شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مصر... بلد المائة مليون حزين

مصر... بلد المائة مليون حزين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 10 يونيو 202312:12 م

نوستالجيا خفيفة

 

"الحياة حصان سباق عتيد يسابق سيارة فورد، ولكن نحن مجرّد متفرجين".

كتبت علياء ذلك على صفحتها على فيسبوك، ولكنها قامت بحذفه. ظنّت أنها فكرة ومكان أحمق لفعل ذلك. سوف تقطع وابلاً من الميمز والكوميكس وفيديوهات القطط اللطيفة بمقولة تتحدّث فيها عن الحياة والسيارات والسرعة والسباقات، أما المكان، فكان مجرّد تاكسي أبيض تجلس فيه في المقعد الخلفي، تحاول أن تقتل ملل الطريق المزدحم كيوم الحشر. سالت السائق عن سبب الزحام، لم يعط إجابة منطقية: "بيقولوا حادثة... حد داخل عكس... في لجنة باين"، ثمّ: "يمكن حد بيزور حد في يوم حد".

"بيقولوا... بيقولوا... بيقولوا..." احتمالات كثيرة يضعها أمامك السائقون لكى تختار واحداً منها وتعطيه فرصه لاستمرار الحديث. وضعت الهاند فري في أذنها لتستمع إلى أغنية إنجليزية سمعتها على اليوتيوب بالصدفة منذ شهرين، وقرّرت أن تكون تلك أغنية المرحلة حتى تكرها، ككل شيء في حياتها.

كانت علياء في طريقها إلى بيتها لتضع أغراضها في صناديق سيجلبها عمرو غداً؛ إذ إنها سوف تعود إلى زوجها السابق عمرو. ستعود وهي غير متيقنة من القرار، غير متيقنة من أي شيء، فقط متيقنة من تعبها الآن من كل شيء وحيرتها.

نظرت باتجاه الناحية اليمنى لترى سيدة في منتصف الأربعينيات، ترتدى نظارة كبيرة كأنها دفنت منذ خمس دقائق بكرها، وبجانبها على اليسار، كان هناك رجل في الخمسينيات، يركب سيارة صينية مازال عليها أربعة أقساط، يضع يده على خده كأنه يدارى حزناً عميقاً، ووراءه سيارة نص نقل عليها عمال يحملون همّ الزمان على وجوههم.

نظرت باتجاه اليمين لترى سيدة في منتصف الأربعينيات، ترتدى نظارة كبيرة كأنها دفنت منذ خمس دقائق بكرها، وبجانبها على اليسار، كان هناك رجل في الخمسينيات، يركب سيارة صينية مازال عليها أربعة أقساط، يضع يده على خده كأنه يداري حزناً عميقاً... مجاز

خطر في بالها فكرة أن مصر هي بلد المائة مليون حزين. رافقتها الفكرة لدقائق، ثم انفتح الطريق واتجه السائق بغير رجعة، ووصل أمام العمارة، وبعد حساب سخيف للأجرة أعطته عشرة جنيهات زيادة كما كان يريد. صعدت البيت لتجمع أغراضها السابقة وتعود بها إلى بيت عمرو الجديد.

جلست علياء في الصالة تتفحّص الأشياء بعناية، تلك الأشياء التي قامت بشرائها وبذلت مجهوداً خرافياً في اختيار الطقم الصيني وأواني التيفال وأطباق الطعام، طمعاً في جذب عين عريس أحمق لا يفقه في شيء سوى الأكل والجنس، ولكن عمرو لم يكن كذلك. كان شاباً لطيفاً في بداية علاقتهم، ولكن سرعان ما وضحت هوّة التصدع في علاقتهم: غيرة غير مبرّرة، نوبات قلق مستمرة ، شجارات كثيرة... كلها أمور أدت للطلاق، وكأنه حل  لابد منه، كبيت بُني على أساس خطأ فتوجّب هدمه، أما عمرو وعلياء فكانت أحلامهم متعارضة: هي تريد السفر والحياة، وهو يبكي على أطلال بيت مهدّم، يتمسّك ببقايا الثورة التي تندثر كصقلية التي أنهكها الطاعون.

خطر في بالها فكرة أن مصر هي بلد المائة مليون حزين

 كان أمام التلفاز يبكي ويسب ويلعن، يحلم بعالم أفضل ولا يريد أن يأخذ السفينة للعودة إنما ظل متمسّكاً بما بقي. في تلك اللحظة، أيقنت علياء أن الطلاق هو الحل المناسب، عاب عليها البعض ونظروا لها تلك النظرة التي تنظر للمرأة التي تترك زوجها في محنته، ولكنها كانت هي الأخرى في محنة، كلاهما غريق ويبحثن عن منفذ مختلف للنجاة .

تم الطلاق، ووجدت حينها علياء أن عليها أن تغير حياتها بنفسها. لم تعد إلى بيت أهلها. لحقتها ألسنتهم ونظرة الناس إليها ولكنها لم تهتم، تزوّجت بسبب كلام الناس، عاشت بكلمة يقولها الناس. قالت: "اللعنة عليهم، سأفعل ما أريد فقط". اشترت شقة صغيرة في حدائق الزيتون، ثم واحدة أخرى وسط البلد، تطل على محطة مترو سعد زغلول، وجدت عملاً تحبه بصدق، غير عابئة بأهلها الذين رحلوا واحداً تلو الآخر.

حياة علياء العاطفية كانت بسيطة. واعدت شابين، واحد من العمل وواحد من فيسبوك. حاول أحدهما أن يقبلها مرّة ولكنه فمه كان يشبه ماسورة الصرف، أما الآخر فقد تبادلا القبلات في السيارة... مجاز

وقتها كانت حياة عمرو تدور في رحى الحياة، تطحنه ليس بروتينها، إنما بتغيراتها  الكثيرة التي تؤدي إلى خذلان ووهن في النفس. كان يبحث عن سلام، لا يعرف كيف يجده، كان يبحث عن نفسه وسط الآخرين ولكنه كان تائهاً لدرجة كبيرة.

*****

حياة علياء العاطفية كانت بسيطة. واعدت شابين، واحد من العمل وواحد من فيسبوك. حاول أحدهما أن يقبلها مرّة ولكنه فمه كان يشبه ماسورة الصرف، أما الآخر فقد تبادلا القبلات في السيارة. كانت تريد أكثر، كانت تبحث فيه عن عمرو الذى اختفى مع الوقت. قامت لتجمع أشياءها لتضعها في حقائب وكراتين حتى يأتي الرجل ويأخذها في الغد. مرّ على خاطرها عدة ذكريات مع كل شيء تضعه، إلى أن وصلت للتسريحة، ووجدت كوفية عمرو الخضراء التي تركها منذ أسبوع في البيت عندما أتى. كان يوماً شتوياً بارداً. عادت علياء حينها من العمل، لحظات ووجدت الباب يطرق، لتجد عمرو أمامها. مرّت سنة ونصف ولكنه هو، نفس الضعف والهوان في عينيه، نظرا لبعضهما من دون كلمة، وأشارت له بالدخول فدخل. كان الصمت حينها بليغاً حدّ الخرس. اتجهت للمطبخ لتعدّ له شيئاً يشربه، فجذبها من يدها وحضنها. كان حضناً قوياً ذابت فيه تفاصيلهما.

ظلّا على تلك الحالة إلى أن بدأ عمرو بالبكاء. نظرت علياء في عينه، كان يبكي بحرقة طفل فقد أمه. نظرت له وبكت. كان كلاهما يبكي بشدة، تلك اللحظة التي تسترجع فيها كل ذكرياتك السيئة أمام عينيك وتشعر أنّك عاجز عن الشرح حتى. كان كلاهما على كتف الآخر ولكن عقله كان في عالم مختلف،  كل يفكر في اتجاه كالسابق، بعدها اتفقا على العودة. اتفقا على أنه يحتاجها بجواره، يحتاجها لتكون معه، لم تكن تعلم لماذا ولكنها وافقت. ربما من الملل، لكنها وافقت. الملل من أسباب الحب أيضاً.

*****

انتهت علياء من ملابسها. تأكدت من أن الأشياء موضوعة كلها في الحقائب والكراتين، نزلت إلى الشارع واستقلت تاكسياً إلى البيت؛ حتى يذهبا للعشاء سوياً، ويلبسها الخاتم مرة أخرى، ثم يمرّا على المأذون في طريق العودة، ويقضيا ليلة يذوب فيها جليد الماضي، ولكن في الطريق كانت علياء تسأل نفسها: هل هذا يستحق؟ هل تحبه حقاً؟ هل أخطأت؟

قطع التاكسي أفكارها بوقوفه المفاجئ أمام العمارة. نزلت وهي ترتدي فستاناً أسود جميلاً وجزمة كعب متوسط. دلفت العمارة والأسئلة في رأسها، وقفت أمام المصعد تفكر. لم تضغط على الزر إنما هو هبط بمفرده. ظنّت أنه عمرو، ولكنه كان رجلاً عجوزاً يحمل كيس الزبالة في يده. نظر لها بحنان وقال: "مساء الخير. حضرتك طالعة؟". جاوبته بكل هدوء: "لا".

حينها اتجهت إلى الخارج، خلعت حذاءها وظلّت تجري. لم تكن تعلم أكان الجو بارداً أم أن ركضها جعلها تشعر بالحر. هل كانت تحبه؟ هل تريد حقاً العودة إليه؟ هل ستذهب إلى الشاب الذي قبّلها في السيارة؟ هل ستبكي؟ لم تكن تعلم ماذا ستفعل، ولكن حينما تتوقف عن الركض سوف تفكر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard