الحب يفكّك الألم إلى جروح صغيرة يمكن الشفاء منها أو إلى ندوب سطحية يمكن التعايش معها. ليس من واجب الحب أن يلغي مآسي الحياة أو يوقف الإحساس بها، ولن يكون يوماً وحده قادراً على ذلك، إلّا أنه قادر على منحنا الأمل والرغبة بالتحمّل والانتظار، وعلى إضافة تفاصيل تستحق هذا الانتظار.
من المفترض أن يحصل الإنسان على الحب من مصادر عدّة تبدأ بحضن العائلة والوطن والجماعة المنتمي لها وتُتبع بالشريك أو غيره، أمّا إذا فقد مصادره الأولى دفعة واحدة فيُصبح البحث عن الحب في الكثير من الأحيان فعلاً قهرياً، ويتم تحميل مصدر الحب المحتمل وجوده لاحقاً عبئاً يصعب الثبات في ظلّه.
إن لم تحبنا مدننا فمن سيحبنا؟
أحاول التوقف عن إقحام الوطن في كتاباتي لخوفي من أن أبدو مكررة وبائسة، لكنْ لـ"سوريتي" جذور في كلّ شيء من حولي وبداخلي. فقدنا الوجه المحب للوطن مع بدايات الحرب، لا نعلم إن كان حزناً علينا أم غضباً منّا، لكننا لم نستطع إعادة اكتسابه حتى اليوم، وبالتتالي فقدنا أشكالاً أخرى من الحب ومشاعر مرتبطة به.
المدن كالأمهات تعرف أبناءها، وما من مدينة قادرة على ملء الفراغ الذي سبّبته الغربة في مساحات الحب، فمنذ توقفت حلب عن احتضاني أصبحت بلا مأوى. هنا نعيش بأرواح متفرّقة ومثقلة بمحاولات الاندماج وكوابيس الماضي، بواقعٍ يبدو من الخارج طبيعياً لكن لا شيء فيه طبيعي، ونحلم بحبٍ كالأرض التي نمت فيها جذورنا يُعيد خلقنا بأرواحٍ متعانقة.
في الغربة تخاف أن تُنسى، أن يتم إقصاؤك من الدائرة الاجتماعية التي اعتدتها. كلّ مساء في ألمانيا هو موعد لقاءٍ مع الوحدة.
في الغربة تخاف أن تُنسى، أن يتم إقصاؤك من الدائرة الاجتماعية التي اعتدتها. كلّ مساء في ألمانيا هو موعد لقاءٍ مع الوحدة، تختار طريقك للهروب منه بكلّ ما تمنحك إيّاه هذه البلاد من حريّة وبكلّ ما تبرّره لك مشاعرك المتعبة. فمن سيهتم بليلة سريعة تتشارك فيها السرير مع غريب في أحد الفنادق؟ ومن سيعترض على استخدامك الـ Tinder للحصول على لقاء واحد أو محادثة وحيدة؟ ومن سيلقي عليك اللوم لتخليك عن شريكك بشكل غير أخلاقي في حياة لا يحدث فيها ما هو أخلاقي؟ حين يكون هدفك هو إنقاذ نفسك من الموت في سراديب الوحدة، لن يكون لوصف الانحلال الأخلاقي أو الأنانية أيّ قيمة.
رغم ذلك فإن الوحدة ليست حكماً قطعياً بالإعدام، إنمّا يمكن قبولها والتصالح معها، أو على الأقل الهروب منها إلى علاقات صحية وآمنة.
فاقد الشيء قد يُعطيه
حين تفكّر بالارتباط بأحد الأشخاص العاطفيين، ممّن فقدوا الوطن والأمان والانتماء والحريّة، فكّر بقدرتك على منحه كلّ ما سبق من منطلق الحب وحده، قدرتك على مرافقته في اضطراباته النفسية والمحاولات المستمرة لتجاوزها معاً، قدرتك على إثبات عدم صحة المثل القائل "فاقد الشيء لا يعطيه". قبل أن ينسل من فمك أيّ تعبير عن الحب، تعلّم كيف تبني بين ذراعيك مدينة آمنة يمكن لساكِنها أن يكون حرّاً من جميع القيود والأقنعة. لن يكون من السهل منح ما نحتاجه وننتظر الحصول عليه للشريك قبل إشباع ذواتنا، في حين أنه ليس من السهل أيضاً فهم احتياجاتنا من قبل شركاء لا يشاركوننا نوع الألم وحجمه. لا أعلم من منّا، بعد كم الفقدان الذي أصابنا، يقدر على تحقيق هذه المعادلة، وكيف يمكننا أن نمنع العلاقات التي نستنجد بها من استنزاف ما تبقّى من طاقاتنا.
“نحن ما عنّا طاقة نسند حدا، يا دوب نسند حالنا" هذا ما قالته صديقتي في حديث سابق بيننا عن القدرة على مساندة الأشخاص الذين نحبهم، وبسبب هذا الضغط النفسي تنتهي الكثير من العلاقات وتبدأ أخرى أكثر هشاشة من سابقاتها. أصبح البحث عن شركاء أصحاء نفسياً ضمن المجتمع السوري يشبه البحث عن "إبرة في كومة قش"، ناهيك بالصعوبات الأخرى التي تواجه المغتربين في التعرّف على أشخاص جدد من البيئة نفسها.
“نحن ما عنّا طاقة نسند حدا، يا دوب نسند حالنا". هذا ما قالته صديقتي في حديث سابق بيننا عن القدرة على مساندة الأشخاص الذين نحبهم
ليس الحب إلّا أمراً يضاف إلى قائمة البحث لدينا كمغتربين، القائمة التي لم نتخيّل يوماً أننا سنحتاج للبحث عن أيّ منها، تلك الأمور التي لم تكن إلّا من البديهيات في وطننا، كتفاصيل حياتنا اليومية التي تتطلّب جهداً مضاعفاً للقيام بها. ليس الحب إلّا قارب نجاة جديد يستقلّه السوريون ويدفعون ثمن المغامرة بأرواحهم على متنه، ما هو إلّا محاولة أخيرة لإيجاد وطن بديل.
كنت سابقاً أخاف الوقوع بالحب بسبب إيماني بعدم قدرة الإنسان على بناء علاقة صحية قبل علاجه من الصدمات التي أصابته وما تسبّبت به من خراب داخلي، وبسبب خوفي من أن أكون الطرف السّام في أيّ علاقة. لكنني اليوم أؤمن بأن جلّ ما نحتاجه لنُشفى هو الحبّ. وأننا، من نعاني وندرك ألم غياب الحب، أكثر القادرين على منحه. وأنا اليوم هاربة كغيري من الوحدة ومن الخوف على قاربٍ يدفعه الحب نحو الأمان في وجه جميع الظروف المعاكسة. قد أحظى بوطن جديد يوماً ما، يتمثّل بمنزل صغير يشاركني إيّاه قلب آخر، منزل نملأه بحب يعادل آلام السوريين ووحدتهم، وطن يحتضنني إلى أن تنتهي الحرب وتُمحى كلّ آثارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.