواتهما، على هجرة شطر كبير من هذه النخب، مسيحييها ومسلميها، ومسيحييها فوق مسلميها، إلى بيروت وجبل لبنان. وبعض أولاد مهاجري العقدين السادس والسابع شبوا في مدن أوروبا والولايات المتحدة وشابوا هناك.
وتغذى الانقسام على الهوية الوطنية من حال تشبه شبهاً قوياً الفرق، اليوم، بين موقف السيدة ميساء الحانوني اليعفوري وبين موقف الشيخ عبدالكريم عَلّو. فالسيدة تصدر عن أصول ومبادئ تاريخية وحقوقية واجتماعية وضعية مثل الحرية الفردية، والقانون البلدي والعام، والدولة الإقليمية صاحبة الولاية على أراضيها، وحصر القسر المشروع بأجهزة هذه الدولة. ويصدر الشيخ عن الحق في إنفاذ شرع جماعته بيده، وعن نفي ولاية الدولة وقوانينها وأجهزتها على مواطنيها وأرضها، وقوامية بعض الجماعات على بعضها الآخر.
الأصول والحضانة
وسيرتا الاثنين تدلان إلى عمق الهوة بينهما. فالمرأة تقلبت بين أظهر عالم تشاركته مع أفراد مواطنين وعاملين وأهلٍ وأولاد وطلاب وناخبين وناشطين إلخ. نظمت علاقاتهم أعراف ومعايير وقوانين أقرت لهم بحقهم في الاختيار والاجتماع والانفضاض، على قول الشاعر الإنكليزي جون ميلتون (1608- 1674) في الطلاق. والشيخ ثمرة نظام حياة يزعم أهله أنهم لا يختارون شيئاً. ويقتصر أمرهم على السير في رعاية عين تقدّر وحدها مصائرهم. وهذا الزعم يخالفه إغضاؤهم عن تعليم النساء، وعملهن، ومخالطتهن الغرباء وغير الأهل الأقربين فيمالا يحصى من المواضع، وعن "فرض" الحرب في معظم الأحيان، وأشياء أخرى كثيرة.
يجدد السكوت والحياد نهج المدن الثانوية، ومنها صيدا، في التماس مسالك تتجنب مقاومة نازع "غالبية" محافظة مفترضة ارتضت التخلي عن عدد كبير من الأوامر والنواهي مواربةً، إلى التسلط على غالبية اجتماعية فعلية
وما يكاد أن يكون ثابتاً هو إنكار غلاة الأهل "الأصليين" على مخالفيهم في الاعتقاد والمسلك، الحق في المساواة في الهوية. فتكتب يمنى العيد- أو حكمت الصبّاغ الخطيب (شهرة الزوج)، الصيداوية منذ اكتشاف صِبَاغ الموريكس، والكثيرة الأصول، والناقدة الأدبية، واليسارية القريبة من الشيوعيين من غير عضوية حزبية...- في "سيرتها الروائية"، الجزء الأول، أرق الروح، دار الآداب، بيروت، 2013 ط.أولى و2015 ط.ثانية، ص128: "أسأل أنا التي نشأتُ في محيط إسلامي لم يُتح لي فيه معرفة المسيحية سوى هذه الإطلالة من سطح بيتنا، في صيدا القديمة، على آل الخوري وكنيستهم، إطلالة رسّخت في وعيي ظاهرة الاختلاف الحضاري، الذي أدركتُ فيما بعد أن سببه احتضان فرنسا لهم، وميلهم هم لها وتمثلهم بثقافتها، بينما حرص المسلمون على أصولهم العربية وحضارتهم الإسلامية".
فالمسيحيون، في مرآة تقدمية وتنويرية وعمومية نقدية، لم يحرصوا على "أصولهم"، على أضعف القول والعبارة، وهم من غير أصل، على أجلاهما. و"سبب" حالهم هذه ليس فيهم ولا منهم، بل هو في صنيع غيرهم، فرنسا وحضانتها، وغواية حضنها، واستلاب "ثقافتها"، على ما يحسب عامة المسيحيين، المزدوجي اللغة، في حسبان سليم عَبْو (1928- 2018). وأصل التعليل "العلمي" هذا يتناسل: فأمريكا خلفت فرنسا على حضانتها وحضارتها و"التمثل" بهما، بينما يتعاظم حرص "المسلمين" على "الأصول" الفارقة.
وينبغي أن يترتب على هذا، لقاءَ سقوطٍ مريع في هاوية الابتذال والتحامل والحقد، الخلاص إلى القول: ما دام أنهم تركوا "دار" الأصل العربي والحضارة الإسلامية والنهي عن المنكرات، فليسبحوا في "دار" فرنسا وحضنها، و"يشلحوا" هناك ما طاب لهم.
وتعليقاً على الحادثة البحرية، سكت سياسيو صيدا، ونائباها المتحدّران، الأول من نزيه البزري، الوسطي، والثاني من معروف سعد، العروبي والناصري. وسكت العلماء، طبعاً، واختار المجلس البلدي "الحياد"، فتذرّع بتأخير افتتاح المسبح الشعبي إلى 15 حزيران/ يونيو إلى منع دخوله على السابحين، والداعين إلى التظاهر استنكاراً أو تأييداً.
ويجدد السكوت والحياد نهج المدن الثانوية، ومنها صيدا، في التماس مسالك تتجنب مقاومة نازع "غالبية" محافظة مفترضة ارتضت التخلي عن عدد كبير من الأوامر والنواهي مواربةً، إلى التسلط على غالبية اجتماعية فعلية "تسبح" منذ عقود طويلة في عالم سوَّاه التكيف مع النواهي والمحرمات الموروثة والمطوية. أقول أو أكتب: "المدن الثانوية"، وأعني المجتمعات المترددة والخائفة والمقهورة. فالقسمة المعنوية والمعيارية، إذا تشابكت وتداخلت مع قسمة اجتماعية، على ما يحصل على الدوام، أدت إلى "نظام" نزاع أهلي يترجح بين الإعلان والإسرار، ويمهّد الطريق إلى نظام سياسي ينهض إما على القهر الخالص، وفصل السلطة من المجتمع، وإما إلى ضبط مساكنة هشة تترنح عند هبوب أضعف ريح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.