شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"الهامور"... ماذا يعني عرض فيلم سعودي في القاهرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 30 مايو 202303:59 م

في أواخر عام 1990، نشرت جريدة الكواكب إعلاناً استثنائياً من الدورة المقامة آنذاك لمهرجان القاهرة السينمائي الذي كان برئاسة سعد الدين وهبة، عن أنه سيتم عرض أولى الأفلام السعودية في مصر تحت اسم "السندباد الصغير". كان الفيلم إنتاجاً سعودياً يابانياً مشتركاً، وضعت فيها السينما الأكثر حداثةً في المنطقة كل إمكانياتها للتواجد على الساحة الفنية في القاهرة التي كانت قد أصبحت بوضوح شديد "هوليوود الشرق"، كما سيظل يقال عنها حتى تتغير الأحوال.

بعد رحلة طويلة خاضها صنّاع سعوديون وحدهم، ساعدتهم مؤخراً الظرفية التاريخية التي جاءت بالأمير محمد بن سلمان الذي اهتمّ بالترفيه كما لم يهتم به أمير سعودي على الإطلاق. هذه الحركة شجعت شباباً سعوديين لأخذ خطوات متواضعة في المشهد الموازي الصاعد، شاهدنا عصارته قبل عام واحد عندما وصلت الصناعة في السعودية إلى محطة قوية، بالعمل على صناعة مهرجان سينمائي سعودي يحمل أقوى سوق للصناعة في المنطقة على الإطلاق، ليس لمشاهدة الأفلام فقط ولكن لصناعتها كذلك والمشاركة في إنتاجها سواء كانت سعوديةً خالصةً أو إنتاجاً فنياً تهتم السعودية بالمشاركة فيه.

هوليوود الشرق؟

تغيرت الأحوال قليلاً بالنسبة إلى مصر كرائدة للصناعة في المنطقة، كما إلى غيرها، وكان ذلك بالتوازي مع النظرة التي أولتها السعودية ذاتها للإنتاج. الآن بتنا نشاهد هوليوود تفتح ذراعيها لأموال الخليج، تلك التي كانت تتجنب شركات إنتاج الأفلام فيها المملكة العربية السعودية في السابق. لكن مقاومة أموال المملكة بدأت تتلاشى مع نضوب مصادر تمويل الأفلام التقليدية، مثل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، حسب ما جاء في مقال نشرته بلومبرغ.

 السعودية، على غرار الصين، تريد استخدام الإعلام والترفيه لمدّ نفوذها في العالم ولتحسين سمعتها. ومن المتوقع أن يكون إقبال السعودية على الأفلام الدولية أكبر من رغبتها في إنتاج أفلام للاستهلاك المحلي

وعلى الجانب الآخر، لدى دول الخليج فائض من الأموال، هو ما دفع الممولين إلى التشكيك في منطق رفض تلك الأموال. وفي إمكان الإستوديوهات الآن تلقي حوافز مالية لتصوير الأفلام في السعودية، وقد توجه عشرات المشاهير إلى جدة لحضور مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. ليست السعودية وحدها في ذلك. لطالما كانت قطر والإمارات مصدرَين للتمويل في صناعة الإعلام، وفق بلومبرغ. استثمر الصندوق السيادي القطري في إستوديو ميرماكس، وضخت شركة مبادلة للاستثمار التابعة للحكومة الإماراتية، الكثير من الأموال في كتالوغ مايكل جاكسون الموسيقي. أما مصر، التي لطالما عُرفت بهوليوود الشرق فلم يرد ذكرها في التقرير.

نشاهد شباباً سعودياً ثرياً ومتهوراً، ورجلاً في الخلفية يحكي قصة ثرائه السريع غير الشريف وسعيه الدائم والمستمر إلى التحايل والحصول على المال مهما كان الثمن. قصة لا تبدو سعوديةً تماماً كما لا تبدو مستوردةً.

يقارن بعض المنتجين بين الصين قبل 10 سنوات والشرق الأوسط في وقتنا الحالي، حسب ما نقلت بلومبرغ؛ أصبحت الصين ثاني أهم سوق لصناعة الأفلام في العالم بعد هوليوود. وضمن مساعي تطوير صناعة الأفلام المحلية وتوسيع نفوذها على الساحة الدولية، ضخت بكين مليارات الدولارات في صناعة الأفلام لجذب شركات الإعلام الأمريكية. وبمجرد دخول هوليوود، أخرجتها بكين من الساحة ونسخت ممارساتها. وتفوقت الأفلام الصينية على نظيرتها الأمريكية في شباك التذاكر في الصين. وقال منتجون لبلومبرغ، إن السعودية، على غرار الصين، تريد استخدام الإعلام والترفيه لمدّ نفوذها في العالم ولتحسين سمعتها. ومن المتوقع أن يكون إقبال السعودية على الأفلام الدولية أكبر من رغبتها في إنتاج أفلام للاستهلاك المحلي.

في رؤية المملكة 2030، عناية مؤسِسة للترفيه، من خلال دعمه وتعزيزه، وتشجيع القطاع الخاص لتقديم مساهماته فيه. هنا أجندة اجتماعية وأخرى اقتصادية، لا نعرف من تأتي أولاً، ولو كان الحديث عن الطفرة الاقتصادية المتوقعة من صناعة ترفيه "يتناسب مع الهوية العربية والإسلامية للمملكة" هو الغالب. المتوقع أن تصل مساهمة قطاع الترفيه إلى 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي ونحو نصف مليون فرصة عمل على الأقل. هذه الرحلة الطويلة من عدّ الصحافة الأجنبية أن السعودية هي "هوليوود" الجديدة، مهما بات هذا الاستنتاج أرعن أو متحاملاً بالطبع في قلبه، رحلة طويلة من الحماسة والشغف نحو السينما، انتهت بالعرض السينمائي للفيلم الأحدث في السعودية في القاهرة، وهذا العرض يعني أكثر نسبياً مما يعنيه مجرد العرض والجودة الفنية والحكم النقدي على الفيلم.

"الهامور" كمجاز للسوق السعودي

فيلم "الهامور" من بطولة فهد القحطاني، خالد يسلم، إسماعيل الحسن، علي الشريف، فاطمة البنوي، خيرية أبو لبن، اخراج عبد الإله القرشي، تأليف هاني كعدور، وتدور أحداثه حول قصة حقيقية، حدثت عام 2003، لحارس أمن يُدعى حمد، يتمكن من جمع ثروة ضخمة عن طريق النصب وأوهم الناس بتوظيف أموالهم، وأصبح صاحب شأن كبير، ولكن سرعان ما تنقلب الأحداث.

ثمة معنى عظيم يحمله المسمى "الهامور"، باعتباره اسم سمكة عملاقة تتمتع بشعبية كبيرة لطيب مذاقها ونعومة لحمها، لكن الهوامير توجد أيضاً خارج الماء. والهامور لقب من الألقاب التي تُطلق على أصحاب الأموال الطائلة في منطقة الخليج عموماً. في قصة حقيقية عاصرتها السعودية قبل سنوات طويلة، تابع الشعب السعودي شخصيةً استثنائيةً اسمها "هامور سوا"، غيّرت ملامح الاستثمار الطبيعي في الداخل واستطاعت أن تجني أرباحاً من النصب على آلاف من السعوديين بادعاء حصول الجمهور على بطاقات سوا التي باتت سخرية الشخص السعودي، تماماً كما كان أحمد الريان حديث المصريين الذين نصب عليهم.

نشاهد شباباً سعودياً ثرياً ومتهوراً، ورجلاً في الخلفية يحكي قصة ثرائه السريع غير الشريف وسعيه الدائم والمستمر إلى التحايل والحصول على المال مهما كان الثمن. قصة لا تبدو سعوديةً تماماً كما لا تبدو مستوردةً. اعتمد الصنّاع على قصة يمكنها أن تتعايش مع الداخل السعودي كما يمكن تأويلها عموماً في قصة مثيرة فيها الكثير من الحركة التي تجذب المشاهد العابر الذي يطلب المتعة.

ببساطة، يمكن أن تذكّرك القصة بفيلم ليوناردو دي كابريو "ذئب وول ستريت"The Wolf of Wall Street للمخرج مارتن سكورسيزي، الذي يحكي قصةً مشابهةً بنفس شريط الصوت الخارجي لشاب راكم ثروته الكبيرة بناءً على التحايل والنصب على الجمهور بحجة مساعدتهم.

ثمة شيء مؤسس يمكن الكتابة عنه بالتوازي مع القصة، يخص سياق إنتاجها، ويخص الصناعة السعودية التي تستوعب ذاتها أكثر من أي وقتٍ مضى، وتستغل تراجع منافسيها في مصر تحديداً، كما في غيرها لصالحها. لا يبدو الأمر كمنافسة، بل كمساحة للمقارنة بين هنا وهناك ليس في المكاسب الملموسة وراء ذلك أكثر من كونه إدراكاً للتطور.

فيلم حركة صنعه سعوديون بشكل كامل، وتمكّنوا من عرضه في قلب دور سينما القاهرة في الوقت الذي تتراجع فيه القاهرة ذاتها في الإنتاج والعرض. تحسست الأقدام تجاه الإنتاج الجديد والأفكار الجديدة، مع وعود بالتواجد بشكل أكبر في المستقبل، تفتح المساحات أبعد من الرقابة، وتضم شباباً جديداً جاءت به من منصات التواصل لقربه من الجمهور، وتمهّد الطرق لإنتاج أفضل، وربما تبقى هذه الأسباب الأكثر محوريةً للتفحص والكتابة وتقديمها كنموذج من خلال فيلم "الهامور"، لا من خلال نقده في ذاته.

ثمة معنى عظيم يحمله المسمى "الهامور"، باعتباره اسم سمكة عملاقة تتمتع بشعبية كبيرة لطيب مذاقها ونعومة لحمها، لكن الهوامير توجد أيضاً خارج الماء. والهامور لقب من الألقاب التي تُطلق على أصحاب الأموال الطائلة في منطقة الخليج عموماً

هذه قصة حب، صناعة ناشئة لن تُخلق من العدم ولن تصل إلى النجوم فجأةً، تُبنى ببطء وثبات ولا تذهب سريعاً حتى لو أراد أصحابها ذلك. السوق بالرغم من كل ذلك كأي سوق لم يقدّم وعوداً، بل خلق مساحات تواجد ومعرفة، "السوق لا يقدّم وعوداً يا عزيزي، السوق يبشر بمن يملك المستقبل"، مثلما أخبرني الرجل الإنكليزي الصارم الذي جاء من أجل الحصول على دعم لفيلمه، وحصل عليه بالفعل كما يدّعي لكنه أوجد علاقات تستثمر مع الوقت الأمر الذي "كان مهماً أكثر من أي شيء" لديه، علاقات ترسّخ ذاتها، وتقدّم المجتمع السعودي الذي تمت فيه كمجتمع منفتح يتقبل كل شيء، وتُعقد صفقات السينما والصناعة عموماً في رحابه كجزء أصيل منه وربما تحت وصايته، وأحياناً بشراكة سعودية مباشرة أو بتعاون مع صانع سعودي، والعجلة تدور. في السابق كان يمكن أن تقبل بكل شيء لصناعة فيلمك. لم يعد هذا ما يحدث. الأماكن التي تقدّم الخدمة تسهلها أكثر لو كان التصوير في السعودية تحديداً، وتقدّم أكثر المشروعات لو كان تنفيذها هنا، وتمررها سريعاً لو استخدم الصنّاع مساعدات من صنّاع سعوديين.

منذ اللحظة التي خرج فيها الفيلم المتواضع "السندباد الصغير"، وصولاً إلى اللحظة التي تعيشها السعودية الآن، تجني الأخيرة حصاداً طويلاً من الجهد للتواجد على الساحة. يبدو أن الجميع يحتاجون إلى أن يفكروا في ما ستجنيه السعودية من السينما والاهتمام بها، ليدركوا أهمية ذلك في مقابل من يتجاهلون ريادتهم للدخول في معارك غير مفهومة وغير مفهوم جدواها. هذا فقط ما يعنيه عرض فيلم سعودي متواضع فنياً برغم كل شيء في قلب القاهرة المختنقة من قلة الإنتاج من دون وجاهة في ذلك.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard