شهدت منطقة الشرق الأوسط مؤخراً، تغيّرات سياسية على مستوى خريطة التحالفات والعلاقات، إذ تقاربت دول وتحالفت أخرى، في محاولة لكسب المزيد، أو لمنع الانزلاق، إثر تبدلات ملموسة سواء على المستوى العربي أو الإقليمي، وأبرزها مؤخراً التقارب السعودي الإيراني، بعد فترة طويلة من العداوة والمواجهة من بعد، ويبدو أن طهران تسعى إلى المزيد من التحالفات أو على الأقل إلى إنهاء نزاعاتها، وسط عملية تشكيل جديدة للشرق الأوسط.
يدور الحديث الآن عن محطة تقارب إيرانية جديدة، إذ تسعى طهران إلى كسب ودّ القاهرة، ويقع الدور على مصر في فكفكة بعض الخلافات التاريخية التي اقتربت من مرور خمسين عاماً عليها، إبان أواخر حكم الرئيس المصري الأسبق، محمد أنور السادات، إذ شهدت العلاقات مع مصر جفاءً منذ تلك الحقبة، حتى وإن تخللتها محاولات تقارب لم يكتمل نجاحها. لكن التساؤل المثير هو في حال حدوث ذلك، ماذا سيحدث في الشرق الأوسط؟ وكيف سيكون الموقف الإسرائيلي، خاصةً في ظل العداء مع إيران، والذي كانت حجر أساس بَنَت عليه إسرائيل خططها لمزيد من التقارب مع الدول العربية، ووصف طهران بالعدو الذي لا يجب التقارب معه أبداً؟
يقع الدور على مصر في فكفكة بعض الخلافات التاريخية التي اقتربت من مرور خمسين عاماً عليها
الجفاء ومحاولات التقارب
في عهد السادات، كانت العلاقات مع إيران قويةً للغاية، حتى قيام "الثورة الإسلامية"، ووصل عدد الزيارات الرسمية بين البلدين في تلك الحقبة إلى نحو 90 زيارةً، وارتبط الشاه الإيراني، محمد رضا بهلوي، بعلاقات قوية مع الرئيس المصري، حتى كانت مصر الملجأ السياسي للشاه بعد الثورة، ومع توقيع القاهرة على اتفاق كامب ديفيد، وفي المقابل الانقلاب الإيراني ضد إسرائيل وعدّها العدو والكيان غير الشرعي الذي تجب محاربته، كانت مصر على موعد مع تغيير سياستها تجاه إسرائيل بالنضال السلمي وتوقيع اتفاق السلام، وتالياً عدّت إيران أن أي دولة توقّع اتفاقاً مع إسرائيل هي بمثابة دولة خائنة، وفي عهد حسني مبارك، تصدرت مصر المشهد كونها المدافع عن ضرورة تبنّي موقف التفاوض والسلام لحل الصراع مع الجانب الإسرائيلي، وهو ما رفضته إيران.
توترت العلاقات المصرية الإيرانية تباعاً، وهو ما تجلّى في ما بعد، في عام 2008، حيث أنتجت إيران فيلماً بعنوان "إعدام فرعون"، تحدّث عن اغتيال السادات وصوّره على أنه خائن بسبب توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل، ما دفع السلطات المصرية حينها إلى استدعاء مسؤول مكتب رعاية المصالح الايرانية في القاهرة كريم عزيزي، فضلاً عن قضايا خلافية أخرى بين البلدين، سواء مطالبة مصر مراراً بضرورة إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار بما فيها الملف النووي الإيراني، أو الخلاف حول بعض القضايا في العراق.
وبرغم توتر العلاقات بين مصر وإيران، ظل الباب موارباً، على أمل عودة العلاقات، ومؤخراً وبعد توقيع مذكرة التفاهم بين السعودية وإيران، ازداد الأمل في تكرار التجربة بين طهران والقاهرة، وهو ما يؤكده الباحث في الشؤون الإيرانية، موسى عبد الرحيم، في حديث سابق إلى رصيف22، فبرأيه "العلاقات ستشهد تطوراً في الفترة المقبلة"، مؤكداً حدوث "الكثير من الاجتماعات واللقاءات التي جرت على مستوى خبراء مصريين وإيرانيين خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يعكس رغبة الجانبين في استعادة العلاقات"، وتوقّع أن العلاقات لن ترقى إلى أن تكون قويةً، لكن المصلحة بين الطرفين ستكون الحاكمة فيها، خاصةً المصلحة الاقتصادية، في ظل الانفتاح المصري لجذب مزيد من الاستثمارات، وبالطبع فإن هناك مزايا اقتصاديةً إيرانيةً قد تكون محل جذب للجانب المصري، وعلى أمل زيادة حجم التبادل التجاري والاقتصادي والسياحي.
وفي بداية أيار/ مايو الحالي، أعلن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، أن بلاده تأمل في أن ترى انفتاحاً جدياً في العلاقات الإيرانية المصرية، وقال في هذا الصدد: "إن العلاقات الإيرانية المصرية تنشط حالياً على مستوى مكاتب حماية المصالح، ورئيسي المكتبين متواجدان في إيران ومصر وليست لدينا قيود أو معوقات في هذا الصدد. طهران أعلنت أنه ليست لديها أي قيود على تطوير العلاقات مع دول المنطقة ويمكننا تسهيل إرادة القاهرة في هذا الاتجاه".
وفي السياق نفسه، أعلن برلماني إيراني وجود ترتيبات لعقد لقاء بين زعيمي الدولتين، فور الانتهاء من إعادة فتح السفارات في القاهرة وطهران.
وكانت مصر قد رحّبت بالتقارب الإيراني السعودي، في بيان رسمي صادر عن الخارجية المصرية، والتي أعربت عن تطلعها إلى أن يسهم الاتفاق في تخفيف حدة التوتر في المنطقة، وأن يعزز من دعائم الاستقرار والحفاظ على مقدرات الأمن القومي العربي، وتطلعات شعوب المنطقة في الرخاء والتنمية والاستقرار.
هل صحيح أن القيادة السياسية في مصر تضع في عين الاعتبار الموقف الإسرائيلي المعارض للتقارب مع إيران؟ وماذا عن زيارة مسؤولين إسرائيليين سرّاً إلى مصر لمنع تلك الخطوة؟
وفي ما يتعلق بالموقف المصري الرسمي من التقارب مع إيران، لم يصدر أي بيان رسمي حول مقترح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يهدف إلى "إطلاق حوار بين القاهرة وطهران".
إسرائيل تترقب
التقارب السعودي الإيراني، كان قد أثار الاهتمام الإسرائيلي بشكل كبير، وبالتوازي وإثر الحديث عن التقارب المصري الإيراني، بدأ الزخم الإعلامي والرسمي باحتلال مساحة كبيرة من النقاشات، فحذّر زعيم المعارضة الإسرائيلية، ورئيس حزب "يش عاتيد"، ورئيس الوزراء السابق، يائير لابيد، من هذا التقارب، وقال إنه يتعارض مع المصالح الإسرائيلية والإقليمية، بحسب ما أوضح على حسابه الرسمي على موقع تويتر، وسبقت تحذيرات لابيد العديد من المقالات التحليلية في وسائل إعلام إسرائيلية حول احتمال حدوث هذا التقارب.
تعتقد الكاتبة الإسرائيلية الشهيرة، سمدار بيري، أن التقرب الإيراني من الجانب المصري، ما هو إلى محاولة للتزلف، وكتبت مقالاً تحليلياً بعنوان "إيران تتزلف لكن مصر صامتة"، عبّرت فيه عن اندهاشها من التحول المفاجئ في الموقف الإيراني تجاه مصر وقادتها، خاصةً تودد وزير الخارجية الإيراني الذي وصف مصر بالشقيقة والصديقة، وإعلانه أن التقارب مع مصر فيه مصلحة لإيران، نظراً إلى مكانتها في العالم العربي وأهميتها وقوتها، ونبهت الكاتبة إلى التوقيت الذي خرج فيه تصريح الخارجية الإيرانية، خاصةً أنه جاء بعد إعلان وقف إطلاق النار من قبل الجهاد الإسلامي، والذي تراه الكاتبة تابعاً لإيران، وأيضاً المغازلة الإيرانية جاءت بعد التفاهم السعودي الإيراني، منوهةً بالصداقة المصرية السعودية، إذ تنتهج القاهرة والرياض سياسةً شبه تحالفية.
واستعرضت الكاتبة بعض ملامح طهران والقاهرة في محاولة إذابة الخلافات، وذكرت منها أن إيران وافقت مؤخراً على طلب مصر إزالة لافتة "خالد الإسلامبولي" (أحد منفّذي عملية اغتيال السادات)، الذي تم إطلاق اسمه على أحد أهم الشوارع في طهران، ثم تحدثت سمدار بيري عن صمت القاهرة وعدم تسرعها في تطبيع العلاقات مع إيران، وزعمت بأن القيادة السياسية في مصر تضع في عين الاعتبار الموقف الإسرائيلي المعارض لهذا التقارب، وأنه لا يجب أن يمر مرور الكرام، مشيرةً إلى أن هناك مسؤولين إسرائيليين يواصلون السعي سرّاً إلى منع تلك الخطوة.
يتحدث الإيرانيون عن وجود خطط لإعادة العلاقات بين طهران والقاهرة، وعن أن هناك مفاوضات تجري بوساطة عراقية
وتناولت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية مسألة عودة العلاقات، واستشهدت بتصريحات عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، فدا حسين مالكي، عن وجود خطط لإعادة العلاقات بين طهران والقاهرة، وعن أن هناك مفاوضات تجري بوساطة عراقية من أجل إعادة فتح السفارات، وعن أهمية عودة العلاقات كون مصر لها دور تاريخي وثقافي في المنطقة والعالم.
وتحدثت الصحيفة عن احتمال وجود لقاء مرتقب بين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ونظيره الإيراني، إبراهيم رئيسي، بعد فتح السفارتين في البلدين، ودعمت الصحيفة الإسرائيلية وجهة النظر هذه بأن كانون الأول/ ديسمبر الماضي، شهد إجراء محادثات إيجابية بين وزير الخارجية الإيراني والرئيس المصري في قمة حول العراق سادتها الإيجابية، وأكدت "معاريف" أن شهرَي آذار/ مارس ونيسان/ أبريل الماضيين، شهدا جولتين من المحادثات منخفضة المستوى بين القاهرة وطهران من أجل تقريب وجهات النظر. وبحسب صحيفة "جيروساليم بوست"، فإن المحادثات دارت حول أماكن النفوذ الإيراني مثل اليمن وسوريا ولبنان لحل بعض القضايا الخلافية بين طهران والقاهرة، مثل دعم الجماعات المسلحة.
مكاسب محفوفة بالقلق
يرى موقع "هامحداش"، أن القاهرة تتعرض لضغوط اقتصادية قد تدفعها للتفكير في التقارب من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية واستثمارية، لكن الموقع يرى أيضاً أن "القيادة المصرية قد لا تتراجع عن تطبيع العلاقات بسبب موقفها من القيادة الإيرانية الشيعية في طهران، وهو ما قد يسبب مشكلات للجانب المصري"، ويخلص في تقريره المنشور بعنوان "إيران تضغط من أجل استئناف العلاقات مع مصر"، إلى أن مصر من المحتمل ألا تنجذب إلى هذا التطبيع في ظل ممارسة واشنطن وتل أبيب ضغوطاً على القاهرة، خاصةً أن ممثلي إسرائيل وصلوا سرّاً إلى مصر لتوضيح الموقف الإسرائيلي في رفضهم لمسألة تجديد العلاقات بين الجانبين المصري والإيراني.
من جهته، يشير موقع "نتسيف"، إلى أن من ضمن المكاسب المصرية جذب مزيد من السياح الإيرانيين إلى جنوب سيناء، ودلّل على ذلك بالقرار المصري بمنح السياح الإيرانيين تأشيرة دخول بكل سهولة حال وصولهم في مجموعات تابعة لشركات سياحة، واعتبر موقع "ماكور ريشون" أن هذه الخطوة تأتي في ظل محاولات التقارب المصري الإيراني.
ويبدو أن عصر الاضطرابات والمواجهات المسلحة آخذ في التلاشي، إذ نشر "معهد دراسات الأمن القومي" الإسرائيلي دراسةً بعنوان "نهاية عصر الاضطرابات: الانفراج الإقليمي وانعكاساته"، في الرابع من أيار/ مايو الجاري، تحدثت عن اختلاف السياسة المتّبعة حالياً في دول الشرق الأوسط، حيث تختار الدول الحوار كوسيلة لتعزيز الأهداف الوطنية، وكذلك تخفيف التوترات واستخدام الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية وتفضيلها على الصراع والمواجهات المسلحة.
وتقول الدراسة: "يجب التأكيد على أن عملية 'التسامح' الإقليمية ليست عملية مصالحة عميقة على أساس أيديولوجي أو ديني، على سبيل المثال بين السنّة والشيعة، بل هي نوع من الانفراج الناجم عن المصالح الباردة وحسابات التكلفة والعائد، وقبل كل شيء، الحاجة الماسة للدول المشاركة فيها إلى تحسين وضعها الإستراتيجي".
فرصة تاريخية وسط متغيرات إقليمية
وخصص موقع "زمان" دراسةً نشرها في نيسان/ أبريل الماضي، عن المتغيرات الحالية في المنطقة وانعكاساتها على إسرائيل، بعنوان "العالم العربي يمنح إيران فرصةً ثانيةً ويفرض تحديات جديدةً على إسرائيل"، وتشير إلى أنه "من المشكوك فيه ما إذا كانت القيادة الإسرائيلية الحالية لديها الاهتمام اللازم لخلق سياسة إقليمية جديدة ومتكاملة للتعامل مع المتغيرات الإقليمية. فجأةً يبدو أن كل ما حققته إسرائيل في العالم العربي في السنوات الأخيرة أصبح موضع تساؤل، إذ بدأت الدول العربية، بما في ذلك دول 'اتفاقيات إبراهيم' بقيادة الإمارات العربية المتحدة، عمليةً متسارعةً للتقارب مع إيران".
هناك في إسرائيل من يتحدث عن أن كل ما حققوه في العالم العربي في السنوات الأخيرة أصبح موضع تساؤل، إذ بدأت الدول العربية، بما في ذلك دول 'اتفاقيات إبراهيم'، عمليةً متسارعةً للتقارب مع إيران
وترى الدراسة أن الدول العربية مستعدة لتجربة نهج جديد، "الدبلوماسية بدلاً من العداء"، حتى ملف التقارب الإسرائيلي مع بعض الدول العربية مثل السعودية سيدخل في مرحلة جمود ولو بشكل مؤقت بسبب التقارب الإيراني مع السعودية ودول المنطقة مثل مصر، ويتعين على إسرائيل أن تراقب ذلك بحذر كي تجد طريقها في الواقع المتغير، وأن تفعل ذلك بحكمة بينما تستمر في الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية ومحاربة نوايا إيران لاستخدام الوضع الجديد لتقوية نفسها.
ووصفت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، هذه التحركات بـ"البطيئة لكنها في الوقت نفسه تشير إلى حقبة دبلوماسية جديدة في المنطقة"، وعزز الكاتب الإسرائيلي، تسفي برئيل، في صحيفة "هآرتس" وجهة النظر الداعمة للقلق الإسرائيلي من هذا التقارب، في مقالة بعنوان "الاتفاق بين السعودية وإيران يرسم خريطةً جديدةً في الشرق الأوسط"، عدّ فيه أن التوغل والتقارب الإيرانيين من دول المنطقة يفوّتان الحلم الإسرائيلي بتكوين محور وتحالف عربي ضد إيران".
ويختم: "ثمة خريطة تحالفات جديدة في الشرق الأوسط ستكون إيران لاعباً مهماً فيها"، مُرجعاً بعض أسباب هذا التوغل إلى ضعف الدور الأمريكي في الفترات الماضية، وبروز الصين كلاعب مهم في المنطقة لتشكيل تلك التحالفات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...