بدأت رحلة الكاتبة البريطانية أرتيميس كوبر في مصر إبان الحرب العالمية الثانية، وكان للإسكندرية النصيب الأكبر من الرحلة، إذ عملت هناك أستاذة بالجامعة، ولبست رداء المراقب ورصدت ما عايشته مصر تحت قبضة الاحتلال البريطاني، لا سيما مدينة القاهرة التي كانت مسرحاً للصراع الدائر بين القوى المتنازعة على البلاد، واعتمدت على الكثير من الدراسات والكتب والمؤلفات التي وثقت من خلالها ظروف مصر، وضم سجل وثائقها مذكرات لورد كيلرن، التي عرضت مصائر ومجريات السياسة المصرية الخارجية والداخلية آنذاك، وأجرت العديد من اللقاءات والمراسلات الخاصة مع شخصيات عايشت ظروف الحرب عن كثب وأشخاص كُلِّفوا بمهام في قاهرة الحرب العالمية الثانية، وأمراء من الأسرة المالكة المصرية.
حين نقرأ كتابها "القاهرة في الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945"، نشعر وكأننا جالسون في حفلات قصر الأميرة شويكار، وفي سردها نتابع مغامرات أربعة ملوك كانوا يعيشون جميعاً في المحروسة، يصخبون وينعمون ويتآمرون أيضاً، وهُم ملك مصر، وملك اليونان، وملك ألبانيا، وملك يوغوسلافيا، وقد رصدت الكاتبة في رحلتها حكايات شقق الزمالك وبيوت بولاق الدكرور، التي كانت تعج بالفضائح والجواسيس والهموم الوطنية وأولاد البلد وحتى الاغتيالات. فماذا كتبت عن رحلتها؟
كيف عاش البريطانيون في مصر؟
تحكي كوبر عن البريطانيين الذين عاشوا في مصر خلال الحكم العثماني، وتصفهم بأنهم تمتعوا بصلاحيات عدة جعلتهم خارج طائلة القانون المصري. فهم لا يدفعون ضرائب ويحاسبون أمام قنصلية بلدهم وفق نظام الامتيازات، الذي بدأ العمل به تحت لافتة "المحاكم المختلطة" في عهد الخديو إسماعيل.
واعتبرت كوبر مشروع حفر قناة السويس الذي تم بنظام السُخرة، مشروعاً ظالماً لمصر اقتصادياً في فترة إنشائه، بسبب تكاليفه الباهظة التي كانت سبباً في بداية رحلة اقتراض الأموال وتراكم الديون، حتى أن الخديو إسماعيل لم ينتبه إلى الأزمة واستمر في الاقتراض لدرجة أنه أنفق ثروة على حفل استضافة الإمبراطورة أوجيني، وملوك أوروبا للاحتفال بافتتاح القناة.
حادثة دنشواي
عايشت كوبر حادثة دنشواي، وتكلمت عن الصيد الجائر للبريطانيين الذين اعتادوا اصطياد الطيور بطريقة عشوائية في القرية، وكان الحمام جزءاً بسيطاً من الاقتصاد المحلي للفلاحين. علماً أن المشكلة بدأت بعد أن أصيبت زوجة مؤذن جامع القرية بطلق ناري أطلقه بريطانيون، تسببوا كذلك في نشوب النيران في أجران القمح، وأكملوا جريمتهم بقتل عدد من ابناء القرية بشكل عشوائي خوفاً من أن يفتك بهم الفلاحون، بعدها أصدرت حكومة الإحتلال بأوامر من المعتمد البريطاني، اللورد كرومر، عقوبات وحشية ضد الأهالي شملت الشنق والجلد والسجن المشدد وغيرها.
حين نقرأ كتابها "القاهرة في الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945"، نشعر وكأننا جالسون في حفلات قصر الأميرة شويكار
ألهبت هذه الواقعة المشاعر الوطنية لدى المصريين، وأبرزهم مصطفى كامل، الذي سافر إلى لندن، وراح يكتب في صحفها ضد الإحتلال، لكن كوبر لاحظت ركوب الإسلاميين للحادثة لإخراج البريطانيين من مصر وتقسيم الكعكة في ما بينهم. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى، انحازوا إلى تركيا واستدرجوا الوطنيين إلى هذا الانحياز، لكن بريطانيا لم تطمئن لهذه المشاعر فأعلنت الحماية البريطانية على مصر.
أسرار من داخل القصر الملكي
يبدو أن كوبر غاصت في الحديث مع أحد أفراد الأسرة المالكة وهذا ما جعلها تتقصى أخبار الملك فؤاد وابنه الملك فاروق، وكأنها تعيش داخل القصر.
تنقل كوبر تفاصيل دقيقة عن ذلك الطفل المدلل الذي نشأ بين شقيقاته "فوزية وفايزة وفايقة وفتحية" وجميعهن بحرف الفاء، لأن قارئة الطالع قالت للملك وزوجته إن هذا الحرف سيكون مصدر بهجة على أسرته، كما أنه يتحدث التركية والإيطالية والفرنسية دون اللغة العربية التي هي لغة الشعب. ولأنه سيصبح ملكاً في الغد؛ لا بد أن يتعلمها، لكنه كان طالباً فاشلاً، وأصيب بمرض السمنة من صغره فأجبره والده الملك فؤاد على اتباع نظام غذائي قاس، لدرجة أنه كان يأكل طعام القطط عندما يضربه الجوع ولا يجد طعاماً.
كان فاروق طالباً فاشلاً، وأصيب بمرض السمنة من صغره، فأجبره والده الملك فؤاد على اتباع نظام غذائي قاس، لدرجة أنه كان يأكل طعام القطط عندما يضربه الجوع ولا يجد طعاماً
تفاصيل حساسة روتها كوبر عن حياة الملك فاروق، أخذتها من عمق أعماق القصر، تقول إنه كان دائم الشعور بالعجز، بسبب العزلة الاجتماعية التي نشأ فيها، فأخذ من الخدم الإيطاليين أصدقاء له، حتى أن أنطونيو بوللي، كهربائي القصر كان ظله، وكان يأخذه معه إلى كل مكان يذهب إليه. كانت أمه دائمة التدليل له، حتى أن الملك فؤاد كان قد قرر أن يحجبها عنه، وكان لها صديق خاص يدعى حسنين باشا، كان يجمع بينهما علاقة من نوع خاص، ويقال إنه كان يزورها في الجناح النسائي، ولما عرف الملك فاروق، في أحد الأيام أنه موجود في جناح نازلي، اقتحم المكان وهو يرفع مسدسه لكنه وجده يقرأ القرآن لوالدته، وبعد أن كشف حقيقة علاقتهما التي وصلت للزواج السري عام 1937 بوفاة حسنين، في حادثة سيارة عام 1946؛ أتلف فاروق العقد.
الإسكندرية وغرام اليونانيين
قضت كوبر أكثر من عام في مدينة الإسكندرية، وتحدثت عن الجاليات الأجنبية التي تربعت على قمة المجتمع السكندري لا سيما اليونانيين، هؤلاء الذين عاشوا في قمة الأبهة الاجتماعية في الوقت الذي كان يعمل فيه المصريون خدماً وعمالاً في الترسانة البحرية، وذكرت عائلات يونانية خلفت أجيالاً بعد أجيال في مدينة المرسي أبو العباس، مثل عائلة بيناكس، وزوفوداكس، وسلفاجوس. وخلال سنوات الحرب، تدفق الجنود الإنجليز إلى المدينة واستحوذ القادمون على الأماكن الأنيقة فيها.
تفاصيل حساسة روتها كوبر عن حياة الملك فاروق، أخذتها من أعماق القصر، تقول إنه كان دائم الشعور بالعجز، بسبب العزلة المفروضة عليه، فاتخذ من الخدم الإيطاليين أصدقاء له، حتى أن أنطونيو بوللي، كهربائي القصر كان يتبعه كظله
أما من لم يستطيعوا تحمل نفقة الأماكن الغالية فقد لجأوا إلى كورنيش الإسكندرية يحتسون البيرة، أو يستقلون القطار إلى أبو قير، ويأخذون من الأكشاك الخشبية المنتشرة بطول الشاطئ مصدر طعام لهم من صيد الأسماك الطازجة، حتى أن كلية فيكتوريا تم تحويلها إلى مستشفى لعلاج جرحى القوات البريطانية. وعلى الرغم من صوت صافرات الإنذار الذي كان يصدح من داخل مطار الدخلية، بفعل الغارات المستمرة على الميناء أثناء الحرب العالمية الثانية؛ فإن بهجة الحياة ازدهرت في الإسكندرية برغم الحرب.
القاهرة عاصمة ضيوف الملك
تميزت القاهرة في سنوات الحرب العالمية الثانية، كما تقص كوبر، بالتجانس الكبير لأن المدينة كانت تضم جاليات وطوائف متعددة الأعراق والأديان من اليهود والمسلمين والمسيحيين، من فرنسا وإيطاليا وقبرص ومالطا واليونان وغيرها. وبرع أغلب المهاجرين في التجارة. في تلك الفترة لم يكن المجتمع المصري يعرف التمييز أو التفرقة الدينية، إضافة إلى أن القاهرة كانت عاصمة زوار الملك فاروق. وانتشرت البائعات الأوروبيات في المحلات التجارية بالعاصمة، وتمتع المهاجرون بمستوى اجتماعي أفضل بكثير من المستوى الذي كان يعيشون فيه داخل بلادهم، وكانوا يتلقون تعليمهم في المدارس الفرنسية والإيطالية والأمريكية المنتشرة في تلك الفترة، إلا أن اللورد كرومر دفع بالتعليم المصري إلى سياسة الإهمال والتدمير، لأنه كان يرى ذلك خطراً على استقرار الاحتلال البريطاني لمصر.
"إن وصف مصر ببلد عربي، هو أمر يجعل الجد الأكبر محمد علي والخديو إسماعيل يتقلبان في قبريهما"
بحسب ما كتبت كوبر عن حياتها في القاهرة في فترة الحرب، فإن المدينة كانت مركزاً للسياسة الدولية، وكان مكتب المندوب السامي البريطاني مركزاً للإمداد والتموين في منطقة الشرق الأوسط، ومنها كان يتم تنسيق الإمدادات من حلب إلى الخرطوم، ومن دمشق إلى طرابلس، وكان للدول الأوروبية المحتلة مكتب عسكري في القاهرة وفرع خاص من الصليب الأحمر، وكانت بريطانيا قد وزعت قواتها بين معسكر الحلمية ومعسكر ألماظة ومعسكرات مصر الجديدة، بينما حلوان كانت معسكراً لقوات عسكرية قادمة من جنوب أفريقيا. وتمركزت قوات نيوزيلندا في المعادي، أما الهنود فكانوا في مينا هاوس، وكان عمل الضباط البريطانيين يبدأ في التاسعة صباحاً وينتهي في الواحدة ظهراً، وبعد ذلك يتجه الضباط إلى ملاهي الكيت كات، التي كانت تعج بالجواسيس والراقصات.
لمست كوبر نشاط كبرى العائلات المسيحية المصرية في تلك الفترة وكان أفرادها من أصحاب النفوذ السياسي وملاك الأراضي، ومثّلوا صفوة المجتمع، ومنهم أفراد عائلة وهبة وعائلة خياط وغالي. كذلك سيطرت العائلات اليهودية على المجال الاقتصادي والاجتماعي ومن أبرزها عائلات هراري، وسوارس، وموصيري.
موضة الصالونات الثقافية
وعايشت كوبر مولد الصالونات الأدبية الأرستقراطية، التي بدأت من القصور الكبيرة. وفي البداية اقتصر الحضور على الرجال وحدهم، وكانوا يتجمعون في السلاملك، ومن أبرز هذه الصالونات، صالون البرنسيسة، الذي لم يضم إلا امرأة واحدة، وهي نازلي فاضل، ابنة مصطفى فاضل، حفيد محمد علي مؤسس مصر الحديثة. وكان بالطبع صالوناً نخبوياً يعقد في سراي درب الجماميز الخاصة بوالد الأميرة نازلي. وكان هذا الصالون موطن ظهور الأحزاب السياسية المصرية، لكن كوبر كان تفضل الذهاب إلى صالون "ماري رياض" بالزمالك، حيث تلتقي بالفنانين والأدباء والمشاهير. هناك كانت تلتقي بتشارلز جونستون، أحد مستشاري السفارة البريطانية.
من حكايات أرتيميس كوبر... طفولة ملك وجواسيس في الكيت كات وميلاد النسوية المصرية
ومن أبرز الصالونات الثقافية التي انطلقت في تلك الفترة، صالون "قوت القلوب الدمرداشية" وهي أديبة مناضلة وواحدة من المدافعات عن حقوق المرأة، وصالون "مي زيادة" وهي أديبة حريصة على دعم الصالونات الثقافية النسائية، وفي صالونها كان يتجمع أكبر الأسماء الأدبية في تاريخ مصر، من بينهم طه حسين، والعقاد، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي. وهناك صالون الزعيمة هدى هانم شعراوي، الذي كان يضم عضوات الاتحاد النسائي الدولي.
وبالرغم من أنه صالون نسائي كان مقصداً لكبار الشخصيات العامة مثل الدكتور مصطفى عبد الرزاق، وزير الأوقاف، وشيخ الأزهر، وجبرائيل تقلا، رئيس تحرير صحيفة الأهرام، وسيدات مرموقات مثل ملك حفني ناصف، وأسماء فهمي، ولبيبة هاشم، ومي زيادة، وسيزا نبراوي، وغيرهن.
تعتبر كوبر مصر بلداً ليس عربياً، والمصريون من أنصار القومية المصرية يعتبرون أن مصر ليست دولة عربية، إنما يجمع بينها وبين العرب اللغة والدين والثقافة التي هي امتداد للتعاليم الإسلامية. تقول في تدوينة عن مصر: "إن وصف مصر ببلد عربي هو أمر يجعل الجد الأكبر محمد علي، والخديو إسماعيل يتقلبان في قبريهما، فقد أخرجت جهودهما مصر من العرب وأفريقيا ومن الماضي، ودفعا بها إلى أوروبا والحضارة الحديثة التي يشهد بها الذين عاشوا سنوات الحرب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com