في كتابه "في المرآة" يحاول الشيخ عبدالعزيز البشري أن يقدم تقييماً نفسياً وذهنياً لإبراهيم بك الهلباوي، أحد أشهر المحامين في التاريخ المصري الحديث، إن لم يكن أشهرهم شعبياً على الإطلاق. يصفه بأنه ثورة دائمة في هيكل رجل، وخطيب عظيم وممثل أعظم. ثم يوجز سماته بأنه كان شديد العقل، حاضر البديهة، قوي الذاكرة، ملتهب الذكاء، لكنه على ذلك لا يدري: أتفي كل تلك السمات بحاجات لسانه أم لا؟ فعندما يترافع في قضية يخطب بكله؛ بلسانه وعقله ونخاعه وعصبه ورأسه ويديه، وبرجليه أيضاً.
ولتعزيز الصورة علينا أن نطالع ما يذكره الكاتب زكي مجاهد عن الرجل نفسه في الجزء الثالث من كتابه "الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية" بقوله: "من مميزاته أنه كان مزّاحاً، كثير الميل إلى الفكاهة، وكان إماماً في غريب الأخبار وفي غريب الملح التاريخية"، ويضيف: "امتازت حياته بميزة غريبة، وهي أنه كان إذا ما أراد أن يستثير عواطف القضاة يوحوح ويولول ويبكي، وقد يبكي بعد ما يضحك، ويضحك بعد ما يبكي".
لم يكن من المنطقي أن يحمل الهلباوي وحده إثم الجريمة الإنجليزية لولا براعته النادرة في أداء دور المدعي العام الذي أوكل إليه في المحاكمة، خاصة وأن مصريّيْن آخرين كانا جزءاً من هيئة المحكمة: أحدهما رئيسها ورئيس الوزراء آنذاك بطرس باشا غالي، والآخر فتحي زغلول القاضي شقيق الزعيم سعد زغلول
جريمة دنشواي
براعة المحامي الأشهر إبراهيم بك الهلباوي (1858 – 1940) وعبقريته القانونية، أدخلتاه دائرة معارف المصريين التي تتداولها أمثالهم الشعبية، فلا يزال "لسان الهلباوي" أقوى تعبير يصف براعة محام عبقري. لكن البراعة والعبقرية شيعتا الهلباوي إلى خانة الملعونين بوصفه "جلّاد دنشواي"، وحمّلته مسؤولية حكم جهنمي أصدره المحتل الإنجليزي ضد فلاحي قرية "دنشواي" بدلتا مصر، وهو الاتهام الذي سعى في نهايات حياته إلى دفعه عنه، ولكن من دون جدوى.
بحسب منطوق الحكم نُفذ الإعدام شنقاً في أربعة من الفلاحين، وحكم بالأشغال الشاقة والجلد على العشرات منهم، وذلك في الساعة الثامنة والنصف يوم الأربعاء 27 حزيران / يونيو من العام 1906. موضوع القضية اشتباك وقع قبلها بأسبوعين بين أهالي القرية وبضعة ضباط من جيش الاحتلال كانوا يصطادون الحمام ببنادقهم على بعد أمتار من بيوت القرية، أطلق احدهم رصاصة أصابت واحدة من فلاحات القرية وأشعلت حريقاً في جرن قريب منهم فطاردهم الأهالي، وخلال المطاردة توفي ضابط بضربة شمس سبقتها لرأسه ضربة نبوت من الأهالي الغاضبين. حادث وصفته جريدة "المؤيد" المصرية آنئذ بالقول: "الضباط أخطأوا في صيد الحمام دون إذن الأهالي والفلاحين المدافعين عن أنفسهم والمعتدين، وإن كان لهم بعض العذر من نتيجة الانفعالات الوقتية لحرق الجرن وإصابة المرأة وشيخ الخفراء، قد ارتكبوا جريمة التعدي بالضرب المميت على أفراد لم يقدروا تبعة عملهم".
لم يكن للحادث العارض أن يتحول إلى مأساة وطنية لولا الأحكام القاسية التي نُفِّذت بطريقة وحشية تحت سمع وبصر أهالي ضحاياها. ولم يكن من المنطقي أن يحمل الهلباوي وحده إثم الجريمة الإنجليزية لولا براعته النادرة في أداء دور المدعي العام الذي أوكل إليه في المحاكمة، خاصة وأن مصريّيْن آخرين كانا جزءاً من هيئة المحكمة: أحدهما رئيسها ورئيس الوزراء آنذاك بطرس باشا غالي، والآخر فتحي زغلول القاضي والمفكر وشقيق الزعيم الكبير سعد زغلول، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين من القضاة البريطانيين.
توقيعات وأختام باشاوات مصر على عريضة التماس للعفو عن فلاحي دنشواي والمطالبة بإيقاف أحكام الإعدام والجلد
من هؤلاء اكتسب الهلباوي لقب "جلاد دنشواي" في بيتين من الشعر أدانه بهما الشاعر حافظ إبراهيم وهما:
ليت شعري أنك محكمة التفتيش
عادت أم عهد نيرون عادا
أنت جلادنا فلا تنس أنا
قد لبسنا على يديك الحدادا
وعلى شهرة الحدث التاريخي المؤلم يجهل الكثيرون معالم الطريق الذي أدى بالمحامي الشهير ابن قرية "العطف" (المحمودية الآن) في مديرية البحيرة، إلى اعتلاء منصة الجلاد.
فلاحو دنشواي يٌقتادون إلى القاعة في آخر أيام المحاكمة
الفقر والعنف والتمرد
رجوعاً إلى مذكراته التي حققها دكتور عصام ضياء الدين، ونشرتها دار الكتب والوثائق المصرية، أتت ولادة المحامي المصري لأسرة رقيقة الحال ذات أصول مغربية عربية، عمل والده في الملاحة ثم اشتغل بالزراعة وتجارة القطن، وانتقل الهلباوي نفسه بفضل نبوغه القانوني من صفوف الطبقات الشعبية إلى أعلى المراتب، لتزيد من حدة انقلاب الاعتزاز الشعبي الشديد به إلى نقمة أشد.
كان الهلباوي يحضّر بعض الدروس في جامع الحسين، ولمح محمد عبده يصلي العصر، فقطع مطالعته وهرع لشيخ المالكية محمد عليش وبلغه أن محمد عبده المعروف بالزندقة والإلحاد موجود بالجامع، وهو يصلي الآن بغير وضوء، وطلب منه إحضاره لتأديبه
تلقى الهلباوي مثل سائر متعلمي عصره تربية تقليدية في كتّاب قريته. ولما بلغ، التحق بالأزهر سنة 1871م. لسبع سنوات سكن مع زملاء يبلغ عددهم أحياناً سبعة في غرفة واحدة للنوم والطعام والإقامة بصحبة كل المرافق المادية والحاجات الغذائية التي تُحمل لطلبة ريفيين من قراهم. على ذلك لم يكن طالباً عادياً، فمنذ دروسه الأولى اشتبك مع مشايخه الأزهريين.
يقول في مذكراته: "أخذت أدرس مذهب الإمام مالك على الشيخ رزق البرقاني. وكان يتكلم عن حياة الإمام مالك، وذكر من مناقبه أنه مكتوب على فخذه اليمنى (مالك حجة الله في أرضه)، فأثارت نفسي هذه الرواية ولم أؤمن بها، لأنني رأيت أن الله لو أراد إكرام مالك لجعل هذه الكتابة في موضع ظاهر من جسمه بعيداً عن النجاسة وأولى بالكرامة"، وتقع مشادة بين الطالب وشيخه لم ينقذه منها غير تضامن بعض زملائه.
بعد أربع سنوات مجاوراً بالأزهر، لم يكن الهلباوي يعرف عن الشيخ الثائر جمال الأفغاني أكثر مما يشاع عنه من أنه ملحد، ومن أن الطلاب يتأثرون في عقيدتهم بآرائه الفلسفية، على رأسهم أكبر تلامذته في مصر وأقربهم لقلبه، الشيخ محمد عبده الذي كان في نظر الكثيرين "حامل لواء الإلحاد". ويصعب ألا تؤدي روح عدائية كتلك إلى العنف. كان الهلباوي نفسه – قبل أن يتعرف بالأفغاني وتلامذته ويدرس على أيديهم - داعية للعنف ضدهم، فذات يوم وهو يحضّر بعض الدروس في جامع الحسين، لمح محمد عبده يصلي العصر، فقطع مطالعته وهرع لشيخ المالكية محمد عليش (عرف عليش فيما بعد بمناصرته للثورة العرابية ومات في سجنه مسموماً). يسترجع الهباوي ذلك الموقف في مذكراته: "بلغته أن محمد عبده المعروف بالزندقة والإلحاد موجود بالجامع، وهو يصلي الآن بغير وضوء، وطلبت منه أن يأذن لي في إحضاره لتأديبه، وكان بجوار الشيخ عليش جمع من العلماء، فاستثارتهم دعوتي وبعثوا معي نفراً من الطلاب، فلحقنا به قبل خروجه من الصلاة، وسقناه كرهاً إلى حضرة الشيخ عليش فوجه إليه تهمة الإلحاد. ولما استخف الشيخ محمد عبده بهذه التهمة سمح الشيخ عليش للمتهوسين من الطلبة الذين كانوا معي بأن يطرحوه أرضاً ثم ضربوه وأخرجوه من المسجد".
ثورة عقل
بعد نفي الأفغاني من مصر سنة 1879، هجر الهلباوي الأزهر بعد زواج والده من أخرى واضطراره إلى إعانة أمه وأشقائه. اشتغل بالتجارة لعشرة أشهر في مدينة كفر الدوار، ليجد نفسه مقبوضاً عليه ومقيداً بقيود الخشب وأغلال الحديد بعد أن كتب مقالاً نارياً في جريدة "التجارة" التي كان يصدرها المفكر والشاعر اللبناني "سليم نقاش" من الإسكندرية.
قال مفتش الداخلية للهلباوي "لازم أخرب بيتك" بعد كتابته مقالاً نارياً في جريدة "التجارة"، وكان رد الهلباوي: إن رئيس وزرائك نفسه لا يستطيع أن يخرب بيتي، بل الخديو لا يستطيعه، بل السلطان عبدالحميد عاجز عنه، بل الله سبحانه وتعالى لا يستطيع أن يخرب بيتي!
احتجاجاً على ظلم وكيل مديرية الغربية كتب الهلباوي: "غاظني أن تكون حرية الناس وكرامتهم هدفا لمثل هذا الظلم من موظف متملق يطلب الرقي والرفعة عن طريق إيذاء الناس والتحكم فيهم".
عبر رحلة شاقة بين سجون الأقاليم، تعرض لأكثر صنوف الإرهاق وهو يرتدي زيه الأزهري التقليدي: الجبة والقفطان وزعبوط أسود ومركوب أحمر، ليستجوب عن طريق مفتش الداخلية في مكتبه، وكان في صحبة المفتش الشيخ عبدالرحمن القطب قاضي محكمة طنطا الشرعية. بعد يأسه من معرفة المحرض على مقال بهذه الجرأة، لأن الوقائع نفسها – كما أجاب الهلباوي - هي المحرض بلا منفعة ولا غرض، فقط نصرة الحق، بدا الغضب على وجه المفتش وقال: "لازم أخرب بيتك". فأتاه بلسان الهلباوي رد صاعق:
"قلت: لا تعد هذا استخفافاً بقدرتك، فإن رئيس وزرائك نفسه لا يستطيع أن يخرب بيتي، بل الخديو لا يستطيعه، بل السلطان عبدالحميد عاجز عنه، بل الله سبحانه وتعالى لا يستطيع أن يخرب بيتي! وهنا ثار القاضي الشرعي وقال: هل كفرت يا هلباوي؟ أتنكر على الله قدرته؟!".
ثم عاد إلى السجن دون أن يتسع الوقت ليوضح أنه قصد أن بيته الذي لا يخرب هو ثرى الأرض وغطاء السماء.
عدد خاص من مجلة "المجلات" صدر في الذكرى الثانية لإعدام فلاحي دنشواي، وضع صورة الهلباوي "المدعي العمومي" في إطار تحيطة جثامين الفلاحين المعلقة على المشانق
خضع كذلك للتحقيق في نهاية الرحلة المعذبة بمكتب رئيس الوزراء فسأله بنفسه: "هل أنت مطمئن إلى صحة ما جاء في مقالك؟" أجاب: "إني مستعد لإثبات كل ما فيه لأنه يحمل دليل ثبوته بحيث لا حاجة إلى تحقيق". فقال رئيس الوزراء: "يظهر أن كل ما تلقنته من هذا الرجل – يقصد الأفغاني – هو الاستخفاف بأنظمة الحكومة وعدم المبالاة بهيبتها وهيبة موظفيها". ولسان الهلباوي أجاب: "إن منع الظلم حق عام وواجب في عنق كل إنسان".
ثورة ضد الثورة
في 9 تشرين الأول / أكتوبر من العام 1880، تلقى الهلباوي من الشيخ محمد عبده - الذي كان رئيس تحرير جريدة "الوقائع المصرية" آنذاك - تلغرافاً بقرار تعيينه محرراً بمرتب خمسة جنيهات شهرياً. كان النبأ مفرحاً للغاية بالنسبة له، ولم يعكره سوى أنه علم في عمله الجديد أن زميلين له - أحدهما سعد زغلول - يتقاضيان ثمانية جنيهات شهرياً. فتمرد المحرر المشاغب مما جعل محمد عبده يبحث عن أقرب فرصة للتخلص منه.
مع قيام الثورة العرابية في العام التالي رفض الهلباوي الانضمام بصفة كاتب إلى المجلس الخصوصي الذي شكله العرابيون في محل مجلس الوزراء، لأنه كان ينتقد تحركات العرابيين ويطعن سياسياً في تصرفات عرابي. مرة أخرى يلقى القبض عليه ويزج به معتقلاً في سجن القلعة متهما بالتمرد على حكومة الثورة. ويرد على ذلك بعد أن دُعي للتحقيق معه أمام المجلس العسكري: "في إنجلترا يوجد كتاب وصحفيون يطعنون على ساسة بلادهم، لأنهم تعرضوا لمصر وحاربوها بغير حق، وهؤلاء لا يتهمهم أحد بأنهم خانوا وطنهم وصاروا مصريين، وأنا في سلوكي بالطعن على تصرف العرابيين أعمل لخدمة وطني، لا لخدمة إنجلترا وأعتبر أن تصرف العرابيين معي لا ينطبق على قانون أو على مصلحة، إنما هو انتقام شخصي يراد به كم الأفواه وإحلال سلطان الرهبة والجبروت محل العدل والحرية، وأطلب منكم تسجيل هذا واعتبروني كما تعتبرونني".
شعر المحامي المصري بعد تنفيذ أحكام دنشواي الجهنمية إنه لم يكن مسؤولاً عنها، وإنه قام فقط بواجبه القانوني كمحام محترف عندما لعب دور المدعي العام
يصدر الحكم بالأشغال الشاقة لثماني سنوات ضد الهلباوي وآخرين. وترصد المذكرات شهوراً قاسية قضاها في زنزانة وصفها بأنها مظلمة محبوسة الهواء ومسممة بما يصل إليها من روائح المراحيض، كان مربوطاً خلالها بسلسلة مع سجين آخر هو رئيس الكتّاب في مجلس النواب. لكن أقسى تلك اللحظات كانت ترقب المساجين لأخبار المواقع الحربية بالتل الكبير وكفر الدوار والصالحية بين الجيشين المصري والإنجليزي. لحظات تحسر عليها الهلباوي: "لا أنكر أن شعوراً قام بيننا جميعاً ونحن المساجين السياسيين لاتزال ذكراه تخجلني إلى اليوم، وهو تمني انهزام جيش العرابيين ودخول جيش الإنجليز، لأن ذلك هو السبيل لنجاتنا من الحالة التعسة التي كنا فيها".
كان المحامي في ذلك الوقت لا يزال مخدوعاً في نوايا الإنجليز ويعتقد أنهم بعد القضاء على ثورة عرابي واستقرار الامن في البلاد سيجلون عنها، كما كان غلادستون رئيس وزراء إنجلترا واللورد ولسلي قائد جيشها يؤكدان ذلك في كل فرصة.
وبأشد من هذه الحسرة شعر المحامي المصري بعد تنفيذ أحكام دنشواي الجهنمية رغم أنه لم يكن مخدوعاً عندئذ في عدالة الإنجليز. لكنه حاول الدفاع عن نفسه في مذكراته، قائلاً إنه لم يكن المسؤول عنها وإنه قام فقط بواجبه القانوني كمحام محترف عندما لعب دور المدعي العام.
الهلباوي - الذي كان أيضاً من زعماء ثورة 1919 الكبار – هو من قال عنه الشيخ عبد العزيز البشري في كتابه "في المرآة": "إن أحداً لم يجرؤ على أن يحيل تردد الهلباوي، الذي قالوا [به]، على طلب منفعة شخصية من منصب أو جاه أو مال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...