أن ننثر حبات القمح، ثم ننتظر السنابل الغضة فنستفيق على منظر الخضرة الممتد صباحاً، ثم ننتظر حصاد الحبات وطحنها فتخزينها. البرغل هنا في الساحل السوري يذهب أبعد بكثير من مجرد طبق عابر، نطبخه لنأكل، والسلام.
يتميز القمح المزروع في الساحل السوري بأنه من "النوع البلدي" ذي اللون الأسمر الغامق، ما يكسبه طعماً قوياً بخلاف البرغل الأبيض، الذي يزرع في مناطق سورية أخرى، وهو أساس المطبخ الساحلي، ويستخدم في تنويعات لا حصر لها من الطبخات، كالبرغل بكوسا، والبرغل مع اليقطين، والأكلة الأشهر مقلي البرغل على الحطب.
مقلي البرغل بحمص
على موقد صغير أمام منزلها، اعتادت أم علاء (62 عاماً) أن تضع مقلي الفخار وفيه بعض قطع الدجاج، وحبات الحمص المنقوع من مساء اليوم السابق، تنتظر كي تزيل الرغوة، وبعد ذلك تضيف بصلة كاملة وعدة أوراق يابسة من الغار، وتنتظر نضج المكونات.
تقول أم علاء لرصيف22: "يجب عدم إضافة أي من مواد الباقة العطرية، أو أي منكهات أخرى، كي لا نخسر طعم البرغل، وهذا سر البرغل في مطبخنا الساحلي".
في مناطق أخرى من سوريا، كما العاصمة دمشق، على سبيل المثال، يضاف إلى مياه سلق الدجاج، عدة منكهات مثل، أعواد القرفة، وحبات الهيل، والفلفل الأسود وحبات اللومي. ترى أم علاء أن تلك المنكهات تصلح فقط لطبخات الأرز مثل الكبسة والمندي وغيرهما، لكنها لا تصلح لأكلات البرغل، وتدعو الجميع لتطبيق فكرتها ومقارنة الطعم.
بعد نضج الدجاج والحمص، تُزال قطع الدجاج، ويضاف البرغل المغسول إلى الحمص ومياه السلق بعد تقدير كمية المرق، ثم تخفف النار من تحته، ويترك الجمر الخفيف فقط، بانتظار عملية النضج، التي لا تستغرق أكثر من 20 دقيقة غالباً، بحسب ما تقول السيدة الستينية.
والآن بات المقلي جاهزاً للأكل تقريباً، إذ تعاد قطع الدجاج إليه، ويغطى جيداً ويترك فوق الرماد الذي يدعى بالمحكي الشعبي بـ"الملمول"، مدة عشر دقائق فقط، والآن بات جاهزاً لكن قبل التقديم، توضع كمية كافية من زيت الزيتون فوق الطبخة، تضيف: "يجب أن يكون الزيت بارداً، أي لا يوضع في مقلاة على النار".
تقول أم علاء: "يجب عدم إضافة أية منكهات أو مواد من الباقة العطرية باستثناء الغار، كي لا نخسر طعم البرغل، وهذا سره في مطبخنا الساحلي"
على مائدة مقلي البرغل بالحمص وإلى جانبه الكثير من الخضروات، هناك السلطة، والبصل الأخضر، والمخللات المتنوعة، واللبن البلدي.
يعتبر مقلي البرغل بحمص، في عداد أكلات الولائم الكبيرة، وقد انتشر في بعض المطاعم حتى خارج الساحل السوري، وهو مصنوع من الفخار بأحجام مختلفة، ويأتي معه وعاء قش يسمى "السانونة" يوضع فيه المقلي بعد إزالته عن النار، إضافة لمغرفة خشبية خاصة به.
مجدرة برغل بالبندورة
رغم أن المجدرة أكلة شعبية تنتشر في عموم المناطق، فإن طهوها على نار الحطب وبالمقلي، يكسبها نكهة خاصة، وهي مؤلفة من حبات العدس والبرغل بنفس طريقة طهو البرغل بحمص، لكن من دون لحم أو دجاج، مع وضع البصل المكرمل بزيت الزيتون فوق صحن التقديم، ويرافقها السلطة والمخللات واللبن على المائدة.
على موقد أمام منزله أيضاً، يضع محمد (67 عاماً) القليل من الزيت مع بصلة مقطعة، وينتظر أن تذبل ليضيف إليها البندورة المعصورة، ويتركها حتى يثقل المزيج قليلاً أو بالعامية "يتعقد"، بعد ذلك يضاف البرغل المغسول، وتترك الطبخة حتى ينضج، كما يقول. ويضيف لرصيف22: "هكذا بات مقلي البرغل ببندورة جاهزاً. طبق لا أحد جربه ونسيه أبداً".
البرغل بالبندورة، أو باليقطين، أو بالكوسا من الأكلات النباتية التي تطبخ على الحطب في الساحل السوري
يصنع من البرغل الكثير من الأطباق الأخرى، مثل البرغل بكوسا والبرغل باليقطين، وهي في مجملها مشابهة للبرغل ببندورة، إنما عوضاً عن إضافة البندورة، يضاف اليقطين أو الكوسا بعد تقطيعهما لقطع متوسطة الحجم.
أكلات باردة
بعيداً عن استخدام النار في الطهو، يعدّ الريفيون في الساحل السوري، العديد من أنواع الطعام المصنوعة بالبرغل، دون أن تحتاج لطهو، مثل "المقيريطة"، التي تحرص سعاد (45 عاماً) على صنعها بشكل متكرر، مع بداية الربيع بعد انقضاء موسم البرد.
تروي سعاد وهي من ريف مدينة بانياس، طريقة إعداد هذه الأكلة: ينقع البرغل الناعم، وهو نوع من البرغل لا يصلح للطهو، ويستخدم في صناعة "الكبة بلحمة" و"الكبيبات بسلق"، إذ ينقع بالمياه الساخنة عدة ساعات، حتى تنتشي الحبة وتصبح سهلة السحق بمجرد وضعها بين الأصابع والضغط عليها.
يوضع البرغل المنقوع جيداً في وعاء كبير، ثم يضاف إليه خليط كبير من الخضروات بعد تقطيعها تقطيعاً ناعماً، مثل البصل الأخضر والبقدونس والنعنع، إضافة إلى البندورة والقليل من الثوم، إضافة إلى تشكيلة من البهارات، تتضمن البابريكا والكمون والفلفل الأسود، والكثير من عصير الليمون الحامض والملح.
وفي المرحلة الأخيرة، تضيف سعاد كمية وافرة من زيت الزيتون، وتضع كامل الكمية على المائدة، ليأخذ كل فرد بالعائلة حصته بصحن صغير أمامه، كما تقول وتضيف أنه بإمكان تناول المقيريطة بالملعقة، أو بورق الملفوف أو ورق العنب بعد وضعهما في مياه ساخنة عشر دقايق، ليحلا محل الخبز في هذا الطبق، الذي تصفه بأنه طبق جانبي، وليس من الوجبات الرئيسية.
الكبب بأنواعها
يستخدم أهل الساحل السوري البرغل في صناعة الكبب بكل أنواعها، ليكون العماد الرئيسي للعجينة، سواء كانت كبة اللحم أو الكبيبات بسلق.
تقول الجدة سعدة التي يقارب عمرها الثمانين عاماً من ريف اللاذقية، إنهم يصنعون من البرغل كل شيء تقريباً، وتضيف مازحة: "إلا الحلويات لم نستطع ابتكار حلويات بالبرغل، ويا للأسف يا بنتي".
لطهو "المقيرطة" ينقع البرغل الناعم بالماء الساخن لساعات، ويضاف إليه البصل الأخضر والبقدونس والنعنع البندورة والقليل من الثوم، والبهارات، والكثير من عصير الليمون وزيت الزيتون
القمح سر البقاء
يرى الريفيون في القمح حبات مباركة، ولا يمكن لمنزل في الساحل السوري، ألا يموّن كميات وافرة من منتجات القمح، بما فيها البرغل، والحنطة المخصصة لطبخ القمحية والمتبلة كذلك الحنطة المشوية لصنع الفريكة.
ففي موسم جني القمح مع بداية الصيف تقريباً، يتم سلق حبات الحنطة الخاصة بصنع البرغل، إذ تسلق على النار في أوعية كبيرة تسمى "جعائل" ومفردها "جعيلة"، وبعد ذلك تفرد على سطح المنزل تحت أشعة الشمس حتى تجف تماماً، وبعدها يتم طحنها، إما يدوياً بواسطة حجر الرحى، الذي بات انتشاره محدوداً جداً في بعض المنازل، أو بالمطحنة الخاصة وهي الأكثر شيوعاً اليوم، وتسمى العملية "جرْش" البرغل.
تؤكل "القمحية" في الصيف، حيث يسلق القمح المقشور، ثم يضاف إليه اللبن الرائب، ويترك في البراد كأكله تبرّد حر الأجواء
قسم من الحنطة يترك كما هو، بعد دقه في وعاء حجري يسمى "الجرن"، حيث تدق الحبات الرطبة حتى تتخلص من القشرة الخارجية، وتترك لتجف تحت الشمس، ثم تخزن للشتاء أو الصيف، ففي الشتاء تصنع أكلة القمحية الشهيرة، عبر إضافة حبات الحنطة إلى المياه مع الدجاج أو اللحم وتركها حتى تنضج، بعد ثلاث أو أربع ساعات حسب الكمية، وهي مدة كافية ليذوب اللحم مع حبات الحنطة، وقبل التقديم توضع كمية وافرة من السمن العربي.
أما في الصيف حين ترتفع درجات الحرارة، فلا تحتمل الأجواء صنع أكلات تبعث على الدفء مثل القمحية. فيتم سلق القمح المقشور، وبعد النضج يضاف إليه اللبن الرائب، ويترك في البراد، كأكلة لذيذة جداً تُطفئ حرّ الصيف وتبعده، وغالباً ما تقدم مع البطاطا المقلية.
وأمام كل هذا التنوع، فإن المثل القائل "العز للرز والبرغل شنق حاله"، لا يمكن أن يكون صحيحاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.