لم يكن التين غريباً عن العنب والزيتون يوماً في بلاد الشام، كان شريكاً دمثاً لهما مذ بدأت الزراعة. واكتسب أهمية كبرى في ثقافة الفلاحين في بلاد الشام عموماً، حتى ارتبطت الأغنيات به، ومواسم الزفاف، والفقر والثراء، إلى الحد الذي صار يشار إلى الرجل في بعض المناطق بعدد أشجار التين التي يمتلكها في أرضه "فلان عنده 299 تينة".
تقسم كلمة تين إلى "تي" أو "طي" وهي الأرض الترابية، و"آن" وهو الإله، لتصبح كلمة تين تعني شجرة إله الأرض. مقام كبير ومكان خاص لهذه الشجرة ومنافعها في تاريخ الجماعة التي سكنت هذه البقعة من الأرض حيث يختلط الغذائي بالمقدس. وحيث لكل شيء تاريخ وموروث، وللتين تاريخ يكاد لا ينافسه في الثمر الحلو تاريخ آخر.
طعام الحكماء
هل دجّن اجدادنا التين عبثاً؟ كانوا يجتمعون في جلساتهم الشتائية يأكلون "تين هبول" ويضحكون ويتسامرون منتظرين بشغف موسمهم القادم من شجرة التين.
القسَم بالتين لم يأتِ عبثاً "والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين"، فهو طعام الحكماء ووصفتهم التي لا تقدم مع السنوات لعلاج كثير من الأمراض. يقول طبيبنا الأكبر إبن سينا: التين يقلل الحوامض في الجسم ويدفع أثرها السيىء.
أما إبن النفيس فقد تبنى العلاج عن طريق الغذاء فكان التين غذاءً لأصحاب السعال والمسلولين وأصحاب الربو وضيق التنفس، كما كان غذاءً للمعدة الضعيفة والقيء والوحام.
ويقول أبو بكر الرازي: "التين يقوي الكبد ويذهب ألم الطحال وألم عسر البول وضعف الكلى وعسر التنفس. ومن قبلهم جميعاً قال صغريث البابلي: "للتين منفعةً كبيرةً للكبد والطحال اللذين فيهما غلظ وخاصةً الطحال، إذا أكله أصحاب السدد والغلظ في الكبد والطحال على الريق، وقبل وقت الطعام بزمان مع نصف وزنه حاشا أو زوفا ففي هذا نفع كبير".
تبنى إبن النفيس العلاج عن طريق الغذاء فكان يصف التين للسعال والمسلولين والربو وضيق التنفس، كما وصفه غذاءً للمعدة الضعيفة والقيء والوحام
سنحتفظ به إلى الشتاء
أثبتت الدراسات أن زراعة التين تعود لـ11000 عام قبل الميلاد، فكيف عرف أجدادنا منافعه وفوائده؟ وكيف أصبح التين مقيماً في بيت مونتهم ومدماكاً في هذا البيت؟ "سنحتفظ به الى فصل الشتاء" هكذا فكروا، فكان أن جمع آخِر التين ليحفظ ويجفف.
لكن كيف استنتجوا عملية التجفيف التي تطرد في صميمها مضار التين؟ لأن الوصف الذي جاءنا من كتب التاريخ يقول إن التين فاكهة حريّفة لا ينبغي أن يؤكل إلا بعد نضجه تماماً، فالتين غير الناضج يسبب الانتفاخ وعسر الهضم، وإذا جفف زالت منه الرطوبة فلا يسبب النفخة ويساعد في عملية الهضم.
أما العلم الحديث فأكد على أهميته وشدّ على يد التاريخ، فهو من الفواكه الغنية بالألياف الغذائية ومضادات الأكسدة، كما يعد التين وجبة مهمة لاحتوائه على الكربوهيدرات والمعادن والفيتامينات التي تمد الجسم بالطاقة وتحافظ على القلب ونشاطه.
مربّى التين بوصفة العمّات
كنت طفلاً وأنا أراقب عمّاتي وهن يقطفن التين، فكيف نصنع مربى التين على طريقتهن؟
ننقع التين في الماء ودبس العنب حتى يغفو ويبوح بمحتواه، ثم نضعه على النار الهادئة حتى يلين وتعقد دموعه كقطر جميل. هكذا مربى التين بشكله البسيط وطبعه الدمث.
في طفولتي أيضاً كنت أضم حبات التين كقلادة وأعلقها على حبل الغسيل لتجف، كانت أمي تحشوه مجففاً بعجين ما، أو تقدمه مع عنبري العنب.
"تين هبّول" هو من أقدم الوصفات التي وصلتنا لطرق حفظ التين، وبلغة اليوم فهو من الحلويات الصحية الغنية بالمعادن والفيتامينات، وفي نفس الوقت خالية من السكر وتبقى لفترات طويلة دون مواد حافظة
تين هبول
الكمية المطلوب لهذه الوصفة هي ما يملأ الغربال الذي نمتلكه من التين.
نأتي بالتين الناضج في أواخره، وتشق حبات التين، ثم نضع قماشاً في صينية وتسطح أو تفرش عليها حبات التين.
نترك التين تحت شمس لطيفة ليجف ويتبخر ماؤه.
بعدها نجمع التين ونلمه في قطعة القماش ذاتها ونضعه على غربال.
ثم نضع وعاءً مليئاً بالماء على النار وحين يبدأ بالغليان، نضع الغربال بما فيه فوقه.
نترك التين ليطهى بطيئاً وجيداً على بخار الماء المتصاعد، وحتى يصبح لونه أحمر وهو الدليل على نضجه.
ثم نأخذ التين المهبّل، ونعجنه جيداً عجناً قاسياً. ونقوم بتشكيله على هيئة كرات.
تمرر كرات التين على الـ"فريفيرة" حتى تغلف كرة التين عن آخرها، والـ"فريفيرة" أو نخالة القمح: هي آخر جرش القمح في دوره الأخير في حجر الرحى، من هنا أتت تسمية "الهبول" أي المُهّبل أو المطهو على بخار الماء.
هكذا احتفظ أجدادنا بالتين وطعمه بحلته الجديدة إلى مواسم كانت شجرة التين تنتظر فيها أن تلد مجدداً. لا عجب أن التين بهبوله وعدمه كان زوادة ضرورية للتجار كمؤونة أساسية في رحلاتهم التجارية البعيدة.
وصفة شهية وصحية قديمة
من معجون التين الهبّول تشكلت ثقافة طعام كاملة، وخرجت الكثير من الوصفات التي لا زالت تزداد حتى اليوم، منها الوصفات المالحة ومنها الحلوة، ندرج هنا منها وصفة "كعك التين المجفف".
هي إحدى الوصفات الصحية التي لا تحتوي على السكر، ولا تحتوي على الغلوتين، غنية بالألياف والمعادن والفيتامينات، وتصلح للأشخاص المصابين بحساسية الغلوتين، أو الذين يعانون من السكري، أو الراغبين باتباع أنظمة غذائية خالية من السكر، كما أنها بديل ممتاز وصحي للأطفال.
المقادير:
- 300 غرام من التين المجفف المطحون، أو تين هبول
- 400 غرام طحين الشوفان
- 100 غرام زيت نباتي
- معلقة كبيرة من الزبدة، ويمكن استبدلها بزبدة الفستق لفائدة أكبر
- 2 بيض
- ملعقة صغيرة من القرفة المطحونة
- رشة من القرنفل المطحون
- رشة من جوزة الطيب المطحونة
- رشة من الفانيليا
- ملعقة صغيرة من بكينج بودر
لتحضير وصفة "كعك التين المجفف" سنحتاج قليلاً من الصبر لننتج كمية كبيرة، أما بقية المواد فموجودة في كل مطبخ شرقي تقريباُ
طريقة التحضير:
- في إناء نخلط جيداً جميع المواد الجافة عدا الفانيليا (طحين، قرفة، قرنفل، جوزة الطيب، باكينغ باودر)
- في الخلاط نضع جميع المواد السائلة مع الفانيليا (تين، بيض، زيت، زبدة) ونخلطها جيداً لنحصل على خليط متجانس.
- نسكب الخليط السائل في الوعاء فوق خليط المواد الجافة، ونخلطهما جيداً حتى نحصل على عجينة طرية ومتماسكة.
- على طاولة مدهونة بالقليل من الزيت نفرد العجينة بسماكة ربع سنتمتر، ثم نقطعها بمقاطع الأشكال أو بالسكين.
- نصُف القطع في صينية فوق ورق الزبدة، كما يمكن الاستغناء عن الورق بدهن الصينية بالزيت.
- ندخل الصينية إلى فرن محمى مسبقاً على درجة 180°، ونضعها على الرف المتوسط بين 10 و 15 دقيقة أو حتى تصبح ذهبية الأطراف.
- نخرج الصينية من الفرن ونتركها حتى تبرد تماماً قبل رفع القطع منها.
- للراغبين بإضافة القليل من الحلاوة واستخدام السكر، يمكن تزيين قطع البسكويت بالشوكولاتة أو لصق كل قطعتين بوضع مربى التين بينهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع