الخفّة
طلبت مني صديقتي أن أكتب نصّاً ليس عن الحب، أريد أن أبرهن لها أن حياتي الممتلئة عن آخرها، ويومي الذي أتمنى أن يكون ثمانية وأربعون ساعة، ليس بهما الكثير من مساحات الحب.
أنا لست امرأة رومانسية، وقد حدث أن هذه الحقيقة تسببت في صدمة لشخص حاول أن يتقرَّب مني وهو لم يعرفني سوى من كتابتي، ففاجأته "أنا" أخرى، الحب جزء صغير من حياتها، بل وأنها أقوى منه. لم يقتلني الحب يوماً بل أنا التي قتلته عدة مرات، ومشاعري التي فوق جلدي لا تعني بالضرورة أنني ضعيفة وحزينة ومشتاقة وهائمة. أنا امرأة مشغولة ومرتبة وأمتلك تجربتي.
هذا النصّ عن العمل
في طريقي إلى العمل، أنشغل بجمال الصباح والصفاء الذي يطرحه في قلبي، أفكَّر في الأشياء العذبة في حياتي، أتورّط في الحزن أحياناً على ما فقدته، لكنني أعود لأركّز على شعور بالبهجة غير المبرّرة والتنفّس العميق والتفتح الذي يمارسه قلبي في الصباح تماماً كالزهور. أنتظر أغاني الراديو العشوائية لأنها تبدو لي أكثر جاذبية عندما تأتي دون اختياري، وعندما لا أجد أغنية تعجبني، أغنَّي، أشعر بالخجل فيما بعد عندما أكتشف أنني شاركت غنائي العبيط على فيسبوك، ربما كنت أريد أن أشارك أكثر لحظاتي سلاماً قبل أن تبدأ العواصف في الهبوب. لسنوات طويلة كنت أكتب نصّاً كل صباح، لكن ذلك مرتبط بالشيء المحظور، وأنا هنا أكتب نصاً عن العمل.
في اللحظة التي أدخل فيها مكتبي أتغيَّر إلى شخص آخر، أول ما يتغيّر فيّ هو صوتي، يربكني هذا التغيير بذات، أخاف ألا أتعرَّف على نفسي. فجأة أصبح من الكبار الذين دائماً أنظر لهم لفوق نظرة طفولية، بينما بداخلي أتعجب من أفعالهم.
يحاول عقلي جاهداً أن يلبس ثوب الجد والمنطق، أجد يدي تلقائياً تنظَّم المهام في دفتر وذهني ينصرف إلى حل المشاكل، ذاكرتي الضعيفة عادة -إلا في أشياء ليس علي أن أطرحها في هذا النص- تراود كل الألاعيب التي أستخدمها لتصير أقوى، أفضّل أن أكون وحدي وأصبح أكثر عزلة وصمتاً وغرابة. وأحياناً أخرى أتحدث كثيراً كثيراً، حديث السذاجة والندم، ربما لأملأ فراغاً ما في اليوم، أو لأصرف عقلي عن أمر آخر يلحّ أن يسيطر عليه، لكني لن أذكره على أي حال.
ثم ينتهي يوم العمل، أخرج من المكتب وفي اللحظة التالية أفصل القابس لأقطع الكهرباء ويعود لي صوتي، وتعود الأغاني.
لم يقتلني الحب يوماً بل أنا التي قتلته عدة مرات، ومشاعري التي فوق جلدي لا تعني بالضرورة أنني ضعيفة وحزينة ومشتاقة وهائمة. أنا امرأة مشغولة ومرتبة وأمتلك تجربتي... مجاز
هذا النص عن الطبخ
غريب أن نفضَّل الطعام البيتي عن أكل المطاعم ومع ذلك نتلهف على أكل المطاعم، ربما الفكرة في الخروجة نفسها، في الترويح عن النفس بمذاق جديد وصورة جديدة ورائحة جديدة، حتى لو أدى هذا إلى تلبّك معوي أو تأثر مادي، وربما لأن الأكل في الخارج هو وسيلة لنرى من لا نستطيع أن نراهم بطريقة أخرى، لكن هذا خارج موضوع النص.
في الحالتين هناك لذة ما في الطعام، شهوة يصعب وصفها، فلا يكتمل أي مشهد سعيد إلا إذا سبقه طعام، أو تلاه طعام، أو تخلله طعام.
في المطبخ أرفع شعري وأقف بأكثر ثيابي راحة وخفّة، في المطبخ لا أكون إلا وحدي، أنا ونَفَسي في الأكل وخيالي، في المطبخ أصنع الأشياء بطريقتي وأرشها بحناني وأخبزها بنزقي. قديماً كنت أتسحب إلى المطبخ عن فضول وليس عن هذا الشيء الذي لا ينبغي أن أذكره، لكنني أثناء رحلة التعرّف إلى ذاتي أدركت أن جزءاً خفياً مني يريد أن يبتهج بصنع الطعام، وليس فقط أكله في مطعم جميل أو عزومة شهية أو في الشارع مع الأصدقاء أو وحدي، كوسيلة للمكافأة أو لتجاوز الرثاء الذاتي.
في المطبخ، أمسك الأوراق الخضراء الزلقة وأدمج الحشوة في حضن يدي، ثم أبدأ في هندسة محشي ورق العنب، أتذكّر كيف أنه مرتبط بذكرتين جميلتين. يومها أدرجت صورة على فيسبوك لأول محشي ورق عنب أصنعه في حياتي، وأتتني أجمل إضافة على الإطلاق، إضافة مبنية على شهوة الطعام أولاً، وحتى لا أنزلق للموضوع المحظور، فإن الذكرى الأخرى مرتبطة به أيضاً، لكنها أكثر حقيقة ودفئاً.
هذا النص عن البيت
بيتي القديم كان نصفين، نصف نعيش فيه، ونصف هناك حيث الريسبشن المظلم. يضحك ابني عندما أشاكسه وأخبره أنني قرّرت إنجابه لأنني كنت أخاف من البقاء وحدي في البيت. أدعه يضحك وأضحك معه وأنا أعرف أن هذا السبب حقيقي. الريسبشن المظلم يرعبني، أدخل البيت فأجده عن يميني، أمرّ في الطرقة فأجده أمامي، أسمع صوتاً من بعيد فأخشى أن يكون منه، لا أحاول التركيز فيه حتى لا أرى أشباح الظلام، أجري حرفياً عائدة للنصف الآخر من البيت عندما أضطر لدخوله. لا أعرف كيف توقعت أن أعيش سعيدة في بيت نصفه مظلم، نصفه ميت؟
الجميع يريدون الحب، يفتقدونه، يتوقون إليه، ويحبون كلماتي التي تعذبني. لا أعرف منذ متى أصبحت أعاني من كتابة الحب في كل حرف، وها أنا أتخلص من معاناتي، أكتب نصاً ليس عن الحب... وأتمنى أن يكون كذلك... مجاز
وأحياناً كنت أتحدى خوفي، أضيء النجف وأنوار "السبوت" وأشغل الأغاني بصوت عال، أو أفتح شيش الشرفة وأتمدّد على أريكة لأقرأ. لكنني سرعان ما أرتبك من صمت ما داخلي، أو وحدة ربما، فأعود للمكان الذي يحمل الحياة وأطفئ الأنوار أو أغلق شيش الشرفة. وأحياناً أخرى كنت أدخل الريسبشن المظلم بجرأة اكتسبتها من الإحباط، أقف في الشرفة الكبيرة المهجورة أنظر لما ظهر من السماء، باحثة عن شيء يشبه النجاة أو الأمل. لكن العمائر الطويلة والشرفات المقابلة الفارغة إلا من بعض الأطفال والعجائز، تزيد من إحباطي وتجعلني أعود مجدداً لمكان يحمل الحياة.
في بيتي الجديد نعيش في كل شبر، في كل ركن حكاية ولكل فعل مكان، كل الأصوات فيه مألوفة والروائح محببة. في بيتي الجديد نملئ الحياة بالحياة. لا توجد بقعة مظلمة ونحن هنا. استبدلت بالإضاءات غير المباشرة، متعددة الدرجات، الإضاءات الصريحة الثابتة. لا شيء هنا يؤذي عيوننا أو أرواحنا، لا شيء يخيفنا لأن لدينا الكثير من ذاك الذي لن أستطيع ذكره في هذا النص، موجود في ذهني وخيالي قبل أن يكون بين يدي.
هذا النص عن الوطن
متخاذل وعذب وقبيح وفاتن. مؤذ في القرب ومغو في البعد. مرعب مثل القيادة في الظلام، وآمن مثل حضن الأب والأم. في أرجائه يجب أن أحذر، حتى وأنا أنعم بالسكينة والمحبة. يضحي بكل من أراد أن يموت لأجله وينصف كل من استغله. نلعنه ونسير إليه ونتورط فيه. لا يستحق إلا الهجر ولا ينال إلا الصبر.
*****
طلبت مني صديقتي أن أكتب نصاً ليس عن الحب ونجحت. في الحقيقة إنها إحدى شخصياتي الداخلية، لأن لا أحد في الواقع يستطيع أن يطلب مني نصاً ليس عن الحب، فالجميع يريدون الحب، يفتقدونه، يتوقون إليه، ويحبون كلماتي التي تعذبني.
لا أعرف منذ متى أصبحت أعاني من كتابة الحب في كل حرف، وها أنا أتخلص من معاناتي، أكتب نصاً ليس عن الحب... وأتمنى أن يكون كذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون