شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التفلّت الأمني في لبنان... هكذا تدفع النّساء ضريبةً مضاعفةً

التفلّت الأمني في لبنان... هكذا تدفع النّساء ضريبةً مضاعفةً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 14 أبريل 202301:15 م

"يُراودني شعورٌ دائمٌ بأنني مطارَدة من قبل شخص مجهول. يُجبرني هذا القلق على التلفّت باستمرار في الاتجاهات كلها حتى أصل إلى الحافلة في منطقة الكولا-بيروت، وإذا مرّت بجانبي دراجة نارية أتسمّر في مكاني وأشعر بقلبي يخفقُ مضطرباً"؛ بهذه الكلمات تصف الطالبة رنين (19 عاماً)، شعور الخوف الذي يرافقها طوال طريق عودتها من الجامعة، خاصّةً بعد محاولة التحرش التي تعرضت لها قبل أشهر.

هي تقطن في منطقة الشويفات، وتستقل وسائل النقل العام -غير النظامية لعدم توافرها- من منزلها إلى جامعتها التي تقع في منطقة الأونيسكو. تضطر إلى المشي من منطقة الكولا، حيث المحطة الأخيرة لفان نقل الركاب، إلى منطقة الأونيسكو المجاورة، حيث جامعتها.

اضطرّت رنين، لاحقاً، إلى أن تسلك طريقاً أطول لكنّه أكثر اكتظاظاً بالناس، ما جعل مخاوفها من حصول أي اعتداء جنسي عليها أو سرقة، تقلّ، فضلاً عن أنها حاولت مراراً البحث عن زملاء يمكنهم مرافقتها، إلّا أنّ ذلك لم يخفّف من تأثير القلق على دراستها الجامعية: "امتنعتُ طوال الفصل السابق عن حضور مادّة يُعدّ توقيتها متأخراً خوفاً من العودة ليلاً بمفردي"، تقول لرصيف22.

بلغ عدد النساء اللواتي بلّغن جمعية "أبعاد" عن تعرضهن لاعتداءات جنسيّة منذ بداية العام 2021، حتى شهر آذار/ مارس الماضي، 1،620 حالةً

لا يبدو قلق الشابة مُدهشاً في بلدٍ ازدحمت يومياته بقصص السرقة والقتل والاعتداءات على اختلافها، ولم تعد مساحاته العامة مكاناً آمناً في زمن التراخي الأمني وغياب المساءلة وعدم القدرة على تطبيق القوانين، غير أنّ ما بدا لافتاً في الآونة الأخيرة هو تأثّر النساء بوتيرة أعلى بالتفلّت الحاصل، وسط صمت بعض الجهات المعنية حيال تعرّض أمنهنّ وحيواتهنّ للخطر.

ارتفاع حالات الاعتداء الجنسي

في التاسع والعشرين من شهر آذار/ مارس الماضي، طفت فوق الواجهة قضية اغتصاب بأخطر صورها، إذ نشرت إحدى الصحافيات واقعةً وحشيةً تعرضت لها سيدة بريطانية وسط مكانٍ عام لا يخفى عن عيون المارّة. التفاصيل التي تمّ تداولها بدت مقلقةً، وكان من شأنها أن تُثير الرعب في نفوس النساء، سواء لجهة حادثة التعدي الجنسي نفسها على امرأة قصدت المكان لممارسة الرياضة ليلاً، أو لجهة التغيّب التام للقوى الأمنية عن المكان، والتي أعلنت بعد أيّام عن توقيف المشتبه به الذي تبيّن أنه ارتكب أكثر من 30 جريمة تحرّش.

ترى المنسّقة التقنية لإدارة الحالات في جمعيّة "أبعاد"، ليلى حمدان، أنّ "الحادثة دليلٌ قاطع على ارتفاع حالات التفلت الأمني والعنف في المجتمع والتي تؤدي بدورها إلى زيادة حالات الاعتداء الجنسي، فالشخص الذي يمتلك سلوكاً عنيفاً قد يشعر بالحصانة عند غياب القوانين الصارمة أوالمنظومة القضائية الفعّالة لردعه أو معاقبته".

وتُوضّح في حديثها إلى رصيف22: "التفلّت وعدم الانضباط وعدم المحاسبة عوامل تساهم في ظهور الاعتداءات الجنسية إلى العلن. عندما يشهد ذوو السلوك العنيف على اكتفاء الجهة الأمنية بإمضاء المعتدي على تعهّد، أو على خروج المعتدي من السجن بسرعة لا توازي حجم الجريمة التي ارتكبها، أو حتى سهولة فراره من العقاب، سيتشجّعون أكثر على ارتكاب الجرائم".

وبلغ عدد النساء اللواتي بلّغن جمعية "أبعاد" عن تعرضهن لاعتداءات جنسيّة منذ بداية العام 2021، حتى شهر آذار/ مارس الماضي، 1،620 حالةً.

تُشير حمدان، إلى أنّ "النساء يتردّدن في تبليغ القوى الأمنية خوفاً من عدم الاستجابة، أو خروج المعتدي بعد فترة زمنية قصيرة مع رغبة في الانتقام، فضلاً عن أسباب تتعلّق بالشرف، لذلك يفضّلن الاستفادة فقط من التدابير الاجتماعية التي توفّرها جمعية أبعاد".

ويتّضح الانخفاض في حالات التبليغ عبر دراسة نشرتها الجمعية عام 2022، تُشير فيها إلى أن أكثر من نصف النساء (55%)، اللواتي تعرضن لاعتداءٍ جنسي، لم يبلّغن عن هذا الاعتداء، فيما برز "الشرف" كأحد أبرز الأسباب التي قد تمنعهنّ من التبليغ.

بالإضافة إلى الحملات التوعوية التي تستهدف النساء، تقوم الجمعية بعقد اجتماعات دورية مع القوى الأمنية لمناقشة التحديات، فضلاً عن تقديم محاضرات توعوية للعناصر حول التحرش الجنسي، وكيفية التعامل مع المرأة عند التبليغ، والعبارات التي يجب التوجه بها إلى النساء، والمصطلحات التي يجب تجنّبها.

لا تنفي حمدان، أنّ بعض الأجهزة الأمنيّة تتحرّك بشكل سريع، وتتّخذ الإجراءات اللازمة عند التبليغ، إلا أنّ دور الأجهزة على الطرقات لا يبدو فعّالاً برأيها مع عدم تواجد الدوريات في الشوارع على مدار الساعة والتي من شأنها أن تضمن سلامة المواطنين بشكل عام والسيدات بشكل خاص.

يراودني شعورٌ دائمٌ بأنني مطارَدة من قبل شخص مجهول. يُجبرني هذا القلق على التلفّت باستمرار في الاتجاهات، وإذا مرّت بجانبي دراجة نارية أتسمّر في مكاني وأشعر بقلبي يخفقُ مضطرباً

بناءً على ذلك، تُشدّد على أنّ مكافحة الجرائم المتعلقة بالاعتداء الجنسي تتطلّب تعزيزاً للأمن والنظام وتوفير الحماية للنساء، وتُطالب الدولة اللبنانية بإعطاء الأهمية لهذه الظاهرة وتقديم الحماية بطريقة فعالة من خلال تزويد الأجهزة الأمنية بالأمور اللازمة كي تقوم بدورها كما يجب، بالإضافة إلى ضرورة تعزيز النظام القضائي ليُصبح فعّالاً وعادلاً، ويستطيع أن يضمن العدالة للناجية والعقوبة للمجرم.

نساء في مرمى العنف والقتل

وسط تصاعد ملحوظ لمظاهر العنف والقتل في لبنان، لا تبدو البيوت أكثر أماناً للنّساء، إذ عمد القاتل حسن موسى زعيتر، مؤخراً، إلى سلب حياة زوجته زينب زعيتر، رمياً بالرصاص، أمام أعين أطفالها، في منطقة صحراء الشويفات، في 27 آذار/ مارس الماضي. برغم فظاعتها، طُويت الجريمة "عشائرياً" بداعي الدفاع عن الشرف، فيما أخفقت الأجهزة الأمنية في ملاحقة القاتل الذي لا يزال متوارياً عن الأنظار حتى اللحظة.

تقول مسؤولة وحدة العنف الأسري في جمعية "كفى"، المحامية ليلى عواضة: "في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، تمّ تسجيل خمس جرائم قتل بحق النساء في لبنان، بالإضافة إلى ست حالات أخرى سُجّلت على أنها انتحار، ونطرح حولها علامات استفهام لعدم التوسع في التحقيقات كما يجب".

بالنسبة إلى عدد النساء اللواتي بلّغن عن تعرضهن للعنف، تُسجّل جمعيّة "كفى" ما معدّله 80 إلى 100 حالة عنف جديدة شهرياً، وشهد هذا المعدّل ارتفاعاً في الأشهر الأخيرة من العام 2022، إذ وصل إلى 120 حالةً شهرياً. وتُرجع عواضة في حديثها إلى رصيف22، السبب إلى ازدياد الوعي حول موضوع العنف ضد النساء وخاصةً العنف الأسري، وتالياً توجُّه النساء إلى كسر القيود كلها التي كانت تكبّلهنّ اجتماعياً وتمنعهنّ من التبليغ.

تقول عواضة: "الانحلال الأمني وتراجع عمل المؤسسات القضائية والأمنية سيؤثران حتماً على ارتفاع نسب الجريمة في المجتمع ضد الفئات الأضعف، وتالياً فإنّ ظاهرة الإفلات من العقاب ستزيد من عدد الجرائم ضدّ النساء، بالإضافة إلى أن الشوارع أيضاً ستشكّل خطراً على حياة النساء ما سيشجعهنّ على وضع خطة سلامة لحماية أنفسهنّ".

زيادةً على ذلك، لا تنكر عواضة أنّ الأوضاع الاجتماعية والأزمات الاقتصادية التي يعيشها البلد ستؤثر على ديناميكية العلاقة بين المعنِّف والضحية، ما سيرفع من وتيرة العنف ضد النساء، وتالياً فإنّ طاقة النساء على التحمّل تنفد ويتمّ التبليغ أكثر عن حالات العنف.

 تُسجّل جمعيّة "كفى" ما معدّله 80 إلى 100 حالة عنف جديدة شهرياً، وشهد هذا المعدّل ارتفاعاً في الأشهر الأخيرة 

من هنا، تُطالب المحامية بعدم "الاستخفاف بجرائم العنف ضد النساء، خاصةً العنف الأسري، لأن المعنِّف يتواجد بجانب الضحية دائماً وسيكون من السهل عليه ارتكاب الجريمة في أيّ وقت"، وترى أنّ التجاوب مع الضحايا وخلق بيئة آمنة لهنّ أمران ضروريان، إلى جانب التشدّد في العقوبات. أمّا على المستوى القانوني، فتناشد بوضع قانون شامل لجرائم العنف ضد النساء، مع اعتماد السرعة في المحاكمات وعدم الالتفاف بالأسباب التخفيفية سواء في حالات الغضب الشديد أو غيرها، لتبرير ارتكاب الجرائم.

النساء وتفاقم السرقات

حوادث السرقة أيضاً، كان للنساء اللبنانيات نصيب منها. فقد انتشر مؤخراً مقطع فيديو يُظهر سقوط سيدة على الأرض في منطقة بدارو في بيروت، بعد محاولة أحد سائقي الدراجات النارية نشل حقيبتها. على الرغم من أنّ محاولة السارق باءت بالفشل، إلاّ أن ذلك المشهد يُنذر بظاهرة خطيرة يشهدها لبنان، وتُشكّل المرأة فيها الضحية الأولى، خاصةً أن المنطقة التي حصلت فيها محاولة السرقة، يكثر فيها وجود رجال الأمن.

"لا أمن بتاتاً في لبنان"؛ تقول فاطمة (26 عاماً)، التي تعرّضت مرّتين في وضح النهار لسلب هاتفها الخليوي في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتُشير إلى أنّها امتنعت عن التحرّك خارج منزلها لمدة شهر كامل بعد الحادثة الأخيرة، قبل أن تقوم بإلغاء العديد من مشاريع العمل ليلاً، خوفاً من التعرض للسرقة مجدداً.

ولعلّ أكثر ما يُزعج فاطمة، وفق حديثها إلى رصيف22، هو عدم تمكّنها من استعادة ما سُرق منها بعد بلاغ تقدّمت به لدى القوى الأمنية، وتتساءل: "كيف لنا أن نشعر بالأمان مع انعدام قدرة الأجهزة الأمنية على لعب دورها كما يلزم؟".

وتكشف الأرقام الصّادرة عن "الدولية للمعلومات"، عن ارتفاع ملحوظ في عمليّات السرقة في لبنان، إذ وصل عددها في العام 2022، إلى 4،768 جريمةً، وفي العام 2021، إلى 5،940، وهي أرقام مرتفعة جداً مقارنةً بالحوادث التي تمّ تسجيلها في الأعوام السابقة، إذ بلغت حوادث السرقة 2،536 جريمةً عام 2020، و1،610 جرائم عام 2019.

ولا تزال معدّلات السرقة في لبنان مرتفعةً، إذ بلغ عددها في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2023، نحو 400 جريمة سرقة، وخلال شهر شباط/ فبراير الماضي، 307 سرقات جديدة، وفق ما أفاد به الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، رصيف22.

تقول الأستاذة في علم النفس الاجتماعي الدكتورة وصال حلبي، إنه "بالإضافة إلى الأسباب الأسرية والنفسية والشخصيّة، تُشكّل الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان عاملاً بارزاً في ارتفاع حوادث السرقة، لانعدام الحاجات لدى الأفراد، ما يدفعهم للتخلّي عن القيم المجتمعية واللجوء إلى السرقة والأعمال المنحرفة لإشباع الحاجات الرئيسية".

كيف لنا أن نشعر بالأمان مع انعدام قدرة الأجهزة الأمنية على لعب دورها كما يلزم؟

وتُضيف: "مع تفاقم أزمة الدولار، الأفراد باتوا عاجزين عن تغطية نفقاتهم العادية، وكذلك النفقات الصحية، لذلك سيلجؤون بشكل غير مباشر إلى العنف داخل محيطهم الاجتماعي، بدءاً من الأسرة ومحيط الأصدقاء إلى أن تُصبح هذه الدائرة أكبر".

وتستدرك في حديثها إلى رصيف22، قائلةً: "إنّ غياب الضوابط القانونية وعجز أجهزة الدولة عن الاستمرار في عملها القانوني يُساهمان أيضاً في تزايد هذه المشكلة"، مُشيرةً إلى أنّ "الفئات العمرية الأكثر لجوءاً إلى السرقة هما فئتا الأطفال والمراهقين اللّتان تُصدمان بالانفلات وغياب الضوابط وعدم المحاسبة في المجتمع".

هذا وتُشيد حلبي بدور المرأة للنهوض بالأسرة والعودة الى النسق الاجتماعي في ظلّ الأزمات التي يعيشها لبنان، مشدّدةً على أنها الداعمة الأولى وحجر الأساس، بدليل أنّ أغلب الجمعيات التي تبتغي المصلحة العامة تقودها النساء.

وتختم حديثها بالقول: "لا بدّ من التصدي لمشكلة السرقة عبر وضع ضوابط محدّدة، وإن على صعيد مجتمعات صغيرة، لكي نساهم في النهوض بمجتمعنا والعيش في برّ الأمان".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard