كنت في العاشرة من عمري عندما، على فرصة الساعة 10.30 في المدرسة، تجادلت مع صديقي مارك حول موضوع لم أعد أذكره، إلى أن قال لي: "كل العالم بيعملو إيز ميز"، صرخت به: "لا، مش الكل بيعملو إيز ميز".
وتذكرت المسلسلات المكسيكية (كما كنّا نسمّيها) وأنها المكان الوحيد الذي رأيت فيه رجالاً ونساءً يتبادلون القبلات ويخلعون ثيابهم، ثم يُقطع المشهد ونكتشف وجه الممثلة الجميل والبريء على صدر الممثل المليء بالشعر، وهو يداعب شعرها الطويل الذي يغطي ما لا يغطيه شرشف السرير.
عندما خطرت لي هذه الصورة كبرقٍ سريع، أصلحت جملتي مكملاً: "لاء مش كل العالم بيعملو إيز ميز، بس بالمكسيك بيعملو إيز ميز".
كنت فخوراً بحجّتي التي استطعت من خلالها إعطاء مثال واضح، وكنت متأكداً من أن مارك سيعرف ما أقصد، فكان مثلي، ومثل كل أطفال التسعينيات، يتسمّر أمام الشاشة كل يوم بعد الدرس وقبل النوم، ليتابع قصة آنا كريستينا، فولخانيسو، روزاليندا، مالڤينا اللعينة، ريبيكا الشمطاء، ثريا مونتينيغرو، وكل تلك الشخصيات التي حُفرت في ذهننا الصغير.
لم يطل فخري، ولحظة المجد انتهت عندما صرخ مارك بوجهي: "مبلا كل العالم. حتى أهلك بيعملو إيز ميز".
قال جملته وذهب، غاب، اختفى، وتركني مع صورة غريبة، لا بل مخيفة: ماما وبابا، عندما لا نكون موجودين، يفعلون كأبطال المسلسلات المكسيكية. يفعلون الـ "إيز ميز"؟
طبعاً لم أتخيّل والديّ يتبادلان القبلات، أظن أن هذا الموضوع كان غير متاحٍ لمخيلتي، إنما تخيلت أمي واضعة رأسها على صدر أبي، تماماً كما تفعل جوليانا مع آليخاندرو.
قبل متابعة برنامجنا المشوق والمثير للرغبة والجدل في الوقت عينه، دعونا نتوقف لحظة مع فقرة "مفردات وقواعد اللغة العربية. ما هو معنى كلمة "إيز ميز"، أو هل هي عبارة "إيز ميز"؟
لست متأكداً ما إذا كانت كلمة واحدة أو عبارة من كلمتين، فإذا هي مؤلفة من كلمتين، هذا يعني أن " إيز" ممكن أن تتواجد بلا "ميز". والعكس صحيح. بهذه الحال، ما هو الـ "إيز" وما هو الـ "ميز"؟ وأنا أصلاً لا أعلم من أين أتت هذه الكلمات، فتّشت الإنترنت ووجدت فقط بعض الاسكتشات والفيديوهات السورية أو اللبنانية.
أما في فقرة المصطلحات واللغة في رأسي الصغير بسنته العاشرة، فعبارة "إيز ميز" تعني أن يتواجد الشريكان عاريين مع بعضهما في السرير، تحت الشرشف (بطبيعة الحال) ويغمران بعضهما، أو ببساطة يكونان قريبين الواحد من الآخر. هنالك احتمال أن يقوما بتبادل القبل، بوضع شفتيهما على بعض فقط لا غير.
تطير بي هذه الفكرة إلى محادثة قمت بها مع أختي، عندما كنت في السابعة من عمري وهي في أول سنين مراهقتها. تقول لي ونحن نشاهد قبلة لاورا وخوسيه في أحد مسلسلات الساعة السابعة قبل الأخبار: "مش عم بيبوسو عنجد، ليك كيف عم يستعملو لساناتُن، مش هيك التبويس".
طبعاً صدقت أختي وصدقت مارك وصدقت أمي عندما سألتها كيف يولد الأطفال.
صرخ مارك بوجهي: "مبلا كل العالم. حتى أهلك بيعملو إيز ميز". قال جملته وذهب، غاب، اختفى، وتركني مع صورة غريبة، لا بل مخيفة: ماما وبابا، عندما لا نكون موجودين، يفعلون كأبطال المسلسلات المكسيكية. يفعلون الـ "إيز ميز"؟
حصل ذلك صباح نهار سبت. أظن أنني كنت في الحادية عشرة من عمري، رأيت أمي وهي ترتّب التخت في غرفتها. طلّيت من حيث لا تدري وطرحت عليها سؤالاً بسيطاً واضحاً: "ماما، كيف بْيِجو الولاد؟"
سكتت ماما لبضعة ثوانٍ وهي تتابع تصفيف طعجات الحرام على سريرها، هزت بكتفها وحنت رأسها ببطء، وبصوت خافتٍ قالت متردّدة: "بيصلّو".
اقتنعتُ وذهبت، ولم أعلم أنني فعلت بأمي كما فعل صديقي مارك بي، قال جملة بسيطة واختفى تاركاً وراءه كائناً وحيداً مصدوماً كمن نزلت عليه الصاعقة.
لطالما تساءلت عندما كبرت إذا ما كانت أمي حضّرت هذا الجواب، إذا سمعته أو رأته في مكانٍ ما وإذا استخدمته مع أحد إخوتي أو إذا كانت أمها استخدمته معها، ولطالما تخيّلت أمي، وأنا في المدرسة، تخبر هذه القصة لإحدى صديقاتها على جلسة القهوة الصباحية. كنت أحب لو تخبر هذه الرواية وهي في حالة ضحك شديد، بصوتها المرتفع كما تفعل أحياناً، ولو مخبّأة وجهها من الإحراج.
لم أجرؤ قط على مواجهة أمي بهذه القصة، فلا زلت حتى الآن أخاف من أن أسبب لها الإحراج. عندما كنت أخبر المعالجين النفسيين (نعم، لقد تواكبوا عليّ مع الوقت) بهذه الخبرية، كانوا يضحكون ويسألونني السؤال نفسه: "وما زعلت منّا لمّا عرفت عنجد كيف بيجيبو ولاد؟"، وكان جوابي نفسه في كل مرة: "لاء".
تفهّمتها، كان عمري 12 سنة وتفهّمت والدتي وسامحتها، لا بل خجلت من طرح السؤال عليها، رغم كل الحب الذي غمرتنا به، أنا وإخوتي، أتخيّل كم من الصعب على امرأة مؤمنة ومتديّنة، ربة منزل لم تكمل علمها، أن تقوم بشرح هذه الأمور لأولادها، وأتساءل كيف تعاملت مع أختي الكبرى؟
في ليلة شتويّة، دعينا فيها على العشاء عند عمي وزوجته، وبينما كان الكبار يتحدثون ويهضّمون، جلنا البيت أنا وأختي، ووجدنا في المكتبة الصغيرة جنب التلفاز، كتاباً يحتوي على أسئلة وأجوبة عن الجنس باللغة العربية. أذكر جيداً كيف فتحت لي أختي صفحة الإمتاع الذاتي، وقالت لي أن أقرأ، ثم تركتني مع الكتاب.
أختي أيضاً مؤمنة متديّنة وخجولة، لا أعلم حتى الآن كيف أتتها الشجاعة والقوة لتعطي لأخيها المراهق الحق بقراءة معلومات حول الحياة الجنسية، إنما أتخيل أن في مدرستها، كما في مدرستي، شرحت لها المدام سروجي الخاصة بها كيف تتم هذه الأشياء.
كانت مدام غلاديس بغاية اللطافة والرقة، وأذكر جملة واحدة لها، جملة لم يتبق لي غيرها من تلك السنة، جملة جميلة قالتها بغاية اللطافة والنعومة، وكأن ذاكرتي اختارت أن تبقي فقط هذه الجملة لتواكبني طيلة حياتي: "يا ولاد، العلاقة الجنسية شي كتير حلو، كتيييير حلو"
في أحد أيام سنتي الثانية عشرة، طُلِب منّا أن نخرج من صفنا، للذهاب إلى قاعة مظلمة في الطابق الأخير من مبنى المدرسة. هذه الصالة كانت خاصة بمشاهدة الصور والأفلام. يومها عرضت علينا مدام سروجي (معلمة علوم الحياة آنذاك) بمساعدة معلمة أخرى لم أكن أعرفها ولم أرها قط، رسومات يدوية للأعضاء التناسلية، وقالت لنا جملة لن أنساها أبداً: "السائل المنوي يذهب من جسد الرجل إلى جسد المرأة، من خلال العضو الذكري الذي يقوم الرجل بإدخاله في مهبل المرأة".
هنا، في هذه القاعة المظلمة ذات الحيطان المغطاة بالشراشف السوداء، مع رفاقي في الصف، أمام هذه الشاشة الكبيرة وبرسومات بقلم زهري وقلم أسود، اكتشفت أن أمي قد خبّأت عني الحقيقة. اكتشفت أن هذا هو الـ "إيز ميز" وأن مارك على حق، فكل من لديه ولد قد مارس الـ "إيز ميز"، وبالطبيعة كان هذا حال أهلي، فهم عملوا "إيز ميز" على الأقل ثلاث مرات.
تعود بي هذه الصالة المظلمة إلى أول صالة ذات شاشة في مدرستي الكاثوليكية، عندما كنت في الرابعة من عمري، حيث عرضت علينا المعلمة رسمة كبيرة لصبي وفتاة عاريين، وشرحت لنا أن الصبي لديه "زيزي" كما نقول بالفرنسية، والبنت ليس لديها "زيزي".
ولكن الذكرى الأكبر في تربيتي الجنسية حصلت وأنا في الرابعة عشر. في صف علوم الحياة أيضاً. ظهر في وسط تلك السنة الدراسية كتاب جديد كان علينا أن ندرس منه مع مدام غلاديس.
كانت مدام غلاديس بغاية اللطافة والرقة، كان شعرها قصيراً أحمر وبنيتها رفيعة ضعيفة، ذات ظهرٍ محني رغم صغر سنها. درسنا في ذلك الكتاب بضعة أشهرٍ عن الحياة الجنسية. لا أذكر محتوى الكتاب، أذكر لونه البنفسجي ولمسة أوراقه اللمّاعة والمليئة بالصور، وأذكر جملة واحدة لمدام غلاديس، جملة لم يتبق لي غيرها من تلك السنة، جملة جميلة قالتها بغاية اللطافة والنعومة، وكأن ذاكرتي اختارت أن تبقي فقط هذه الجملة لتواكبني طيلة حياتي: "يا ولاد، العلاقة الجنسية شي كتير حلو، كتيييير حلو".
قالت مادام غلديس هذه الجملة باللغة الفرنسية ملوّحة يديها الهزيلتين.
لا أزال أذكر صوتها وحركتها ورقتها. وأشكر ذاكرتي التي أبقت هذه الجملة حيّةً فيّ، وأشكر مدام غلاديس على لطفها وحنيتها، وأشكر مدرستي التي رغم كل مشاكلها، استطاعت من خلال مدام غلاديس أن تردّ على ذاك الطفل، وتقول له ما لم تتمكن أمه من قوله.
وأحلم، أحلم لو كنت ابن مدام غلاديس، وسألتها في أحد الأيام وهي تتخلّص من طعجات الحرام على السرير: "ماما، كيف بيجوا الولاد؟"، أحلم بما كانت ستقول لي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون