شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
“وحنينه أبداً لأول منزل“... هل من الجيّد أن نعيش على ذكريات الماضي؟

“وحنينه أبداً لأول منزل“... هل من الجيّد أن نعيش على ذكريات الماضي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 20 ديسمبر 201905:50 م

عندما تقومون بزيارة بيتكم القديم، مدرستكم، الحيّ الذي كان شاهداً على "شيطنتكم" أيام الطفولة، وحين تقلّبون في ألبومات الصور أو تستمعون إلى أغنية ما، أو عندما تتصاعد من منزل أحد جيرانكم رائحة طبق ما... تبحرون فجأة في خيالكم لأبعد حدود، تصيبكم القشعريرة وينتابكم شعور غريب مجبول بالسعادة والألم، وإحساس لذيذ بالاطمئنان والراحة النفسية إلى زمن مضى بالفعل، ولكنه يشكل جزءاً لا يتجزأ من هويتكم وكيانكم.

من الطبيعي، وبخاصة في مواسم الأعياد، أن نشتاق إلى صفحات جميلة ومحطات مضيئة طبعت مشوار حياتنا، فنتذكر مثلاً طفولتنا البريئة والخالية من المسؤوليات والمخاوف، أغاني الأعياد والوجبات الشهية التي تشاركناها مع أحباب بعضهم قد فارقنا، ونرسم ابتسامة على وجهنا حين نتذكر تلك العلب الملوّنة التي كنا نسارع إلى فتحها بفارغ الصبر...

هذه أمثلة على حالة "النوستالجيا" التي ترافقنا دائماً، بحيث يبقى شيء من عبق الماضي عالق بنا رغم الزمن، شيء تعجز يد النسيان أن تطاله، فمهما كبرنا ومررنا بتجارب عديدة في الحياة، يبقى هناك جزء في داخلنا يأبى أن يتغيّر، "طفل صغير" يبحث دوماً عن الأيام الدافئة وعن لحظات السعادة التي لا تعوض، مما يجعلنا نتساءل: هل كانت الحياة حقاً جميلة أم "حلاوة" الذكرى هي التي تجمّل في عيوننا الماضي فنستلذ به؟ أنبتسم لأن الذكريات جميلة أم نبكي لأن الماضي لن يعود؟

تطور مفهوم النوستالجيا

يمكن تعريف النوستالجيا على أنها "الحنين إلى الماضي"، أو الحالة العاطفية التي نصنعها في إطارٍ معين وفي أوقات وأماكن معينة، ويمكن وصفها بأنها العملية التي يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة، فنختبر نوعاً من الحزن العذب على الأيام التي ولّت من دون عودة.

وسواء كان ذلك بسبب صورة فوتوغرافية أو قطعة ملابس قديمة أو رائحة عطر معيّنة، تثير النوستالجيا إحساساً خاصاً بالوقت والمكان، ولكن هل من الجيّد أن نغرق بتفكيرنا في الأحداث الماضية؟

منذ أكثر من 15 عاماً، كان معظم علماء النفس يعتبرون أن الانغماس في الذكريات بدلاً من العيش في الحاضر، ومقارنة كيف كانت الأمور في السابق مع ما هي عليه اليوم، هي سبب جذري لمرض الاكتئاب.

مهما كبرنا ومررنا بتجارب عديدة في الحياة، يبقى هناك جزء في داخلنا يأبى أن يتغيّر، "طفل صغير" يبحث دوماً عن الأيام الدافئة وعن لحظات السعادة التي لا تعوض، فهل كانت الحياة حقاً جميلة أم "حلاوة" الذكرى هي التي تجمّل في عيوننا الماضي فنستلذ به؟ أنبتسم لأن الذكريات جميلة أم نبكي لأن الماضي لن يعود؟

واللافت أن كلمة نوستالجيا مشتقة من nostos التي تعني في اليونانية العودة إلى الديار وalgos التي تعني الألم من التفكير بالماضي، وعليه كان "الحنين إلى الماضي" يعتبر اضطراباً نفسياً يعود إلى الصحة العقلية والجسدية الهشة لبعض الجنود، نتيجة شوقهم للعودة إلى ديارهم.

ففي أواخر القرن السادس عشر، صاغ الأطباء السويسريون مصطلح "نوستالجيا" للإشارة إلى نوع معين من الحنين للإسرة والوطن في صفوف الجنود، بمعنى آخر، كانت النوستالجيا تعتبر مرضاً خاصاً بالجنود والحالة الذهنية التي تتمثل بالتوق إلى ما خسره الجندي: السلام، السعادة والأحباء.

وبالتالي كان معظم الباحثين يميلون للتفكير بالنوستالجيا كأمر سيء، ففي العام 1985، وصف المحلل النفسي روديريك بيترز الحنين الشديد بـ"الوهن الذي يستمر ويتداخل بشدة مع محاولات الفرد للتعامل مع ظروفه الحالية"، إلا أن هذا المفهوم لم يبق على حاله، فقد بدأت عملية كسر هذه الصورة النمطية السلبية في ذهن الأكاديمي اليوناني قسطنطين سيديكيدس، الذي عمل لسنوات عديدة في جامعة نورث كارولاينا في الولايات المتحدة الأميركية، قبل أن ينتقل في العام 1999 إلى جامعة ساوثهامبتون.

وعلى غرار معظم أساتذة علم النفس، انكب سيديكيدس على دراسة وتحليل العملية الذهنية الخاصة به، بعد أن وجد نفسه مغموراً بحنينه إلى منزله السابق وإلى أمسيات الصيف التي كان يمضيها مع عائلته وأصدقائه، وهي ذكريات كانت تغمر حواسه بالأصوات والروائح، إلا أنها لم تجلب له التعاسة، كما كان متوقعاً، بل على العكس، جعلته يشعر بالرضا عن نفسه وساعدته في فهم مسار حياته.

ومن خلال مجموعة الأبحاث التي قام بها، وجد سيديكيدس أن الحنين إلى الماضي قد يكون بمثابة وسيلة يمكن الاعتماد عليها للتواصل مع أشخاص وأحداث معينة، بهدف المضي قدماً في الحياة بأقل خوف وبأهداف أكبر، شارحاً ذلك بالقول: "النوستالجيا تربط بين الماضي والحاضر وتشكل محفزاً قوياً للشعور بالتفاؤل بشأن المستقبل"، مشيراً إلى أنها "حالة ذهنية محورية للغاية في التجربة الإنسانية".

"إنعاش" الماضي الجميل

تعتبر النوستالجيا مسألة شائعة بين البشر، فقد وجدت دراسة نشرت في العام 2017، أن الشعور بالحنين هو واحد من 27 إحساساً رئيسياً يختبره البشر ويمكن أن يغير عقلهم بعدة طرق، والأهم أنه بالإمكان استخدام النوستالجيا كوسيلة علاج، لمساعدة الأفراد على تجاوز بعض الصدمات الناجمة عن العنف أو النفي أو الخسارة، غير أنه في بعض الحالات يمكن أن يؤدي الحنين إلى الماضي لدى بعض الأشخاص، إلى توقهم الدائم للعودة إلى الماضي، الأمر الذي يجعلهم يعيشون في عزلة عن الحاضر.

الشعور بالحنين هو واحد من 27 إحساساً رئيسياً يختبره البشر ويمكن أن يغير عقلهم بعدة طرق

في حديث مع موقع رصيف22، أوضح الأخصائي في علم النفس هاني رستم، أن النوستالجيا تعني الحنين إلى الماضي والشوق إلى العيش بأمان، مشيراً إلى أن هذا الشعور يختبره المرء بعد أن يعاني من فقدان شخص عزيز على قلبه أو غرض ما، أو بعد مروره بتجربة معيّنة.

واعتبر هاني أن الحنين إلى الماضي قد يساعد الشخص على إعادة "إنعاش" الماضي والتجارب التي مرّ بها، مشيراً إلى أن الشعور بالنوستالجيا لا يرافقه بالضرورة اكتئاب، إنما هو عبارة عن "حزن ممزوج بنوع من الفرح، يعود إلى فكرة أن ما نفكر به لا يزال موجوداً في ذاكرتنا"، وفق قوله.

بمعنى آخر أوضح رستم أن النوستالجيا تعني ببساطة أن المرء لديه جذور معيّنة ينطلق منها، الأمر الذي يعطيه دافعاً كبيراً لتحدي الصعوبات والتأقلم مع الوضع الصعب والعمل على بناء المرونة النفسية.

هذا وكشف رستم أن هناك نوعين من النوستالجيا: الحنين السلبي الذي يكبّل المرء ويجعله أسير الماضي، والحنين الإيجابي الذي يصاحبه مشاعر إيجابية، والذي يجعل المرء يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة.

بين الحلو والمرّ

في الواقع يتأرجح الحنين إلى الماضي بين الحلو والمرّ، فمذاقه حلو لأنه يسمح لذهننا باستعادة اللحظات الجميلة والهروب أحياناً من بشاعة الحاضر، وهو مرّ في الوقت نفسه لأنه يجعلنا ندرك أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، ويؤكد لنا أن ما مضى قد مضى وانقضى.

ولكن على ما يبدو أن مذاق النوستالجيا الحلو هو الطاغي، فقد درس العلماء الشعور بالحنين للماضي، ووجدوا أنه يخدم وظيفة إيجابية، إذ إنه يحسن الحالة المزاجية والصحة النفسية أيضاً.

يتأرجح الحنين إلى الماضي بين الحلو والمرّ، فمذاقه حلو لأنه يسمح لذهننا باستعادة اللحظات الجميلة والهروب أحياناً من بشاعة الحاضر، وهو مرّ في الوقت نفسه لأنه يجعلنا ندرك أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء

في الواقع سلّطت إحدى الدراسات الضوء على فائدة الشعور بالحنين للماضي، وتوصلت إلى أن هذا الشعور المنغمس بالألم والحزن لا يحبسنا في الماضي، بل يرفع من معنوياتنا ومن شعورنا بالحيوية: عندما حثّ الباحثون المشتركين على الاستغراق في التفكير في الماضي من خلال كلمات الأغاني العاطفية أو الذكريات، شعر المشتركون بإحساس أكبر بالاستمرارية الذاتية، جرى قياسه بحسب مؤشر يطرح أسئلة تقيس مدى شعورهم بالارتباط بالماضي والجوانب الجوهرية من شخصياتهم التي لم تتغير مع مرور الزمن، بمعنى آخر، اتضح أن الشعور بالحنين إلى الماضي يعزز من الإحساس بالاستمرارية الذاتية، من خلال زيادة الشعور بالترابط الاجتماعي، إذ إن الذكريات العاطفية غالباً ما تشمل الأحباء، وهو ما يمكن أن يذكرنا بشبكة اجتماعية تمتد لتشمل الكثير من الناس عبر العديد من الفترات الزمنية.

ووصف الباحث تيم ويلدشوت من جامعة ساوثهامبتون، الشعور بالحنين الذي نمر به بصورة طبيعية عدة مرات في الأسبوع، بأنه "استجابة مناعية نفسية، تحدث عندما تواجهنا بعض المطبات على الطريق"، مشيراً إلى أن هناك العديد من الطرق التي يشعر الناس من خلالها بالحنين للماضي، ومنها النظر إلى الصور أو طهي وجبات معينة أو مشاركة قصص الذكريات أو تشغيل الموسيقى.

باختصار يمكن القول إن النوستالجيا هي بمثابة آلية دفاع يعتمدها العقل البشري لتحسين المزاج والحالة النفسية التي يمر بها، لذلك نجد أنها تكثر في حالات الملل أو عند الشعور بالوحدة، فيقوم المرء عندها بفتح "الدفاتر القديمة" واستدعاء الذكريات الجميلة، مما يعطيه حافزاً قوياً للتعامل مع التحديات والعقبات الحالية التي تفترش طريقه.

وهكذا تبقى الذكريات، بحلوها ومرها، تشكل هوية الإنسان وجوهر وجوده، بحيث أنها تصله بالماضي الجميل وبالذكريات التي لا يمكن حذفها من الذاكرة، وتعطيه دروساً هامة للمستقبل.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image