شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"نحن من يضع الأعراف في المدينة"... نساء صيدا قيد وصاية المطاوعين الجدد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

تقول الرواية "التاريخية"، إن لبنان يتميّز بفصوله المتعاقبة وجمال طبيعته؛ ربع ساعة كافية لتصل من الجبل إلى البحر. لكن احذر أو احذري تحديداً كامرأة عند وصولك إلى البحر، على أي شاطئ سترسين، واطلبي "إتيكيت" شاطئ المدينة هذه أو تلك حفاظاً على سلامتك الشخصية أو حتى على حياتك.

هذا هو واقع الحال في لبنان اليوم، وبالأخصّ في مدينة صيدا التي كانت لها بوّابتان؛ الفوقا والتحتى. "كانت صيدا تغلق بواباتها على نفسها، وهي اليوم عائدة إلى تلك الأيام"، تقول ميسا حنوني يعفوري، لرصيف22.

وميسا ابنة صيدون التاريخية، طُردت من شاطئ مدينتها برفقة زوجها لأنها كانت ترتدي "المايوه" أو لباس البحر على الشاطئ البحريّ.

ففي يوم أحد ربيعيّ مُشمس، توجّهت ميسا وزوجها إلى البحر، الشاطئ الشعبي تحديداً، كما اعتادا أن يفعلا في نهاية كل أسبوع في فصلَي الربيع والصيف، منذ خمس سنوات وحتى اليوم. اقترب منهما أحد مشايخ البلدة، ويدعى عبد الكريم علّو، ومعه شيخٌ آخر، وطلبا منهما مغادرة الشاطئ لأنّ لباسها "حرام شرعاً ولا يراعي تقاليد المدينة، هذا عُرف ونحن من يضع الأعراف هنا"، وبعد أخذ وردّ مع الزوج الذي رفض الإملاءات، تقول ميسا إنّ الشيخين خيّراهما: "إمّا أن ترحلوا خلال 10 دقائق أو ما بتعرفوا شو بيصير"، وبعد انقضاء هذه الدقائق حضرت مجموعة من أكثر من خمسة عشر شابّاً، وتحلّقوا حول الرجل وزوجته وبدأوا "يرجموننا كالشيطان بعبوات المياه البلاستيكية المعبّأة بالرّمل والكرات التي كانوا يلعبون بها أو بتقاذف الرمل بأقدامهم، مع سيل من الكلام المهين وعبارات الطرد"، وفق رواية ميسا لرصيف22.

وتضيف حنوني أنّها اتّصلت بأحد أعضاء بلدية صيدا للمساعدة في حلّ الأمر، فكان جوابه الإيعاز بالانصياع لطلب الشيخ وفرقته والمغادرة، إلى أن تدخّل شخصٌ آخر كان يجاورهم على الشاطئ، وحاول تهدئة الشبّان المهاجمين دون نتيجة، ثم عاد وأقنع ميسا وزوجها بالرحيل حرصاً على سلامتهما، بعد أن قال لهم: "أنا متديّن مثلكم لكن ما تفعلونه ليس فيه شيء من الدين، احترموا حرمة الرجل وزوجته"، من دون أن يتّعظوا.

عند طلب الزوج من الشيخ أن يغضّ بصره إذا كان المشهد يزعجه ومحاججة ميسا له بأنّ هذه حرّيتها في أن ترتدي ما تريد أو تخلعه، كان جواب الشيخ: "بشلحلك هلق يعني؟"

يشير عضو المجلس البلدي كامل كزبر، إلى أنّ "البلدية لا تملك سلطةً على الشاطئ الشعبيّ حالياً، وليس من واجبها التدخّل في ما حصل أو يحصل، فالشاطئ تابع إدارياً لوزارة النقل وأمنياً لمديرية الشواطئ في الجنوب ومركزها عدلون، وحلّ النزاعات الفردية مسؤولية الجهات الأمنية".

ويوضح لرصيف22، أنّ البلدية في حزيران/ يونيو من كل عام، تتقدّم بطلب للوزارة المعنية لاستلام إدارة الشاطئ خلال أشهر الصيف، وتصبح مولجةً بتنظيم العمل فيه، لكن يبقى دورها رقابيّاً وليس تنفيذياً".

دعوة إلى العري؟

ينفي الناشط المتحدر من صيدا شادي هنّوش، الذي يصف نفسه بأنه "غيور على مدينته ومهتمّ بشؤونها"، الفكرة التي يجري الترويج لها بأنّ الحملات الحالية هي دعوة إلى التعرّي أو مهاجمة الدين، "هذا كذب وتضليل، يحاولون تصوير الموضوع بهذه الطريقة في حين أنّ ما قاموا به هو قمعٌ وترهيب وعمل لا أخلاقي ولا يرضى به أيّ دين".

ويجابه هنّوش رواية التعدّي على الدين أو الدعوات إلى محاربته والابتعاد عنه من خلال مظاهر "العري" بمثال بسيط، ويقول: "ها هي تركيا دولة ذات غالبية مسلمة، نزورها فنرى المصلّين في المساجد ومرتادي المقاهي وأماكن السهر في الجهة المقابلة من دون أن يعتدي أحد على أحد".

ويضيف لرصيف22: "صيدا مدينة 'ذات خصوصية إسلامية وطابع إسلامي'، هو واقعٌ نعيشه ولا نرفضه، فنحن مسلمون أيضاً لكنّ ذلك لا يتنافى مع الانفتاح السياحي والتجاري".

ما هو وجه صيدا اليوم؟

أكثر ما يحزّ في قلب الناشطة الاجتماعية والعضوة المؤسسة في لجنة مهرجانات صيدا، أنّه طُلب منها المغادرة بالقول: "صيدا مش إلكن، ولن نسمح بأن يصبح وجه المدينة هكذا"، وهي ابنة المدينة وقاطنة فيها وتعمل في ميادينها. أمّا عند طلب الزوج من الشيخ أن يغضّ بصره إذا كان المشهد يزعجه ومحاججة ميسا له بأنّ هذه حرّيتها في أن ترتدي ما تريد أو تخلعه، كان جواب الشيخ: "بشلحلك هلق يعني؟"، في تكرارٍ معتاد لعدّ المجتمع الذكوري المحيط أنّ ارتداء المرأة فستاناً قصيراً أو "مايوه" دعوة مفتوحة للرجل وغرائزه.

البلدية لا تملك سلطةً على الشاطئ الشعبيّ حالياً، والشاطئ تابع إدارياً لوزارة النقل وأمنياً لمديرية الشواطئ

يعدّ الدستور اللبناني في المادة 2 من الفصل الثاني منه، أنّ الحرية الشخصية مكفولة في حمى القانون، إلى جانب العديد من البنود والنصوص الأخرى التي ترعى الحريات والممارسات الشخصية ما دامت لا تسبّب ضرراً عامّاً أو أذيّةً فرديةً لأحد، فأين كان هذا القانون عندما تعرّضت ميسا للاعتداء؟

في هذا الصّدد، يكشف الصحافي والناشط وفيق الهواري، أنّ البلدية وخلال اجتماعها الثلاثاء الفائت تحديداً، كانت تبحث ملف المشكلات التي تعترض المدينة ومحاولة نقلها إلى واجهة سياحية قد تنقذها من الأزمة الاقتصادية: "طُرحت أزمة الشاطئ الشمالي في صيدا وهامش الحريّات وكان التوجّه نحو ضرورة حماية الحريات وتأمين الشروط السياحية، لكن ما حصل مع ميسا الأحد وردّ العضو البلدي عليها بواجب الانسحاب بدلاً من الحضور والعمل على حلّ المشكلة بالقوانين مرعيّة الإجراء يشيان بعكس ذلك".

يضيف في حديثه إلى رصيف22، أنّ "أحداً من نوّاب المدينة لم يتحرّك أيضاً، ولا رئيس البلدية ولا أي شخص في سدّة المسؤولية العامة. حملة 'الشطّ لكل الناس' أخذت على عاتقها نشر بيان استنكار ومحاولة رفع دعوى قضائية لكنّ الأمر تعذّر عند رفض حنّوني تقديم بلاغ والسير بالدعوى".

