شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
حوار بسيف الحياء، مع الأستاذ طاهر أبو زيد (1 من 2)

حوار بسيف الحياء، مع الأستاذ طاهر أبو زيد (1 من 2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 25 مايو 202311:12 ص

هذا حوار أنشره أيضاً لأول مرة، مثل حواري مع أنغام ومدحت صالح، لكنني بعكسهما، أتحمّل منفرداً مسؤولية تأخير نشره، خصوصاً أن مجلة "نصف الدنيا" كانت مرحّبة بنشره حين أجريته في عام 1999، وهو ما قالته لي الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم، التي كانت سبباً في أن أجري هذا الحوار بسيف الحياء، حيائي من لطفها ومودتها وحرصها على مصلحتي، ربما أكثر من حرصي عليها.

الحكاية وما فيها أنني كنت في تلك الأيام مفلساً ومحبطاً، وأبحث عن عمل مستقر بعد أن فشلت في الاستمرار في أكثر من صحيفة ومجلة وقناة فضائية، مفلتاً من خازوق تلو الآخر، وبدا لي أن حلم كتابة السيناريو أبعد مما ظننت، ولذلك بدأت أفكر لأول مرة في السفر خارج مصر بحثاً عن عمل، وفي ظل تلك الظروف العصيبة، قالت لي الأستاذة صافي ناز، إن هناك فرصة قوية أمامي للعمل في مجلة "نصف الدنيا" التي ترأس تحريرها صديقة عمرها، الكاتبة الكبيرة سناء البيسي، وكنت قبلها قد أرسلت، بناءً على طلب الأستاذة سناء، مقالاً ساخراً أذكر أنه كان عن العزوبية وعلاقتها بالإبداع، ومع أنه كان مقالاً مراعياً لكل قيم الأسرة المصرية، إلا أن الأستاذة سناء نشرته بعد حذف عبارات رأت أنها جامحة ولا تناسب روح المجلة، فجاء منزوع الدسم باهت الملامح، ولذلك لم أهتم حتى بالاحتفاظ بنسخة منه، برغم حرصي على توثيق كل ما أنشره.

قالت الأستاذة صافي ناز إن الأستاذة سناء ستجد صعوبة في نشر المزيد من المقالات التي يمكن ألا تتفق مع طابع المجلة، لكنها ترحّب بأي مساهمات صحفية من حوارات وتحقيقات، فلم أقابل الترحيب بالحماس اللائق به، لأنني كنت خارجاً من تجربة مرهقة ومليئة بالمشاكل في مجلة "المصور"، ولم يبدُ لي أن ظروف العمل في "نصف الدنيا" ستكون مختلفة، فإذا كنت قد تعرّضت لحرب شرسة في "دار الهلال" فكيف سيكون شكل الحرب في مؤسسة أغنى وأزهى مثل "الأهرام" التي تصدر عنها المجلة، لكن الأستاذة صافي ناز لم تستسلم لما قلته، ورأته دلعاً يضفي على نفسه الجدية بارتداء قناع اليأس، وهو رأي استفزّني، فقرّرت أن أستجيب لاقتراحها بإجراء حوار مع واحد من أبرز رواد الإذاعة المصرية، الأستاذ طاهر أبو زيد، والذي زكّتني لديه الأستاذة صافي، وقالت له عني كلاماً مشجعاً فوافق على أن يجري معي الحوار، مع إنه كان يحب أن تحاوره هي بنفسها، كما فعلت من قبل مع الرائد الإذاعي الأهم محمد محمود شعبان الشهير بـ "بابا شارو".

