شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ذكريات عن المواعدة في مدينتي الصغيرة البعيدة

ذكريات عن المواعدة في مدينتي الصغيرة البعيدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 23 يوليو 202108:53 ص

تقول الشابة غادة لحبيبها عامر في مسلسل سوري يعود للعام 2000: "ليش الله هيك عم يعذبنا؟ والله الحب مو حرام!"، تقول غادة ذلك بعد لقاءات سرية عدة بينهما، بعيداً عن الحي الذي يقطنان فيه، وخوفاً من كشف أمر العشق الحاصل بينهما من قبل العائلتين عموماً، وعائلة غادة خصوصاً، لأنها الفتاة الممنوعة من الحب في المجتمع التقليدي.

هذا الحوار البسيط والمتكرر في كل لقاء يحدث بينهما، أيقظ في داخلي ذكريات عن "المواعدة" في مدينتي الصغيرة مصياف، الواقعة في المنطقة الوسطى من سوريا. في مصياف، هناك شارع رئيس طويل يُسمى "طريق المساكن"، أما أنا فأسميه "شارع العشاق"، أو "شارع المواعدة". صبايا وشباب البلد كلهم يخرجون إليه لتنفس الهواء، وتبادل التحيات والنظرات. كم عاشقاً وعاشقة على هذا الطريق؟ لا أستطيع تحديد ذلك، ولكن بمجرد مراقبة الأعين، ونظراتها الشغوفة، أستطيع القول إنه كان هناك الكثير، الكثير من العشاق.

أما الحذر، فقد كان من أعين الناس، فأنت في مجتمع صغير كهذا، لم تكن تحب الفتاة وحدها، بل كنت تحب المدينة بكاملها

كان البوح بالحب في هذا الشارع يدخل في مسألة الاحتمالات. فهو إما يقع، أو لا يقع، ماذا يعني ذلك؟ الخوف والحذر كانا يسبقان الحب ويعرقلان حدوثه؛ الخوف من الواقع الاقتصادي الذي كان يقيد الشاب، والعلاقة التي يريد بناءها مع الفتاة. فالعلاقات كانت تبدأ في أحيان كثيرة على أساس حدوث خطوبة، ومن ثم الزواج، فيكون وضع الشاب، الذي يدرس أو يعمل عملاً بسيطاً، ولا ينتمي لأسرة غنية، صعباً للغاية في علاقات كهذه. أما الحذر، فقد كان من أعين الناس، فأنت في مجتمع صغير كهذا، لم تكن تحب الفتاة وحدها، بل كنت تحب المدينة بكاملها.

ومع ذلك، وبما أن الأمر متعلق بالاحتمالات تلك، فقد كان الحب يقع عندما يقرر الشاب كسر حاجز الخوف ذاك، ويطلق اندفاعه لإيقاف الصبية التي يحبها، فيفصح لها عما في داخله من شغف وحب وعاطفة. عندما يحدث ذلك، سيكون الحب محظوظاً بالطرفين معاً، فحياتهما ستبدأ بالتغير بعد هذا البوح الجميل.

ثم تتطور العلاقة بينهما وينتقلان من طريق المساكن المليء بأمثالهما، إلى الخروج معاً إلى المقهى في حال موافقة العائلتين. وإذا ما لم يتم ذلك، يبقى الحب حبيس ذاك الشارع، أو شوارع فرعية أخرى بعيدة عن أعين سكان المدينة، ليتحول العاشقان إلى لصين محترفين في سرقة المكان والزمان، وتوظيف ذلك لخدمة سرهم الأعظم.

كنت تشعر بدقات قلوب عشاق هذا الشارع بمجرد التجوال فيه. فالأرض تحت رجليك كانت ترقص على إيقاع تلك الدقات نفسها، ورغبة الحب في العيون كانت تجذب نظر المارة كلهم. فمن كان غير واقع في الحب، يتحول في هذا الطريق إلى عاشق يبدأ بالأحلام لحظة رجوعه إلى منزله، بعد جولة مفعمة بالمشاعر.

لا أعلم إن كنت محظوظاً، أم لا، لانتمائي إلى طريق المساكن ذاك في يوم من الأيام، ووقوعي في الحب، والدخول في دوامة المشاعر تلك. ولكن ما أعلمه أن الأيام كانت بسيطة، والحب كان أبسط على الرغم من التعقيدات كلها، والبوح بالمشاعر كان أسهل، ربما بسبب صغر السن، أو بساطة الحلم.

أصبحت على يقين أن الحنين إلى الأشخاص الذين يشاركونك المكان، أعمق بكثير من الحنين إلى المكان عينه

اليوم، وأنا في برلين، وبينما أتمشى في شوارعها، أفتقد وجود شارع مثل "طريق المساكن"، أو شارع العشاق"، كما أحب أن أطلق عليه. الحنين إلى ذلك الشارع، خاصةً لمن غادروا سوريا، قد يبدو غير منطقي للبعض. فهنا، في بلدان إقامتنا الجديدة، يختلف كثيراً نمط العلاقات عن ذاك الذي كنا نشهده ونعيشه في بلدنا الأصل؛ لا رقيب عليك من المجتمع، ولا من غيره، ولا خوف من إقامة علاقة بين شخصين، وأماكن التجمع بين الناس كثيرة. لكن لا أعلم. ربما الحنين إلى ذلك الشارع ليس إلا إشارة إلى الحنين إلى مرحلة عمرية كاملة، أو ربما بسبب الشعور بالتقدم في العمر، الذي يحدث يومياً، هو ما يدفعنا إلى ذلك. أسأل نفسي كثيراً، في حال عودتي بعد سنوات لزيارة البلد، هل سأشعر بالمشاعر نفسها في ذلك الشارع؟ لا أعرف الجواب بالضبط. لكني أرجح أن تكون الإجابة لا. إذ لن يتواجد عندئذ الأشخاص أنفسهم الذين كنت أعرفهم. كل منهم في بلد، وفي ظروف مختلفة. وربما سأشعر بالحنين ذاته الذي أشعر به الآن.

أصبحت على يقين أن الحنين إلى الأشخاص الذين يشاركونك المكان، أعمق بكثير من الحنين إلى المكان عينه. يبدو أن بوح غادة وعامر بالحب، لبعضهما البعض، استطاع وبقوة إيقاظ شريط كامل من الذكريات.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image