شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عطب مفاجئ لا يُنهي الحنين

عطب مفاجئ لا يُنهي الحنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 30 مايو 202301:23 م

فسد جهاز قياس الضغط هذا الصباح. أظنّه قد تأثر من الركون الطويل في خزنة الملابس، ومع حرارة الصيف وتمدّد الزئبق لمدى قياسي، أصبحت محاولات القياس تعطي نتائج وهمية، إذ مع أول قراءة كان يؤشّر أني بالفعل جسد بلا روح. جهاز قياس الضغط في حافظته السوداء كانت تمتلكه أمي، وبعد وفاتها، استأثرت به مع ما اقتنيت من أغراضها، لتكون ذكرى؛ حزنت وأنا أكتشف عطبه المفاجئ اليوم. كان كجزء حي أستشعر فيه نبض وريدها. أمي كانت تستخدمه صباح ومساء كل يوم لتطمئن على قياسها عند درجته الطبيعية؛ كانت مريضة ضغط دم مرتفع منذ سنوات.

عندما ماتت في بداية الشتاء المنقضي، قرّرت أن أقتني بعضاً من أشيائها كذكرى: شريط شعر أسود، مجعد، لامع وعريض، لا تزال خصلات ضعيفة بيضاء وقصيرة عالقة به، جهاز قياس الضغط الزئبقي العتيق، مناديل حريرية بيضاء، وقارورة عطر صغيرة كانت تلازمها.

وقتما أصيب أخي بحمى التيفود، كان يلزم قياس حرارته وضغطه ثلاث مرات يومياً، وإبلاغ الطبيب بالقراءات. كنا مازلنا في نهايات الصيف ولمّا نتخط بعد عمر المراهقة والطفولة، يكبرني بسبعة أعوام كاملة، كانت كفيلة بأن يفرض بها أوامره عليّ. كان يكره إمساك مشدّ صمام هواء جهاز قياس الضغط على وريده، كما كره أنبوب قياس الحرارة، إذ استلزم قياسه وضعه لدقيقة تحت إبطه.

أمرني بتسجيل القراءات دون قياس، بعدما مرّت الأيام الأولى العصيبة من مرضه، فكنت أسجّل ما يقول، وفي نهاية اليوم أعطيها لأمي فتبلغ الطبيب بها. أخي لا يذكر كل ذلك، لا يذكر سهري بجانبه لثلاثة أيام متتالية في بداية المرض، أُبدّل كمادات الثلج على جبينه وقدميه، لا يذكر خوفي من فقدانه، لن يستشعر تلك الدفقات القوية من العرق أسفل خصيتيّ، ولا تحرّك أمعائي كأنها تخرج عن إطارها، بعدما انتقلت لي العدوى. لم تنتبه أمي إلى تعليمات الطبيب بضرورة عزله، وتركتني أمرّضه.

عندما ماتت أمي في بداية الشتاء المنقضي، قرّرت أن أقتني بعضاً من أشيائها كذكرى: شريط شعر أسود، مجعد، لامع وعريض، لا تزال خصلات ضعيفة بيضاء وقصيرة عالقة به، جهاز قياس الضغط الزئبقي العتيق، مناديل حريرية بيضاء، وقارورة عطر صغيرة كانت تلازمها

هو لن يعرف ما إن كنت فعلياً أحبه أم أكرهه، كما أخبرته زوجته وأكدت عليه مراراً، لن يتأكد أني أحبه وأحب جهاز قياس الضغط، لأنه يحمل كل تلك الذكريات عنه وعن أمي، بل يحمل شحنات مكثفة من تفاصيل عدة حكايات.

على سرير الإفاقة المتهالك ذي الشرشف الأزرق، كانت تتمدّد أمي واهنة تتألم، تئنّ بصوت خفيض كعادتها، لم يسمع بوجعها أحد، أبداً. لتوّها، خرجت من غرفة تفتيت حصوات الكُلى، كانت لمّا تزل في عمر الشباب. أصيبت كُليتها اليسرى منذ الطفولة بعطب، جعلها تراكم الأملاح مكوّنة حصوات، ومن ثم فشلت وظائف الجهة من الكُلى والحالب.

أصبحت أمي من وقتها مريضة ضغط دم، بسبب تتالي عمليات التفتيت الذي لم يكن قد تطوّر إلى تقنية X-ray، اعتادت من بعدها، بتوصية طبيب الأوعية الدموية، على قياس ضغطها للاطمئنان على ثباته عند مستويات محددة.

اشترى لها أبي جهاز قياس؛ كانت قد ملّت من الخروج يوميا لأخذ القراءة عند أجزخانة البابلي، كان يبعد عن البيت ثلاث دقائق سيراً، لكنها كانت لا تحب الخروج كثيراً، خصوصاً بعدما صارت مريضة؛ أوهنها المرض وأُوهِمت برحيلها القريب. كما مات أبوها بفشل كلوي، أيضاً، توقعت موتها.

من تلك الآونة، لازمها جهاز قياس الضغط، وكبرتُ على هذا التلازم، إذ أصبح الروتين بحذافيره يتم في نفس الساعة وعلى المنوال ذاته. حتى أن الجميع في المنزل، أبي، أختي، أخي، وأنا؛ المتاح منا ساعتها بدون تذكيره، يسحب الجهاز ويأخذ القياس لها وله على سبيل الدعابة والمشاركة.

كنت أمسك بجهاز قياس ضغط الدم بيد مرتعشة، بعدما فسد، وأدور في أنحاء المنزل، كمن يبحث في متاهة عن مكبّ نفايات قريب، يمكن له احتواء الحنين المشحون على جيب الجهاز الجلد، وعلى مشدّ صمام الهواء، وعلى بصمات أصابع كل من تناوله بعلبته الرصاصية المعدنية المخربشة. مكبّ يصلح فقط لدفن الحنين دون غيره من المشاعر، أدور بين الغرف بدون هدف معلن، أصبّ قهوة الصباح التي تأخرت للظهيرة بسبب خلل أصابني لفساد الجهاز. كانت القهوة تفور وأنا أتأمله فوق رخامة المطبخ.

راقتني فكرة إصلاحه، جاءت الفكرة وأنا أنظر له بعين الشفقة؛ ربما هناك مركز متخصص لإصلاح عطب مثل تلك الأجهزة، كمثل المختصين في إصلاح الإلكترونيات. قلت لنفسي بالتأكيد يمكن أن تجد من يعيد شحن الزئبق مرة ثانية ويضبط مؤشره. المدينة معروفة بتخصصها في أمور الطب، وبكل تأكيد سأعثر على مبتغاي.

لم يكن نهاراً عادياً بكل تأكيد، كان يوما حزيناً جداً، يُضاف إلى يوميات الحنين. بتُّ في ضيق، أتأمل ذاكرتي مع جهاز قياس الضغط، ذاكرة لا يمكن أن يصيبها العطب أبداً

وطول فترة منتصف النهار كنت أفتل الأحياء القريبة من المراكز الطبية بحثاً عن متخصص في مثل تلك الأمور، دلني واحد على واحد وسلّمني الآخر إلى عنوان قريب، لمهندس معدات طبية، يقوم بهذه الأعمال الدقيقة. وبمجرد عرض الأمر عليه، انفجر الرجل بالضحك المصحوب بالغضب المشوب بالرأفة على حالة الناس.

لم يكن الأمر كما فكرت، نصحني بإلقائه بأقرب صندوق قمامة وشراء آخر من المركز الطبي على ناصية شارعه، يبيعه بسعر الجملة، ويبيع أجهزة قياس متطورة؛ فلم يعد أحد يستخدم هذا الجهاز العقيم، إلا أطباء في الأرياف والنجوع. خرجت محمّلاً باليأس. لم أستمع لنصيحته. ذهبت للمنزل يتملكني بكاء مفهوم الأسباب، ووضعت الجهاز بترتيب داخل جيبه الجلد، وتحسست موضعه في خزنة الملابس، بجانب أشياء أمي، شريط الشعر الأسود المعقود فيه خصلة بيضاء والمناديل وقنينة العطر.

لم يكن نهاراً عادياً بكل تأكيد، كان يوما حزيناً جداً، يُضاف إلى يوميات الحنين. بتُّ في ضيق، أتأمل ذاكرتي مع جهاز قياس الضغط، ذاكرة لا يمكن أن يصيبها العطب أبداً، وتتابعت المشاهد، وغفوت.

لم تمت أمي لا بأمراض الكُلى كما مات أبيها ولا بسبب ارتفاع ضغط الدم الذي لازمها لثلاثة عقود؛ قد تكون هذه الأعطاب في البناء الجسدي أثرت في تسريع وتيرة الوفاة، لا أكثر، لكنها ماتت بسبب فشل في جهاز التنفس، ونقص في وصول الأكسجين إلى الرئتين. بقيت مقيدة إلى سرير عناية فائقة إلى أن شهقت آخر محاولة. كنت كلما شاهدت الممرضة تقيس الضغط بجهاز يشبه ما تمتلكه أمي منذ سنوات، والتي اعتادت عليه، أشعر أني سأفقدها هنا، لا أعرف حقيقة هذا الشعور، ولماذا كان يراودني، رغم إنها كانت في بداية أعراض كوفيد19.

باتت الأمور، بعدها، تسير بتسارع في اتجاه الشفاء، لكن هاجس مرير كان يصرخ داخلي: هذه هي النهاية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image