ويرى الهوّاري أنّ مدينة صيدا في ظلّ الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، كسواها من المدن اللبنانية، تصبح بيئةً خصبةً أكثر لبروز التيارات المتطرّفة، ويقول: "الناس في الأزمات وعند الهزائم تنظر إلى السماء وتترقب الحلّ عبر الشحذ الديني، فضلاً عن دور المحاصصة السياسية وشدّ العصب المذهبي السائديَن".

برأي هنّوش أن لقدوم الناس إلى صيدا، أو ممارسة أبنائها أنماط حياتهم المتنوعة، شرطاً واحداً: "سقف القانون والدستور اللبناني، ما عدا ذلك صيدا مدينة رائعة ومسالمة ومنفتحة على الجميع، ترحّب بالغريب قبل القريب ولن تكون حاضنةً لأي شكل من أشكال التطرّف، والصيداوي منفتح على الآخر".

ويشدّد على رفض ما تعرّض له الثنائي من قبل "مجموعات متطرّفة" واستنكاره، وينبّه إلى أنّ "هذه المجموعات نفسها لو تعرّضت لأي قمع في ممارسة شعائرها على أي بقعة لبنانية، فلن نقبل بذلك، فالدين لله والوطن للجميع".

النساء بين إعلاء الصوت وكتمه

ترفض ميسا الخوض في مسار قانونيّ "لا جدوى منه"، سوى تحمّلها وعائلتها وزراً قد يكون مكلفاً نفسياً، ويؤيد الهوّاري هذه الفرضية من خلال نظرية أنّ "غالبية النساء في صيدا ولبنان دائماً ما تمارَس عليهنّ الوصاية المجتمعية من الأخ والأب والشيخ الفلاني، ليتراجعن عن أي قضية بدلاً من إحاطتهنّ بالدعم، وتالياً يجب تحويل القضايا النسوية كافة إلى قضايا اجتماعية عامة، وإيجاد معارضة ديمقراطية، في أجندة عملها؛ تحقيق المساواة والانتصار لحقوق النساء".

طُرحت أزمة الشاطئ الشمالي في صيدا وهامش الحريّات وكان التوجّه نحو ضرورة حماية الحريات، لكن ما حصل مع ميسا الأحد يشي بأن "المشايخ" لن يسمحوا بذلك، والبلدية والنوّاب لن يواجهوهم!

من جهتها، ترى الصحافية والناشطة النسوية مريم ياغي، في حديث إلى رصيف22، أنّ "المسؤول عن حماية النساء هي دائرة تقاطعية بين القانون والمجتمع والتربية والسياسة، فأولاً تجب استعادة لبنان الوطن للجميع بعيداً عن حوار مدينة فلان أو علّان، ومن ثمّ وضع خطّة أمنية لحماية الحريات كافة وملاحقة من يمارس أي تمييز يتعارض مع الدستور اللبناني بعيداً عن الأسس الطائفية والحزبية الضيّقة".

وتصف الحادثة بـ"الأمر الخطير، وتُعدّ ظاهرةً من مظاهر التسلّط الذكوري الذي يتدخل في خيارات النساء الشخصية وقناعاتهنّ، ويحدّد لهنّ قالباً نمطياً يُرجمن إذا ما كسرنه أو تجاوزنه".

كما تلفت ياغي إلى أنّ "التعدّي على الزوج مرتبط بالمعايير نفسها، التي تصنّف الرجال المقبولين أو غير المقبولين اجتماعياً بمدى سيطرتهم على زوجاتهم أو بناتهم أو نساء عائلتهم وبناتها، ما يُعدّ تحريضاً على قمع النساء في سياق وعي جمعي راكمته المنظومة الأبوية وغذّته".

برأيها، "من لديه قناعات دينية أو عرفية فليطبّقها على نفسه، وليأمر نفسه بالمعروف ولينهِ نفسه عمّا يراه منكراً، وليدع الخلق للخالق، وليكفّ شرّه عن غيره".

إلى متى التمييز؟

يسأل كرم، وهو أحد الناشطين في صيدا وقد رفض وضع اسمه كاملاً لكيلا تتم مقاطعته اقتصادياً، عن استمرار التعامل مع المرأة كسلعةٍ وجِهةٍ قاصرة: "لماذا لا يتعرّض أحد لشاب أو لرجل يرتديان شورتاً أو لباس البحر؟ هذا لم يحصل في صيدا أو غيرها إطلاقاً، فهل الشرع على النساء فقط أمّ أنّها النظرة الدونية إلى المرأة دائماً وتهميش رأيها وحريّتها؟".

ويذكّر بحوادث وقعت في المقلب الآخر، عند محاولة منع بعض النساء اللواتي يرتدين "البوركيني" (لباس البحر الخاص بالمحجّبات)، من السباحة في منطقة جبيل مثلاً، وهي ممارسات ممتدّة منذ عام 2017 عندما مُنعت سيدة تدعى نورا الزعيم، من السباحة في أحد الشواطئ العامّة المحوّلة إلى منتجع خاص في منطقة طرابلس.

في عام 2020، شُنّت حملة كبيرة على الشّابة نداء حمزة، بسبب سباحتها في نهر الخرخار في منطقة عربصاليم جنوب لبنان

وفي عام 2020، شُنّت حملة كبيرة على الشّابة نداء حمزة، بسبب سباحتها في نهر الخرخار في منطقة عربصاليم جنوب لبنان، تحت حجة رفض "هذه المشاهد في أرض ارتوت بدماء الشهداء".

بين البيكيني والبوركيني، ومنعهما، المستهدفة هي المرأة وجسدها الذي ما زال يُعدّ ملكيّةً خاصة في المجتمعات العربية، إذ تفرز لها المنظومة البطركية الذكورية مسارات محدّدةً يمكنها الدوران في قطرها وإن سارت هذه الملكيّة الجماعية عكس التيّار أو شقّت طريقاً جديداً مختلفاً تلقى المقصلة الاجتماعية ولا ينقذها أيّ قانون.

بحسب ياغي، الحلّ الوحيد والأمثل لتحقيق العدالة للنساء هو استمرار المطالبة بقانون أحوال شخصية موحّد يضمن إلغاء التمييز بحقّهنّ ويلغي الممارسات العنصرية الطائفية التي تبرَّر بأنّها "تصرّفات فردية".

من جهته، يضع هنّوش "مسؤولية توفير الأمن والأمان للمواطنين كافة وضمان ممارسة الحريّات المتنوّعة بيد الدولة، بينما مسؤولية النهوض بمدينة صيدا إلى مصافّ المدن السياحية الأخرى في البلد تعود لنوّابها وفعالياتها وكذلك نطالبهم برفض أشكال القمع كافّة".

التضييق على النساء لا يقتصر على مدينة صيدا فقط، كما أنّ في صيدا ما فيها اليوم من بروز لقبضة دينية تحاول تقييد الأفراد وحريّاتهم بما يتماشى مع مسارها، فقبل وقت ليس ببعيد، في شهر آب/ أغسطس الفائت، مُنع حفلٌ موسيقيّ ترفيهيّ كان يحضَّر لإحيائه في الواجهة البحرية لعاصمة الجنوب بسبب "صور غير لائقة منشورة على صفحة منظّمة الحفل مايا نعمة"، وذلك بعد ضغط أعضاء البلدية من "الجماعة الإسلاميّة" ورجال الدين في المدينة، ما أدّى إلى سحب رعاية البلدية للحفل بالكامل ونقله إلى منطقة مخصصة للاحتفالات في منطقة علمان.

يومها، كان شعار خطب الجمعة في المساجد: "قبل أن تغرق المدينة"، لكن ما يحصل اليوم هو إغراقٌ لأهلها في غيّ الأزمات المعيشية المتفاقمة وتضييق الخناق على حرّياتهم. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard