أي ضيقة وشدة وأي مصير مشؤوم ذاك الذي يدفع الألوف من الناس إلى رمي أنفسها في البحار من أجل الوصول إلى شاطئ أوروبي، في كثير من الأحوال ستصله ساكنة لا دم يجري في عروقها.
كل صور الموت التي وثقتها الكاميرات، وجميع قصص الناجين الذين كتب لهم أن يكونوا الصندوق الأسود ويسجلوا لحظات صعود أنفاس المئات، لم تفلح في صدّ أو تخفيف سرعة هذه الموجات البشرية المتجهة نحو اليابسة الأوروبية.
إلى اليوم، لا تزال هذه البلاد المنكوبة تلقي بفتات ملماتها البشري إلى البحر، ليمضوا نحو بلاد الحلم.
هل اكتفى القدر بلعنة الجنسية والعرق التي كتبها لهم فيوصلهم إلى أحلامهم، أم سيطلق لعنته القاضية معلناً عدم صلاحيتهم للعيش في المكان الجديد أيضاً؟
تموز/يوليو 2021، سواحل تركيا. يركب عباس. م (28 عاماً) البحر نحو اليونان، يمضي وهو ينظر إلى الضفة الأخرى حيث نعيم الأرض "باعتقاده".
يسأل نفسه كلما قطع ميلاً: "هل سأرغد بالحياة الجديدة..!؟ إذا وصلت، سأشكر القدر والآلهة كل يوم على هذه النعمة".
يوقّع عباس الذي وصل إلى هولندا بعد رحلة طويلة، على طلب العودة الطوعية إلى لبنان، بعد تلاشي أحلامه عن حياة وردية وسهلة في أوروبا، ومعاناته من أفكار انتحارية واضطراب ما بعد الصدمة.
أيلول/سبتمبر 2022، يقيم عباس في هولندا، يعاني من أفكار انتحارية واضطراب ما بعد الصدمة، ويوقّع على طلب العودة الطوعية إلى لبنان، بعد تلاشي كل تلك الأحلام الوردية التي اكتنزها في خياله عن أوروبا وبلاد الحلم.
نوستالجيا العودة
"كنت عاملاً صحياً في بيروت أقدم العناية للمرضى والعجزة، وقررت السفر إلى أوروبا لتحسين ظروفي والبحث عن مستقبل أفضل"، يقول عباس لرصيف22 عن حلمه ودافعه للسفر، ويضيف: "لم أقطع البحار كي أعيش حياة لاجئ في المخيم، وأعاني من تردي الخدمات وسوء المعاملة، وأنتظر قرابة العام دون أي إنجاز".
وأضاف عباس وهو خريج التمريض من معهد الصليب الأحمر في بيروت: "بتّ أكره الليل والنوم، فقد صار بالنسبة إلي عنواناً للمعاناة والقلق. أصبحت أقسّم فترة الليل إلى (ورديات) واحدة لاسترجاع ذكريات الأيام الجميلة في لبنان، وأخرى لنعي الواقع الذي أعيشه هنا، وثالثة للتفكير بالمستقبل وبصوابية العودة".
كان يعلم عباس قبل سفره بأن فترة الانتظار في المخيم قد تطول، لكنه لم يعلم أنها ستصل إلى عام ونصف، والأهم من ذلك عدم درايته بأنه لن يكون مسموحاً له أن يعمل في تلك الفترة، فتحول من شخص يعمل في اليوم أكثر من 12 ساعة لشخص عاطل عن العمل لا يقدم أية فائدة لنفسه أو للآخرين، وقاده هذا الواقع للإصابة بالصدمة النفسية واضطرابات ما بعد الصدمة.
أرق شديد وكوابيس مرتبطة بذكريات لبنان ومشاهد الرحلة المضنية عبر اليونان ، إضافة لأعراض نفسية أخرى يعاني منها عباس، تشخصها الأخصائية النفسية يارا سالم على أنها صدمة نفسية.
حالة نفسية سيئة وأرق شديد إضافة للكوابيس المرتبطة بذكريات لبنان ومشاهد الرحلة المضنية في اليونان وبيلاروسيا، إضافة لأعراض نفسية أخرى يعاني منها عباس، تشخصها الأخصائية النفسية يارا سالم على أنها صدمة ثقافية ونفسية، تلتها أعراض لاضطراب ما بعد الصدمة.
وأضافت سالم التي تترأس مركز اللاجئين في مقاطعة "تيرول" النمساوية: "معظم اللاجئين العرب عاشوا سنوات طويلة في مناطق الحروب والنزاعات، لذلك هم معرضون للإصابة كثيراً باضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة تعرضهم لحوادث مرتبطة بالموت والهروب والنجاة، وكذلك معظمهم عرضة للإصابة بالصدمة الثقافية، نتيجة الانتقال إلى بيئة جديدة مختلفة كثيراً عما عاصروه سابقاً".
شعور بالفشل وعدم الانتماء
الاندماج والتعايش مع المجتمع الجديد بكل تفاصيله هما المعيار الذي يحدد نجاح اللاجئ أو فشله بحسب سالم، التي أضافت: "واقعة الفشل تأتي مضاعفة في المجتمع الجديد، لأنها تأتي على شكل خيبة مهولة للشخص الذي ظن أن الحياة الجديدة في أوروبا ستحمل المزيد من النجاحات".
يضيف عباس الذي وقّع على طلب العودة الطوعية في هولندا عاقداً العزم على الرجوع إلى لبنان: "لم أر في أوروبا ما طمحت إليه، ظننت أنهم سيحترمون خبراتي واندفاعي نحو العمل، أما حياة الشقاء هذه، فلو كنت أعلم أنها ما ينتظرني لما أتيت".
تفاجأ عباس بقرار الشرطة الهولندية التي وافقت على عودته إلى سورية وليس إلى لبنان، كونه يحمل الجنسية السورية، فتمهل خوفاً من سوقه إلى الخدمة العسكرية في بلده الأم سورية.
تفاجأ عباس بقرار الشرطة التي وافقت على عودته إلى سورية وليس إلى لبنان، كونه يحمل الجنسية السورية، فتمهل خوفاً من سوقه إلى الخدمة العسكرية في سورية.
ويختم الشاب حديثه: "اعترض المحامي الذي وكلته على القرار، وطلب منهم أن يعيدوني إلى لبنان بدلاً عن سورية، لكنهم رفضوا، وأنتظر الآن إجراءات التأكد من تأجيلي للخدمة العسكرية في سورية، كي أعود إليها ثم أسافر إلى لبنان وأعاود حياتي هناك".
الخيبة
لم تعد الأيادي الغربية مفتوحة أمام اللاجئين من الشرق الأوسط، وتغيرت مواقف معظم الدول الأوروبية خاصة بعد انتقالها لمساعدة اللاجئين القادمين من أوكرانيا واحتضانهم، وبالتالي ما اعتقده بعض اللاجئين من الشرق الأوسط في مخيّلتهم على مر السنوات الماضية عن حسن الاستقبال وانهمار الفرص والتسهيلات تغيّر بعض الشيء، إضافة لأن الضغط الحاصل على الدول القليلة التي ما زالت تستقبل اللاجئين صعّب الإجراءات وأطال زمن المعاملات.
تتجاوز ردة فعل بعض اللاجئين على الواقع الجديد مسألة الصدمة أحياناً، بحسب القصص التي عاصرتها سالم، وتصل إلى التمرد على هذا الواقع المستجد عبر النأي بالنفس عنه كما فعل عباس، أو عبر ردة الفعل العدوانية، وتضرب سالم مثالاً على ذلك بما فعله بعض اللاجئين بمقاطعة "أوفرايسيل" شمال هولندا، عندما أضرموا النار بالقرب من فندق مخصص لاستقبال طالبي اللجوء في منطقة "ألبيرخن"، اعتراضاً على سوء الخدمة وتأخر الإجراءات.
وتضيف سالم: "سجلت مراكز اللجوء في أوروبا حوادث مشابهة، وتبين لاحقاً أن المسؤول عنها هم اللاجئون الذي يصدمهم واقع اللجوء في أوروبا وصعوبة تسيير المعاملات".
ليس سهلاً على شخص نالت الحرب من سنوات شبابه، أن يبدأ الخطوة الأولى من حياته في مكان جديد ، وهذا ما حدث مع بعض اللاجئين الذين يمنعهم الإحباط والصدمة من القدرة على ممارسة مهامهم اليومية.
ليس من السهل على شخص نالت الحرب من سنوات شبابه، أن يبدأ الخطوة الأولى ليرسم من خلالها ملامح حياته الجديدة، وهذا ما حدث مع بعض اللاجئين الذين يحولهم الإحباط الشديد والصدمة من القدرة على ممارسة المهام اليومية، إلى أشخاص منعزلين انطوائيين، وهذه كلها بحسب سالم أعراض الصدمة التي تصل في مراحل متقدمة إلى عتبة الانتحار وارتكاب سلوكيات عدوانية بحق النفس والغير.
أما علاج هذا الاضطراب فتقول عنه الأخصائية النفسية: " زوال الأعراض أمر تلقائي ورهن بالوقت، ويتطلب الصبر لينتقل الإنسان من مرحلة الصدمة إلى مراحل التكيّف ثم الإتقان، أما أولئك الذين لا يمكلون المرونة الكافية للتعايش مع الواقع الجديد وغير مستعدين لبذل أي جهد نحو الاندماج، فهم بحاجة إلى تدخل أخصائي يقوم بدعمهم بعلاج سلوكي معرفي يقوم على تعزيز انغماسهم بالمجتمع الجديد والقيام بنشاطات تعزز الثقة بالنفس.
صدمة واعتلال نفسي
اغتنم الكثيرون المرحلة المكثفة من الهجرة غير الشرعية، وبقي من يقبع اليوم في الأوطان المكلومة يتلقى أوزار الحروب والأزمات ومعها غصّات خيبة البقاء وانتظار الفرج الذي على ما يبدو أصبح عسيراً، وعلى الناحية الأخرى هناك بعض ممن حفروا التراب تحت مئة سياج حدودي ليعبروا طرقات الموت، وعندما وصلوا إلى شاطئ الأمان، تحول الواقع إلى صدمة واعتلال نفسي يصعب علاجهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 9 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت