نوستالجيا خفيفة
عرفت مع علاء الدين أن العالم أكبر من الحضانة والمنزل، وأن فيه شوارع أخرى غير الطريق إلى بيت جدي وجدتي، والعوالم الغريبة التي نذهب فيها حين نزور أقارب أبي البعيدين. عرفت هذا عن طريق رحلة عودتي للمنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي، والحقيقة أن الحضانة لا تبعد كثيراً عن المنزل، المسافة بينهما تتراوح بين العشر دقائق والخمسة عشر دقيقة، وعلى هذا كنت أصل في بعض الأحيان بعد أكثر من ساعة من وقت انتهاء الموعد الرسمي للحضانة، ووضعنا على بابها مع نصيحة تخبرنا أن نتجه إلى المنزل مباشرةً، في هذا الوقت، كان هناك مجموعتان من الأطفال من الحضانة، المجموعة الأولى يسكنون قريباً، وهؤلاء يذهبون مع أنفسهم إلى المنزل ترافقهم دعوات الأم وقلقها، وهناك المجموعة الثانية، وهؤلاء تبتعد منازلهم عن الحضانة، وهم من ترافقهم "الدادة" إلى منازلهم وتسلمهم إلى أهاليهم.
أما أنا فقد تخلصت من عيون الدادة وعملية تسليم الرهائن التي تقوم بها، وبدلاً منها رزِقت بصديقي الذي يقرّر يومياً أن نذهب في رحلة استكشافية في المنطقة التي نسكن فيها. كان هو مرشدي الأول في المنطقة، على يده عرفت الأزقة، والشوارع والأماكن المهجورة والغريبة، عرفت الأماكن التي كنت أتساءل كيف يصل إليها أحد؛ أرشدني إلى الجسور الخفية، والصخور المتراصّة التي تساعد في العبور، كنا نذهب بجرأة الأطفال خلف كل شيء، الجنينة الضخمة التي توجد خلف الطريق السريع أمام المنطقة التي أسكن بها، المزرعة الضخمة خلف الشارع الذي أسكنه، كما ذهبنا للمنطقة السكنية المجاورة والتي لم نكن نسمع عنها نحن الأطفال سوى مشاكل وشجارات تحدث بين كبارها وكبارنا، وهذه الشجارات تخلّف الدم والمزيد من العداوات، وتلقي المزيد من الرجال في السجن. حتى الممرات الضيقة الموجودة بين البلوكات الأسمنتية للحكومة، قررنا أن تتعرف على أقدامنا وتألفها.
في كل يوم كنت أتأخر فيه، كان والدي ووالدتي يصرخان في وجهي، وكان الأمر يصل إلى الضرب أحياناً، في هذه اللحظات بالذات كنت أرى البطل المغوار وهو ينزوي ويسقط على الهامش... مجاز
من هذا السرد يظهر أننا كنا نصول ونجول ونتحرك بحريةٍ تامةٍ بلا رقيب أو حسيب وهذا غير حقيقي، ففي كل يوم كنت أتأخر فيه، كان والدي ووالدتي يصرخان في وجهي، وكان الأمر يصل إلى الضرب أحياناً، في هذه اللحظات بالذات كنت أرى البطل المغوار وهو ينزوي ويسقط على الهامش.
*****
أتذكر أكثر ما أتذكر أن هناك أماكن بعينها كان محرماً علينا دخولها بسبب قلق الأهالي، ففي النهاية لم أولد في منطقة للأغنياء أمام طبق من الذهب والفضة، وعلى الرغم من أن حياتي في الإسكندرية، إلا أني لم أتواجد في مكانٍ قريبٍ من البحر فيهذب برومانسيته الخفية أخلاق محيطي السكنية، ويرقق قلوبهم، ويربط الشر فيهم ربطنا للدواب.
ومن لا يعرف تقسيم المناطق السكنية في مصر، فهي تنقسم إلى مناطق واضحة أشد الوضوح ومتباينة أشد التباين. مصر هي أماكن فقيرة للفقراء، وأماكن غنيا للأغنياء، وبالطبع توجد أماكن الطبقة الوسطى التي تحاول اللحاق بالطبقة الأعلى وتخشى من السقوط للطبقة الأقل.
نحن في مصر لا نخجل من هذه التقسيمة البسيطة والواضحة والفجّة كمجرمٍ أشهر سلاحه بعد جريمة ارتكبها بدلاً من الندم، في هذه المناطق تجد أن الشعب غير الشعب، والأخلاق غير الأخلاق، هؤلاء لهم عقل وقلب، وهؤلاء لهم عقل وقلب مختلف تماماً، هؤلاء يرتدون أنواعاً معينة من الملابس بحرية تامة لأن لهم أماكنهم الخاصة، وهؤلاء لا يرتدون إلا أنواعاً محددة للغاية من الملابس الفضفاضة الواسعة حتى وإن أرادوا غير ذلك، حتى لا تنهشهم كلاب الشوارع والأعين الساهرة على الأزقة.
بل لن أبالغ إن قلت إن الدين لدينا يختلف حسب المكان الذي توجد فيه، هناك أيضاً الشيخ الفقير الذي يكثر الحديث عن الصبر وزوال نعم الدنيا، وعن النار التي اسودت لالتهام المخالف، وعن الصحابة والرسول الذين كانوا يربطون الصخور على بطونهم لتحمّل قبح الجوع وقسوة الحياة، وفي المقابل هناك شيوخ الكمباوندات الذي لا يريدون أن يزعجوا الأغنياء بالإله القاسي والشرير، وهنا يتحدثون معهم عن الرحمة والعدلة، بنبرة هادئة وناعمة كسرير من القطن، وعلى أنغام موسيقى كلاسيكية، وفي أماكن عامة باهظة الثمن، وبالطبع قد تختلف بعض هذه الأحاديث وطريقها إن كان من وراء الدين مصلحة أو صندوق من المال.
في الأوقات التي أحكي عنها، وفي بداية الألفينات، تفشى الزحف الوهابي على مصر، وتعتبر الوهابية هي الريشة التي قسمت ظهر البعير، وطعنته في بطنه، ثم مزقته وألقته على قارعة الطريق، لكن قبل أن أعرف طريقي للوهابية وشيوخها بسبب عائلتي التي ولدت فيها والتي تنتمي للعائلات التي تخاف أن تسقط في براثن العائلات الفقيرة . دعونا نعود للطرق التي عرفتها مع علاء الدين، وأهم ما وصلنا إليه أنا وهو، المزرعة.
*****
المزرعة؛ مكان واسع ممتد لا ينتهي، ومن حدودها البعيدة كانت تظهر أضواء المصابيح والكشافات تقف شهادة على المآسي والأسرار التي تحدث، وكان القطار يعبر من المزرعة كل مدةً ولكن دون أن أراه، كنت أستدل عليه من الصوت. كانت المزرعة مليئة بالقصص العجيبة عن تجار المخدرات والقتلة وطرق هروبهم من الحكومة باستغلالهم المساحات الواسعة والممرات الضيقة والاحتمالات اللانهائية التي ستخطر ببالك إذا كنت تريد أن تمسك بأحد في هذا المكان المليء بالتلال وأكوام الرمال والتعاريج، كمكتبة كانت تحمل آلاف القصص القديمة، وكصفحة بيضاء كانت تشهد على ميلاد المزيد والمزيد، ولكنها في النهاية كانت مزرعة.
هكذا يراها من يقف بعيداً ويتأملها: مساحة واسعة وخضراء من الأرض، وهكذا كنت أراها أيضاً كل يوم حينما أخرج من شارعي أو حينما أدخله، وعلى الرغم من أن شارعي كان الشارع المطلّ على المزرعة إلا أني لم أدخلها من قبل، ولم أكن أسمع عنها سوى القصص الغريبة والساحرة، إلى أن جاء هذا اليوم الذي قرّر فيه علاء الدين أننا لن نذهب إلى المنزل، بل سنخرج من الحضانة، ونأخذ الشارع الرئيسي حتى نصل إلى المزرعة، في رحلة استكشافية جديدة، لكن في مكانٍ أشد خطورة هذه المرة، وأخبرني أنه حينما ننتهي مما نفعله يمكننا أن نخرج منها من أمام منزلي، وقد كان.
أحياناً كنت أفكر بالفتاة التي أحببت، لكن كانت أذني تترجاني بألا أفكر لأنها لا تتحمل المزيد من أصابع أبلة ميرفت... مجاز
كان يوماً مليئاً بالمغامرات، ارتفع الأدرينالين في رأسي حتى كاد يجتثها، كانت كل قصص المزرعة تغذي الرعب في عروقي،، بنيت في الخيال خيالاً، وتصورت الشدائد والأهوال، رأيت الجثث التي سمعت عنها، أو هكذا خُيّل لي، كان كل الأحمر دماً، وكل الفحيح ثعابين، وكل الصلب تحت أقدامنا عظاماً، ومع هذا لم أتراجع، بل خضت غمار المزروعات والأكوام الترابية؛ كنت أبحث عن الجثث والأشلاء، وعن المعجزات تحدث بعيداً عن عيون الأحياء، كانت رأسي تعتمر بكوابيسٍ خمّرها الفراغ وخيال الأطفال، فكرنا مرات عديدة في أننا قد لا نتمكن من الخروج مرة أخرى، لم يكن يحدث شيء في الحقيقة، لكن فعل الخيال أقوى أحياناً مما تراه العين ويمكن تصديقه أكثر.
في النهاية خرجنا من المزرعة، وذهب علاء إلى منزله، أو إلى الشارع، لم يكن أحد من عائلته يهتم بهذا كثيراً، وذلك حيث كان والده يعمل "سمكرياً" في الشارع، وكان هو بدوره يصاحبه معظم اليوم ويلعب حوله. جعل هذا الشارع كالمنزل لعلاء الدين، والمنزل كالشارع، ووفر له الامتياز والحرية، كان يذهب معي دائماً في مغامرات بعد الحضانة، لكن بدون العقاب الذي أجربه أنا.
يوم المزرعة من أكثر الأيام التي تعرضت فيها للعقاب والتوبيخ. رأت أمي أني تماديت كثيراً، وذهبت إلى مكانٍ محرّم، تماماً كما تم تحذير سيمبا من أماكن معينة، وكما حذر الأجداد موانا، غير أن موانا وسيمبا انتصرا في النهاية، وتفوقا على الأسطورة وغيرا جذورها، أما أنا فعدت وجلبت "الخرطوم" لأعاقب. هذه صورة العقاب في مرحلة الطفولة، الخرطوم المتصل بصنبور المرحاض، يتم فكّه لنضربَ به كعقاب أو حتى للتحذير، ربما لم يعرف أهلي الفرق جيداً بين العقاب والتحذير، هذا بالتغاضي عن أن العقاب الجسدي غير صحيح في المقام الأول.
*****
كنت من الأطفال المتفوقين في الحضانة، أتقنت مبكراً الأمور البسيطة في الرياضة واللغة الإنجليزية، كما برعت في القراء على الرغم من سني الصغير وقتها، لم يكن يشغل بالي في ذلك الوقت إلا الصفحات الجديدة التي كنا نسوّدها بالحبر، وبالمغامرات التي نخوضها أنا وعلاء الدين بعد ذلك لنسطر في الأسطورة جديداً، والعقاب الذي أظفر به وحدي، وأحياناً كنت أفكر بالفتاة التي أحببت، لكن كانت أذني ترجوني ألا أفكر لأنها لا تتحمل المزيد من أصابع أبلة ميرفت.
تشابهت الأيام بتبدل الشمس والقمر، كانت حياة الطفولة قريبة قليلاً من حياة الأطفال، إلى أن تدخّل الدين في كل شيء، وشهدت حينها ميلاد عالمٍ جديدٍ من الحياة. الحقيقة أن الدين لم يتدخّل هكذا بنفسه، بل تدخلت الدروس الدينية، والمشايخ، والسفر خلفهم. في هذا الوقت نشطت الأفكار الوهابية ووجدت مساحة ترحيب كبيرة بين الإخوان والسلفيين وذراعي المفتوحة، أنا الطفل الصغير الذي كان يخاف أن يدخل النار، وكان يقلد كبار عائلته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com