في كل مرّة أشتهي فنجان قهوة سورياً، أتجه للمطبخ، أخرج ركوة القهوة ثم أجد نفسي أضعها جانباً، أنظر إليها، أرسل لها ابتسامة صفراء وكأنني أعتذر ثم أضع فنجاناً صغيراً تحت ماكينة الإسبريسو.
تربطنا بالقهوة علاقة ليست بسيطة، ففي دمشق مثلاً القهوة كرغيف الخبز "ما بينرد".
تطلبه الجارات في الصباح أو بعد وجبة الغداء فتجد ولداً يطرق بابكم لأنه يريد "غلوة" قهوة.
في دمشق، القهوة كرغيف الخبز "ما بينرد". تطلبه الجارات في الصباح فتجد ولداً يطرق بابكم لأنه يريد "غلوة" قهوة.
شيء ما حوّلها من مجرّد مشروب إلى طقس كامل، إنها قهوة الصباح.
حين تصوّر عيني تجاعيد يد أمي وهي تضع روبها في دكة بنطالها الداخلي. يد تحمل الركوة من أذنها ويد تحرك، يد ترفع الركوة قبل فورانها بجزء من الثانية ويد تستمر بالتحريك، للأمهات قدرة عجيبة على صنع مذاق قهوة لا يتكرر، فهناك ملايين الفناجين وهناك فنجان أمك وكأن القهوة تحمل نكهة حكايا من يقدمها لك، كل فنجان يحمل نكهة سبب تقديمه ومناسبته.
في مطبخنا مرطبانا قهوة، واحد تغمز أمي عليه مع طلبها بأن نغلي منه للضيف، وواحد من دون غمزة. فنجان الغمزة فنجان رسمي ثقيل لضيف غريب والفنجان الآخر لمحب وصديق ومن أهل البيت كما يقولون.
فنجان الصباح يحمل مرّات طعم الأمل وغالباً الملل... هل تعرف طعم الملل؟
إنه الفنجان الذي تجده على طرف طاولة الصالة مغطى بصحن صغير مقلوب، ينتظرك وحده بلا شريك، تشربه دفعة واحدة ثم تحمل حقيبتك وتذهب.
فنجان المساء يشبه طعم الملاذ، حيث ينتظرك بغرفة دافئة بعد نهار كدت تكفر فيه بكل الأديان فتشربه على مهل بتلذذ وبطء.
هناك فنجان طعمه انتظار، هذا الذي يجلسك إلى طاولة مقهى غريب، تشربه لحين وصول رفيقك.
وبعض الفناجين طعمها كطعم الظلم أو الدم، كتلك التي شربوها حين قرؤوا فاتحة على نية قبول عريس أختي وهي في السادسة عشرة.
توجد فناجين مالحة مرّة كتلك التي نشربها في العزاء، مدورة باهتة وحزينة مخلوطة بالدمع والحسرة.
وتوجد فناجين طعمها كالكلمات، كعطر كاتبك المفضل حين تقرأ كتبه.
هنالك فناجين طعمها كالضحك، مثل تلك التي نشربها بعد حفلة ضمت العائلة، نشربها ونحن نفك الدبابيس من شعرنا، وهنالك فناجين طعمها خوف، كتلك التي يقدمها لك أبوك ليحقق بمصيبة فعتلها فاكتشفها.
ركوة القهوة في منزلك الأول أكثر من مجرد وعاء يحتمل الحرارة والغلي، بل صندوق أسود يحتفظ بكل الأسرار والشكاوى والأمنيات
أتذكر خطواتي نحو بيت الجيران لأنادي الجارات يتشاركن قهوة أمي، جلوسي على طرف الكنبة وأنا أسترق السمع لحكايا النسوة في الحارة، ركوة القهوة في منزلك الأول أكثر من مجرد وعاء يحتمل الحرارة والغلي، بل صندوق أسود يحتفظ بكل الأسرار والشكاوى والضحكات والأمنيات، شاركتنا ركوة القهوة أمنياتنا الصباحية وهمومنا المسائية. وهنالك الضيوف الذين نحبهم فنجدد لهم القهوة ألف مرّة، وأولئك الثقيلون الذين كرهناهم فوضعناها بلا روح على طاولة تقابلهم.
تتغير الفناجين في منازلنا لكن الركوة لا، تبقى هي ولو أكلها الصدأ، تغلى القهوة الأولى بها ثم نسكبها بأخرى.
كنّا نجتمع حول الصينية الألمنيوم الفضية المدورة نضع الركوة جانبها نغطيها بصحن صغير، نتربع ونبدأ بتوزيع الفناجين، هناك فناجين تتجدد مرات، وفناجين نشربها على عجل، وفناجين نشربها بتلذذ شفة شفة حتى تبرد أو ينتهي الحديث، فناجين نقلبها لنقرأ فيها ما نريد، وفناجين تبرد ولا يقربها أحد، فنجان يدور وفنجان لا يتحرك، هناك من يأخذ فنجانه بلا صحنه ويضحك كون الصحن يحمل دلالة "بيت الإحمى" في دمشق، وهناك من يحمل صحنه قبل فنجانه، وهناك من يشرب قهوته بكأس شاي فرنسية صغيرة وكل فنجان من هذا الفناجين يحمل معناه.
الفنجان الذي ينقصه قليل يقولون إن من سكبه يستعجل رحيلك، ومن ملأ الفنجان لآخره يحمل في قلبه حزنا ًمنك، ومن استقبلك بالقهوة لا يريدك أن تطيل جلوسك فصاروا يقولون " هاي قهوة أهلا وسهلا"، نجلس في زياراتنا ولا نجرؤ على الرحيل حتى نشرب فنجان مع السلامة.
الفنجان الذي ينقصه قليل يقولون إن من سكبه يستعجل رحيلك، ومن ملأ الفنجان لآخره يحمل في قلبه حزنا ًمنك.
"عازمك ع فنجان قهوة"
قد تبدو هذه الجملة عادية لكنها تحمل في طياتها حديثاً قد لا ينتهي بساعتين.
القهوة هي مفتاح كل الأحاديث المغلقة، حجة العشاق من طرف واحد، بداية الأحاديث التي لا نعرف كيف نفتتحها، وتكفير الذنوب الصغيرة: "خليني أعملك قهوة لتهدا".
وقد تكون أيضاً حجة الأفرع الأمنية في دمشق، فجملة: "عاوزينك ع فنجان قهوة". قد تكون مرعبة ومخيفة لدرجة أنك تذهب وبعدها لا ترى القهوة ولا النور حتى.
تربطني بالقهوة علاقة أكثر من حميمة، فلا أستطيع أن أرى فنجاناً دون أن أرجع لحارتي القديمة ومطبخي القديم وصوت الضحكات والنميمة والبكاء، كذب البصارات، مقاهي ساروجة وباب شرقي والنوفرة.
وفي حين يتجدد كرهي ونقمتي على دمشق أحب أن أراها حبة قهوة كبيرة مرّة وغامقة.
وأتمنى لو أستطيع أن أطحنها فنشربها كلّنا رشفة، رشفة... فتنتهي وتختفي.
جملة: "عاوزينك ع فنجان قهوة". لدى الأفرع الأمنية في دمشق،قد تكون مرعبة ومخيفة لدرجة أنك تذهب وبعدها لا ترى القهوة ولا النور حتى
منذ قدومي إلى ألمانيا كان أول ما أحضرته لمطبخي هو ركوة نحاس صغيرة تتسع لفنجان ونصف، اشتريتها من سوق الأحد المستعمل. نقعتها بالليمون وكربونات الصوديوم فعادت تلمع.
كيس بن الحموي مع إكسترا هال.
لم يكن فنجان القهوة يحمل أي طعم يذكر ومع إيقاع الحياة السريع صارت القهوة السورية التي نحب مكافأة نهاية الأسبوع، نكافئ بها أنفسنا، بعد أسبوع حافل من اللهاث والتعب.
نجلس على أرائكنا نمد أقدامنا على الطاولة، نتابع مقاطع من مسلسلات سورية قديمة ونصب الفنجان، نشربه فنفتح في رؤوسنا شوارع وممرات من الذكريات والأماني ونهرب لمكالمات الواتسآب الجماعية، نشربها معاً، كلٌ في منفاه.
لا يتطابق فنجان القهوة الذي اعتدناه مع شكل الحياة في ألمانيا وتشعر على الرغم من أن اليوم 24 ساعة لكنه أقصر من يومك في البلاد حيث لا تملك رفاهية غلي ركوة قهوة وشربها هنا.
فصارت القهوة قهوة ماكينة، تجهز بكبسة زر وفي أحسن الأحوال فنجان نسكافيه سريع التحضير بإبريق ماء كهربائي يغلي بدقيقتين.
إيقاع حياة سريع اعتدناه بنفس السرعة، وبدلاً من أن نجلس لنشرب قهوتنا مع صوت فيروز مثلاً، صرنا نتشاركه مع غرباء "الأوبان" – قطار المواصلات في ألمانيا- كل منا يحمل كأسه الحافظ للحرارة وهاتفه، يرتشف القهوة السريعة بسرعة ويتابع لهاثه اليومي.
ولأن القهوة لا تشرب على عجل، فهي أخت الوقت، تُحتسى على مهل، فإنها لا تشبه هذه البلاد، بعيدة عنها، لا تشبه إيقاعها ولا طقسها، هنا تحكمك السرعة، مواعيد القطارات والحافلات، وقت وصولك. تحكمها كل الأشياء التي لا تمنحك فرصة الاستمتاع بالهدوء أو الضجيج مع فنجان قهوة سوري مرسوم على حوافه روميو وجوليت أو ورود جورية زرقاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 22 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...