شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عاجبك إيه في

عاجبك إيه في "شغل المراهقين " ده يا ماما؟… المسلسلات التركية وجوعنا العاطفي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

Arab moms and Turkish TV dramas: Food for emotional starvation?

في 2005 عرفت المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية طريقها إلى منزلنا الصغير في قريتنا الريفية البعيدة، فتعلّقت بها أمي وصارت تتابعها باهتمام بالغ أدهشني وأثار فضولي.

فتلك المرأة الريفية البسيطة التي لم تكن تتوقف عن الحركة- فدوماً لديها ما تفعله- عاشت لسنوات طويلة تكتفي من الترفيه بمتابعة مسلسل السابعة والربع مساء على القناة الأولى في التلفزيون المصري باهتمام وشغف، وخصوصاً لو كان من تأليف الرائع أسامة أنور عكاشة، حينها تتأثر بقصته وتتوحّد مع أبطاله.

لكنها كانت دوماً تتابع الحلقة وهي تقوم بعمل ما: تحيك ثياباً جديداً، تصلح أخرى قديمة، تصنع وسادة من قصاصات الأقمشة البالية، تطعم فرخاً وليداً بفمها، تشعل الموقد لتحمّص أرغفة الخبز لعشاء بسيط، فلا تحمل ذاكرتي لها مشهداً واحداً تخلت فيه عن مهامها، حتى وهي تتابع مسلسلها المفضل.

لكن الوضع اختلف مع "سنوات الضياع" أو مسلسل "يحيى ولميس"، كما اعتادت أن تسميه حينها، فلازلت أتذكر ملامح وجهها الهائمة وهي تتابع على شاشة التلفزيون قصة حب الجميلة و"الأبضاي" بكل جوارحها، كما يقولون. تخرج منها تنهيدة حارة تارة، وتمصمص شفتيها وهي تضع يدها على خدها تارة أخرى. تلمع عيناها كلما تابعت عيونهما التي تتبادل الحب بصمت وكبرياء، وتبتسم ابتسامة خجولة كلما تبادلا القبلات الحارة.

لأتابع أنا ملامحها بابتسامة لا أستطيع إخفاءها، وأتساءل: ما الذي يجذب امرأة تقترب سنوات عمرها من الستين في "شغل المراهقين ده".

أسألها ضاحكة: "عاجبك إيه في الناس دول يا ماما؟".

فتضحك بخجل وتجيب باقتضاب: "بيعرفوا يحبوا يا بت".

فابتسم مدهوشة! أمي، المرأة المتحفّظة، الخجولة التي لم أسمعها يوماً تتحدث عن الحب أو الجنس، ولو على سبيل المزاح كغيرها من نساء قريتنا؛ تنطق بمثل هذه الجملة، هكذا بوضوح. بالرغم من سنوات عمرها، لازالت تحمل قلب فتاة يرتعش حباً ويذوب شوقاً ويشتاق لعناق طويل ممن يحب.

وأتساءل: ما الذي يجذب امرأة تقترب سنوات عمرها من الستين في "شغل المراهقين ده". أسألها ضاحكة: "عاجبك إيه في الناس دول يا ماما؟". فتضحك بخجل وتجيب باقتضاب: "بيعرفوا يحبوا يا بت"

أندهش وأكتشف وجهاً آخر لأمي التي نهرت زميلي في الصف الثاني الابتدائي حينما تجرّأ وطرق باب بيتنا، ذات ظهيرة، بعفوية ليسأل عني، بعد غيابي من المدرسة، وأخبرته بقسوة ألا يفعل ذلك مرة أخرى، ثم فاجأتني "بقرصة في اللباليب" تتقنها كل أم مصرية وهي تقطب جبينها قائلة: "أنا ماعنديش بنت تعرف ولاد، انتي فاهمة".

يومها حفظت الدرس جيداً، ولم أنسه أبداً، فكلما تقرّب مني زميل عبر المراحل الدراسية المختلفة؛ أتذكر آلام القرصة الأولى، فتعتلي التكشيرة وجهي، حتى أطلق عليّ الرفاق لقب "البراوية".

صرت أخاف مصارحتها إذا ما تحرّكت مشاعري رغماً عني تجاه أحدهم، فلم أحك لها يوماً عن حب مراهقة داعب خيالي، ولا عن زميل أبدى إعجاباً بي، أو حتى عن عابر طريق تحرّش بي، فقد كانت تعرف كل شيء. هكذا أيقنت وأقنعت نفسي: أمي تعرف كل شيء، فلا داعي للكلام.

كنت أعرف أنها، وعلى الرغم من صلابتها الخارجية، رقيقة القلب، فالمرأة التي تذوب عشقاً في أغاني فيروز ونجاة وفايزة أحمد، وتحفظ قصائد نزار قباني والهادي آدم وكامل الشناوي عن ظهر قلب؛ لا يمكن أن تكون جافة المشاعر أبداً.

عرفت من خالتي ذات مرة أن أمي قد خاضت معركة مع جدي لتتزوج من أبي، فقد كان يراه غير مناسب، لكنها كانت قد وقعت في شباك الغرام، فلم تقبل التخلّي عن حقها في الاختيار. قصة حبّهما كانت مضرباً للأمثال، وهو الأمر الذي أثار دهشتي؛ فمنذ وعيت وأنا أراهما مختلفين، متباعدين، لا أذكر أنني رأيتهما متعانقين يوماً، لم ألمحه يقبض على كفها بحب، لم أضبطهما يتبادلان القبل حتى لو كانت بريئة عابرة، لم يجمعهما فراش واحد، فلكل غرفته وفراشه، فأين ذهب الحب، ومتى وكيف انطفأت نيرانه؟

أسئلة لم أجرؤ يوماً على طرحها عليها، لكنني قرأت إجابتها في عينيها وهي تتابع قصة غرام "يحيى ولميس"، بما فيها من نظرات وهمسات ولمسات وأشواق مشتعلة لا تهدأ نيرانها أبداً، فحتماً كان توحّدها مع أبطال "سنوات الضياع" تعويضاً عما فقدته في سنوات عمرها التي ضاعت رغماً عنها.

حرمان أمي الذي لم أعرف له سبباً، جعلني أتردّد كثيراً في اتخاذ قرار الزواج، خوفاً من تكرار تجربتها، لكن في النهاية وقعت في المحظور، وتزوجت رجلاً أحبني وأحببته، لكني قرّرت ألا أكون في زواجي نسخة من أمي.

تصالحت مع جسدي وأحببته، وأيقنت أن من حقي أن أعبّر عن مشاعري ورغباتي، أن أصرّح بحبي وغضبي واحتياجي. قرّرت أن أكون امرأة قوية، تطلب حينما تشاء وترفض حينما تفقد الرغبة. قرّرت أن تصبح اللمسة والقبلة والعناق مفردات يومية أعيشها، وليست مشاهد تلفزيونية أتابعها بهيام.

لكن تمرّ السنوات ويصبح كل شيء مكرّراً ومعاداً حتى الحب. رغم رفضي للروتين، ومحاولاتي للهروب منه بكل ما آتاني الله من سبل، لكنها طاحونة الحياة التي تطحننا وتسلبنا الشغف، فيصبح الاعتياد شريكاً أساسياً رغماً عنا، وبرغم الإشباع الجسدي والاطمئنان الروحي والأمان العاطفي، أصبحت مع الوقت أتوق لمشاعر مضت. أشعر بجوع لها. براءة البدايات، وجمال التلميحات، وحيرة المكاشفة. لهفة تعقب غياب. صدفة عابرة تصيب القلب برجفة. لمسة بريئة تشعل نار الشوق لعناق طويل. همسة بين الزحام يلقطها راداري أو نظرة وحدي أفكّ شفرتها. الخصام والعناد والبعد. كلها تفاصيل توارت خلف عقد الزواج، لكن طيفها مازال يراودني من حين لآخر.

فإن كانت أمي، رحمها الله، قد أدمنت مشاهدة المسلسلات التركية تعويضاً عن حرمان عاشته وهي زوجة، فقد لجأت إليها أنا اشتياقاً لحرمان عشته قبل الزواج، ولكل منا أسبابه

حاولت أن أصارح زوجي باشتياقي للوعة البدايات؛ فبادرني ضاحكاً: "إحنا عدينا المرحلة دي من زمان يا روحي"، فالتزمت الصمت، ولم أجد بداخلي طاقة للشرح أو التفسير، فاستسلمت للملل ومرّت الأيام تباعاً.

حتى صادفني سؤال إحداهن على فيسبوك: "عايزة مسلسل تركي جديد يشدني ويخرجني من حالة البرود العاطفي اللي عايشاها اليومين دول؟".

سؤال أعادني لسنوات طويلة مضت، وبادرت نفسي بدهشة: "هو لسه فيه حد بيتفرج على مسلسلات تركي؟".

فعلى ما يبدو أن مرور السنوات لم يسحب البساط من تحت أقدام الدراما التركية عند الجمهور المصري، فها هي أجيال جديدة من النساء تبحث عن مشاهد الحب التي تشبع جوعهن العاطفي وتشعل جذوة أشواقهن المكبوتة.

تابعت الإجابات على السؤال بابتسامة وأنا أتذكر أمي وارتباطها بيحيي ولميس وأسمر وعاصي وسمر ومهند وغيرهم، لأكتشف أن أمي لم تكن الوحيدة التي وجدت في المسلسلات التركية عوضاً عن كل ما فقدته من مشاعر، لكن هناك غيرها كثيرات، وجدتني أطرح عليهن سؤالاً: "إيه اللي في المسلسلات التركي يشد للدرجة دي؟".

فكانت إجابة أمي حاضرة رغم اختلاف صياغتها من امرأة لأخرى: "بيعرفوا يحبوا".

"من الواضح أن الجوع العاطفي ينهش أفئدة المصريات"، هكذا همست لنفسي وأنا أتابع إجابات النساء على سؤالي، حيث تبارت كل واحدة في شرح جمال مسلسلها التركي المفضل، شرحاً كان سبباً في ترشيح فيسبوك لبعض المقاطع من أحدث الأعمال التركية التي وجدتها تحاصرني، لتخطفني نظرة من أحدهم، تربكني تذكرني بطيف مشاعر اشتقت إليها، فأهتف: "هي دي النظرة اللي وحشاني"، ثم أبحث بلهفة عن حلقات مسلسل "زهرة الدم"، وأتابع قصة عشق مستحيلة بين بطليه "باران وديلان"، لأجد نفسي مدفوعة لمشاهدته دفعاً.

أنتظر الحلقة الجديدة بلهفة مراهقة، بالرغم من كونها قصة تقليدية مكرّرة، لا إبداع فيها، لا مستوى درامي خارق، ولا إخراجي مختلف. حلقات مليئة بمشاهد الفلاش باك كوسيلة تقليدية للتطويل، أخطاء ساذجة وأداء مفتعل من بعض الأبطال، لكنه، على الرغم من كل ذلك، مليء بمفردات اشتقت للمسها بإحساسي، اللهفة والتردّد والرغبة في البوح. الحيرة في تفسير مشاعر تجتاح القلب. الشوق لقبلة وتمنّي عناق. حصار يعيشه البطلان، يلجم رغباتهما ويقبض على مشاعرهما الجامحة بقبضة من حديد، فيفرض عليهما حرماناً عاطفياً استفزّني، وجعلني أشتاق لأيام حرمان طويلة عشتها كانت فيها مشاعري مشتعلة. أستكشف فيها الحب والجنون والحلم. أيام كنت فيها روحاً جامحة لا تعرف قيداً ولا تعترف بسور. روح قيّدها جسد أراد أن يشبع رغباته، ففقدت الروح حريتها، لأتحول مع الأيام إلى نسخة من أمي. فإن كانت، رحمها الله، قد أدمنت مشاهدة المسلسلات التركية تعويضاً عن حرمان عاشته وهي زوجة، فقد لجأت إليها أنا اشتياقاً لحرمان عشته قبل الزواج، ولكل منا أسبابه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image