كنت أعقل من أن أصارح الأستاذة صافي ناز بأنني كنت أفضّل إجراء حوار مع الكابتن طاهر أبو زيد، نجم الأهلي والمنتخب القومي، ليس فقط لأنني أحبه أكثر وأدين له بسنوات من البهجة، ولكن لأنني كنت مستفزاً من الهجوم الذي يشنه سميّه الإذاعي الكبير على التوسع في استخدام اللهجة العامية في الكتابة، وهو هجوم خصّ فيه بالذكر في أكثر من مناسبة صحيفة "الدستور" التي كنت سكرتيراً لتحريرها ومسؤولاً عن إعادة صياغة الكثير من عناوينها وموضوعاتها، ولذلك نصحتني الأستاذة صافي ناز ألا أثير هذه القضية السجالية التي ربما انتهت بما لا يحمد عقباه، خاصة أن الأستاذ طاهر كان متحمساً بشدة لجمعية "حماة اللغة العربية" التي كان على وشك الإعلان عن تأسيسها، ليقتصر الحديث على تجربته الإذاعية الرائدة، خاصة أن الحوار كان سيُنشر في عدد خاص من المجلة عن الإذاعة المصرية وتاريخها الطويل وأبرز رموزها.

ذهبت للقاء الأستاذ طاهر في عصريّة يوم شتوي في شقته الجميلة التي تقع في عمارة فخيمة مطلة على حديقة حيوانات الجيزة، وهي نفس العمارة التي كانت تقيم بها الفنانة العظيمة شادية، والتي لو كنت ذاهباً لمحاورتها لكنت أكثر إشراقاً وبهجة وإقبالاً على الحوار

ذهبت للقاء الأستاذ طاهر في عصريّة يوم شتوي في شقته الجميلة التي تقع في عمارة فخيمة مطلة على حديقة حيوانات الجيزة، وهي نفس العمارة التي كانت تقيم بها الفنانة العظيمة شادية، والتي لو كنت ذاهباً لمحاورتها لكنت أكثر إشراقاً وبهجة وإقبالاً على الحوار، خصوصاً أنني لم أكن سأضطر للحديث طيلة الوقت باللغة العربية الفصحى التي لا يتحدث الأستاذ طاهر إلا بها، وبالتأكيد لم أكن سأقرّر التوقف عن تفريغ الحوار، وأقسم بالله العظيم ثلاثاً أنني لن أنشره، مثلما فعلت مع حوار الأستاذ طاهر الذي لم أكمل تفريغه من شريط التسجيل، لأنني أصبت فجأة بنوبة زهق وغضب من نفسي، فأقسمت ألا أذهب مرة ثانية لمحاورة شخصية لا أكون شغوفاً بمحاورتها، وقلت للأستاذة صافي ناز إن جهاز التسجيل خذلني ولم يعمل في ظروف غامضة، وأن الأستاذ طاهر لن يقبل طلبي بإعادة الحوار طبعاً.

ولذلك اضطرت الأستاذة صافي أن تذهب لمحاورته بنفسها تكفيراً عن ذنب اختياري لمحاورته، ونشرت معه حواراً ممتازاً في مجلة "نصف الدنيا"، وها أنا بعد كل هذه السنوات أضع بين يديك ذلك الحوار الذي قمت بتفريغ نصفه وأضعت نصفه الآخر، وكان ينبغي ألا أترك نزقي يغلبني، فأمتنع عن نشر رؤية رجل صاحب تجربة وخبرة، كان يجب مهما اختلفت معه أن أنشر حديثه كاملاً، ولعل نشر بعضه الآن يكون تكفيراً عن خطئي، ومساهمة في إثراء المحتوى الخاص بتاريخ الإذاعة المصرية، وتأملاً في مشوار وطريقة تفكير واحد من أبرز روادها، يمكن أن يستفيد منه بعض أبناء الأجيال الجديدة التي لا تعرف طاهر أبو زيد المذيع، ولا طاهر أبو زيد الكابتن.

*****

ـــ أستاذ طاهر، أعرف أن عدد الإذاعات الآن أصبح أكبر بكثير من ذي قبل، وأصبح إرسالها يمتد على مدار اليوم بأكمله بدلاً من البثّ لساعات محددة، وهو ما يصعب مهمة المتابعة، لكن بشكل عام أريد أن أسألك عن تقييم عام للمشهد الإذاعي في مصر اليوم؟

لا أميل كثيراً إلى ما يسمى بالأغنية الشبابية لأن أغلب ألحانها واحدة، تعتمد على الإيقاع الذي يتكرّر فلا تكاد تميز أغنية من أخرى

ـــ الحقيقة أنني برغم تقدمي في السن، لم أفقد اهتمامي بقدر الإمكان بمتابعة الإذاعات والقنوات التلفزيونية وكذلك الصحف، وأعتقد أنني لو لم أكن إذاعياً لكنت صحفياً، وأنا بالمناسبة أحب القلم حباً لا يقل عن حبي لسماع صوتي في الإذاعة، طبعاً كما قلت المشكلة الآن هي الكثرة الغامّة لما يقدم في وسائل الإعلام، مثلاً بعد أن كان الراديو لا يعرف سوى البرنامج العام وساعات محدودة من البرنامج الأوروبي، أصبح لدينا عدد كبير جداً من الإذاعات، كذلك تجد الحال في عدد القنوات التلفزيونية، سواء منها المحلية أو المتخصصة أو الفضائية، هناك مطر إعلامي يسقط على رأس المواطن في العصر الحديث، يصيبه بالحيرة فيما ينتقى ويجعله مشدوداً إلى آلاف الأفكار والقضايا والآراء، وأصبح أصعب شيء أن تصل إلى الحقيقة، وسيزداد البحث عن الحقيقة صعوبة كلما زاد تعقد وسائل الاتصال، وأرى أن كثير من العقول المشرفة على بعض أجهزة الإعلامي تميل بطبيعتها إلى الترفيه عن الإنسان بكل وسائل الترفيه، وربما لديهم بعض العذر، لأن إنسان العصر الحديث مثقل بالتبعات والهموم.

ـــ في الحقيقة، حتى على مستوى الترفيه، أصبحنا نفتقد اللمعان الذي كان لدينا في الإذاعة والتلفزيون، وهناك مؤشرات أن البساط بدأ يُسحب من تحتنا ويتجه إلى مناطق أخرى، مثل لبنان وقنواتها الفضائية؟

ـــ أنت تثير نقطة هامة ومتشعبة الآراء، الترفيه في فضائيات لبنان هو إغراء يستخدم الملابس الكاشفة إلى حد كبير، والجمال الزائد الذي يستخدم الفن الصناعي وعمليات التجميل الواضحة، ثم الاسترخاء في التقديم وإلى آخره، مع الرقص المتواصل والغناء. الترفيه لا يصل إلينا إلى هذه الدرجة، أذكر مثلاً مهمّاً حول تقديمنا للترفيه هو برنامج "ساعة لقلبك" الذي نشأ فيه أهم نجوم الكوميديا وقتها. أنا رأيي أن الترفيه مهمة أصعب، لأنه من السهل أن تستدر دموع الإنسان، ولكن من الصعب جداً أن تحصل على ابتسامة أو ضحكة من قلبه. لا تنس أيضاً أن الشعب المصري كان سعيداً أو مبهوراً بالإذاعة في مرحلتها الأولى، لأنه كان يجلس أمام هذا الصندوق، فيتحدّث له متحدّثون، أمثال فكري أباظة وابراهيم عبد القادر المازني والعقاد وطه حسين وغيرهم، وكبار المقرئين وكبار المطربين.

طاهر أبو زيد: الترفيه في فضائيات لبنان هو إغراء يستخدم الملابس الكاشفة إلى حد كبير، والجمال الزائد الذي يستخدم الفن الصناعي وعمليات التجميل الواضحة، ثم الاسترخاء في التقديم وإلى آخره، مع الرقص المتواصل والغناء

كانت العلاقة الأولى علاقة انبهار بإمكانيات الإذاعة وقدراتها الخارقة، وبعد فترة من الزمن يصبح هذا الراديو عادياً، ثم يتحوّل المستمع إلى ناقد وتتكون لديه حاسة نقدية، وستجد هذا يحدث مع الوسائل الإعلامية المبهرة التي يتم اكتشافها الآن، كالإنترنت على سبيل المثال، وما به من عجائب أجد من الصعب عليّ أن أتعامل مع تعقيداته مثلما أجد صعب التعامل مع جهاز فيديو معقد، وأنا أحب البساطة، خاصة وأنا في سني هذه كثير النسيان.

ـــ بالتأكيد أنت تتابع الشكوى العامة لدى الجمهور والنقاد من تدني مستوى الإذاعة ومذيعيها الذين يتم وصفهم بالضحالة والجهل، في حين يرى البعض أن تركيز الهجوم على أشخاصهم فيه ظلم لهم، لأنهم في النهاية ليسوا سوى صورة للعصر الذي جعلهم مذيعين؟

ـــ لقد أجبت الإجابة التي أريد أن أقولها، فما حدث في العصر كله في شتى الجوانب لابد أن ينعكس بدوره على أجهزة الإعلام، لأن الإعلام لا يخلق المجتمع بل يعكسه، هو جهاز عاكس لا منشئ، هو ابن العصر والزمن الذي نحن فيه، وللأسف هو زمن متهرّئ وردئ في كثير من الأحيان، والدليل أن كثيراً من الناس الآن عندما يتبادلون الآراء يتحدثون عن زمان وأيام زمان، حتى الإعلام نفسه يقدم برامج مثل "كان زمان"، وهو يعكس تقديراً لما كان موجوداً زمان، وإذا أردنا أن نفلسف الموضوع أكثر، أقول إنه ربما يوجد في الحاضر كثير من الأشياء المحمودة، لكن الحنين إلى الماضي موجود في نفس الإنسان دائماً حيث يميل للحنين إلى ماضيه.

ـــ لكن الحنين إلى الماضي الإذاعي هنا ليس مطلقاً، يعني أجده مركّزاً على الحنين إلى عصر الخمسينيات والستينيات، بعكس مثلاّ عصر السبعينيات والثمانينيات، وكلاهما أصبح ماضياً، لماذا في رأيك؟

ـــ لا تنس أن الإذاعة في ذلك العصر كانت جهازاً وحيداً، وضع تحت كلمة وحيد عشرات الخطوط، كما أن القائمين على الإذاعة بدأوها بتميز شديد جداً، ويكفي أن ما وضعوه من منهج واستراتيجيات للعمل الإذاعي لا يزال هو حتى اليوم ما يتم اتباعه وتقديمه، حين بدأ من هم مثل الأستاذ محمد فتحي والأستاذ أحمد سالم والأستاذ علي خليل، وهو اليوم الوحيد من بين المؤسسين السبعة لا يزال يعيش بين ظهرانينا، هؤلاء الذين أسميهم الأقمار السبعة كانوا يقدمون لغة جميلة، مثلاً علمونا أن نقول عبارة جميلة مثل "سيداتي آنساتي سادتي" التي دخلت إلى قاموسنا معهم، ولم نكن نعرفهم، ورآها الجمهور شيئاً مثيراً وجميلاً وسُعِد بها، قبلها كنا نعرف "أيها السادة" وأحياناً "أيها السادة والسيدات"،

كان هناك حرص شديد على انتقاء المذيعين والمذيعات، وحتى حين يتم اختيار المذيع، لم يكن يقرب الميكروفون إلا بعد فترة زمنية تطول أحياناً

وقد أجادوا الاستفادة من الإذاعات الأجنبية، وعلى رأسها الإذاعة البريطانية التي كان لها تقاليد راسخة مهمة، كانت البرامج تقدم بلغة مبسطة غير متعالية أو متقعرة، لها جمالها وموسيقاها، كنا نسمع الدكتور طه حسين وطريقة أدائه الموسيقية ونتعلم منها، بعدها جاء جيل من مقدمي البرامج كان فناناً ومبدعاً بطبيعته وموهبته، وكان هؤلاء حصيلة آلاف تقدموا للإذاعة عند تأسيسها ولم يختر منهم إلا هؤلاء العباقرة، لعلك تذكر مثلاً ما صنعه عبد الوهاب يوسف من صور إذاعية لا تزال تعيش وستعيش، اسمعه وهو يؤدي خوفو مثلاً في إحدى تلك الصور الإذاعية، لازلت أتذكره مع مهندس صوت اسمه سيمون وهما يبتكران الصدى، ولم يكن الصدى الميكانيكي الموجود الآن معروفاً، كنت أمر أحياناً على الاستوديوهات، فأجد عبد الوهاب يوسف وسيمون يحجزان استديو من الصباح إلى المساء لمحاولة إنتاج صدى بالتجربة، مرة يقفلون بابي الاستديو ويضعون جدران من الستائر المتحركة ويستمعان إلى درجة وضوح الصدى، ثم يفتحون باباً ويجربون الصوت والصدى، وهكذا قاموا بالعديد من التجارب حتى وصلوا إلى النتيجة المبهرة التي نسمعها عندما يخاطب فرعون قائلاً: "يا ابن الشمس"، كل هذا المجهود العبقري الذي قام به عبد الوهاب يوسف كان قبل أن يقوم العلم بسنوات بإنتاج الصدى بدرجاته المختلفة.

طاهر أبو زيد: المؤسسون السبعة أسميهم الأقمار السبعة، كانوا يقدمون لغة جميلة، مثلاً علمونا أن نقول عبارة جميلة مثل "سيداتي آنساتي سادتي". قبلها كنا نعرف "أيها السادة" وأحياناً "أيها السادة والسيدات"

كان هناك أيضاً عبقرية انتقاء المتحدثين، مثل عبقرية الكاتب الكبير فكري أباظة الذي كان يجذب الناس بمداخله العبقرية في أحاديثه الإذاعية، عندما يقول مثلاً في أحد مطالعها "أنا أبدأ الحديث مع سيدة مصر الأولى"، وهو لقب لم يكن قد ظهر لدينا رسمياً إلا في عهد السادات، لكن فكري أباظة ابتدعه في ذلك الزمن البعيد، كان يقول "هل تعرفون من هي سيدة مصر الأولى... إنها خضرة الفلاحة التي تصحو مع الفجر وتحمل على رأسها الجرة وتخرج برشاقة إلى النهر"، ويواصل حديثه جاذباً الناس إلى موضوعات يعيشونها.

كان هناك حرص شديد على انتقاء المذيعين والمذيعات، وحتى حين يتم اختيار المذيع، لم يكن يقرب الميكروفون إلا بعد فترة زمنية تطول أحياناً، في عهدنا، رغم أننا بدأنا في 14 مايو سنة 1950 بعد بدء الإذاعة بستة عشر عاماً، كانت مهمتنا الجلوس في الاستديو لمدة شهور لنراقب المذيعين، ثم بعد ذلك نبدأ بتقديم جملة، ثم تقديم أغنية، ثم تقديم فترة من الفقرات، ثم التعليق في الخارج، ثم نقل صلاة الجمعة، ثم نؤدي نشرة متخصصة، ثم نشرة عامة حتى نصل إلى النشرة الرئيسية، لكي نتربى إذاعياً وننضج.

ـــ هل حدث في العهد الذي دخلت فيه الإذاعة أن نجح مذيع بفضل الواسطة أو الكوسة؟ ولو حتى حالات فردية؟

ـــ بمنتهى الأمانة، لا أذكر أن أحداً أعرفه دخل بالواسطة، كنا ندخل امتحانات متعدّدة أمام لجان من أقطاب الإذاعة، تستمع إلى الأصوات ومخارج الحروف وتحدد عيوب النطق الصوتي، ثم توجه لهم الأسئلة الثقافية والمعرفية وقواعد النحو.

ـــ وبعد الثورة، عندما كان هناك نفوذ عسكري للمسؤولين، هل ظهرت الواسطة؟

ـــ أعتقد أنه بدأنا نسمع عن بعض حالات دخلت بالواسطة، ولكن ليس بكثرة، ولا تنس اعتباراً مهماً، أن من كان يدخل بالواسطة كان يسقط ويفشل، لأن المذيع وقتها كانت طبيعة عمله تجعله فناناً، والواسطة لا تصنع فناناً مهماً أحيط بتدعيمات صناعية.

ـــ البعض يرى أن الأسطورية المرتبطة بجيلكم والجيل السابق لكم تنبع من كونكم رواداً، بدأتم المشوار فاكتسبتم مزايا البدايات، بينما يرى البعض الآخر أنكم تحولتم إلى أساطير لأنكم اتبعتم ما تسميه الأستاذة صافي ناز كاظم منهج "شُغل اليد" في عملكم الإذاعي؟

عندما أستمع إلى عبد المطلب أكاد أبكي تحسراً على فقده، لأنه صوت خرافي غريب من الصعب أن يوجد

ـــ أنت تقول كلاماً ثم تناقضه لاستفزازي، لكن دعني أقول لهؤلاء الذين تتحدث عنهم إن نجاحنا لم يكن فقط لأننا البداية، فقد سبقتنا حوالي 3 أجيال هي التي بدأت، كانوا كلهم من العباقرة، عندك مثلاً الموسيقي العظيم مدحت عاصم الذي كان سابقاً لعصره، أنظر مثلاً تلحينه لأغنية "دخلت مرة في جنينة.. أشم ريحة الزهور"، وهو تلحين تصويري وليس تطريبياً كما كان السائد وقتها. سأعطي مثلاً آخر، المطربة الخالدة أم كلثوم، بكل ما تمثله من عظمة وفن، حينما يأتي الإذاعي محمد فتحي في هذا العصر القديم ليقول: "على المسرح الآن أم كلثوم وفي يدها منديل لونه كذا وتلبس فستان شكله كذا وتتحلى بكذا، ويصفها للجمهور بحيث كأنه يراها من خلال جهاز يعتمد على السمع، أليست هذه عبقرية؟ عندك مثلاً عبد الحميد الحديدي في ملاحقته لأخبار الدنيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وما يتطلب ذلك من قدرات، خاصة أن الإذاعة المصرية بدأت تذيع الأخبار برغم معارضة القادة الإنجليز الذين كانوا يرفضون ذلك لرأيهم أن الخبر يثير الناس، لكن الحديدي والمجموعة التي معه استطاعوا أن يفرضوا هذا بالتدرج، حتى أصبح الخبر جزءاً من كيان الإذاعة. هؤلاء كلهم عباقرة من المستحيل أن ينجحوا لمجرد أنهم رواد زمنياً.

ـــ بالطبع جيلنا تعرف على إبداعات جيل الرواد وجيلكم من خلال برامج المختارات الإذاعية التي تختار من الأرشيف الإذاعي، وبالإضافة إلى ما ذكرته، هناك ملاحظة هامة يتميز بها الأداء الإذاعي، هو خفة الظل ووجود روح خفيفة وراء ما يتم تقديمه حتى لو كان جاداً، بعكس ما يسود الآن من ثقل ظل وغلظة؟ 

ـــ لا أدري ما هو المقياس العلمي للغلظة؟ إحساس الإنسان يرتبط بعوامل معينة على رأسها الحب، لكن أعتقد على المدى الطويل لا يصح إلا الصحيح ولا ينجح إلا الأصيل والفنان، وانظر مثلاً إلى فنانين مثل عبد العزيز محمود ومحمد عبد المطلب وكارم محمود والكحلاوي، كيف استمر نجاحهم برغم مرور كل هذه السنوات، بالمناسبة، أنا عندما أستمع إلى عبد المطلب أكاد أبكي تحسراً على فقده، لأنه صوت خرافي غريب من الصعب أن يوجد، وكل ما يخرج من حنجرته فن عظيم وليد خبرة حتى لو لم يكن وراءه دراسة كافية، ثم انظر إلى الرجولة التي تخرج من صوته، عندما تسمع بعض المطربين الآن تجده يتحدث في الحب بذلّة وهوان، قارن ذلك بغناء عبد المطلب "حبيتك وها حبك وباحبك على طول".

طاهر أبو زيد: في مصر ليس لدينا رقصات وطنية ولا شعبية، ليس لدينا الدبكة الموجودة لدى إخواننا في الشام، وهي رقصة جميلة فيها حيوية ودق للأرض بالأقدام، كأنها أيضا تقول "ولا بنخاف"

ـــ تعني أن غناء هذه الأيام يخلو من الرجولة؟

ـــ لا أحب أن أتطرّف، أنا لا أميل كثيراً إلى ما يسمى بالأغنية الشبابية لأن أغلب ألحانها واحدة، تعتمد على الإيقاع الذي يتكرّر فلا تكاد تميز أغنية من أخرى، لكن هناك بعض الأغاني التي أعجبتني، خاصة محمد منير له عدد من الأغاني الحلوة، أعجبتني مثلاً أغنية سمعتها في فيلم محمد هنيدي الأخير، يغنيها أحد شباب الفيلم (يقصد أحمد السقا) تقول: "ولا بنخاف م الدنيا بحالها.. لو عايزين الشمس نطولها، نلمس نجم السما بإيدينا، والدنيا إن مالت نعدلها"، أغنية حلوة وفيها معنى شجاع واقتحامي نريده لشبابنا، مع الأسف نادراً ما تجد هذا لأن أغاني اليوم تشعر أنها تنتمي إلى لون واحد، لكن أغنيات زمان ملوّنة، عمرك ما تجد أغنية مثل الأخرى، كل أغنية لها لحن وانفعال وجوّ خاص بها، تأخذك إلى جو مختلف، حتى المطرب والملحن الواحد عبد الوهاب لا تجد له أغنية تشبه الأخرى، الآن تجد أغلب الأغاني التي في السوق تعتمد على شخص ليس لديه صوت بل يكاد الميكروفون يرتكز على شفتيه، أين هذا من المطربين القدامى الذين كانوا يغنون بلا ميكروفون؟ للأسف الميكروفون جاء وأنقذ الأصوات الرديئة والسطحية، للأسف المجتمعات الحديثة تميل للسطحيات، بعكس الماضي الذي كان يعتمد على العبقريات الإنسانية دون أجهزة. الغناء الحديث يعتمد على نقطة أخرى هي الرقص والإيقاع، خاصة أننا في مصر ليس لدينا رقصات وطنية ولا شعبية، ليس لدينا الدبكة الموجودة لدى إخواننا في الشام، وهي رقصة جميلة فيها حيوية ودق للأرض بالأقدام، كأنها أيضا تقول "ولا بنخاف".

ـــ لكننا قدمنا للعالم الرقص البلدي وهناك من سيراه أهم من الدبكة؟

ـــ (يضحك) طبعاً هو شعار مصري قديم، وناس كثيرون يحبون رؤيته، قد يكرهونه بالكلام فقط، لكنهم يستمتعون برؤيته، خاصة إذا كان من راقصة مجيدة، والآن تجد العالم كله يسعى لتعلمه، صحيح أن الراقصات الروسيات وراءهن الحالة الاقتصادية التي أجبرتهن على القدوم إلى مصر، لكن ما رأيك في اليابانيات، رأيت يابانية ترقص رقصاً شرقياً، شيء رهيب، في لحظات كانت حركاتها وهي ترقص تغرقك في أعماق الدنيا، ثم في لحظات تشعرك أنها متصوفة، المسألة هي من يبدع ومن يقدم لنا فناً جميلاً.

*****

لم أكن أتوقع تلك الانعطافة المفاجئة في الحوار نحو الرقص الشرقي، ولا حديث الأستاذ طاهر عنه بكل ذلك الحماس، وحين حاولت الاستفاضة طلب مني تغيير الموضوع لأن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، فانتقلت من الرقص إلى السياسة وسألته عن تجاربه السياسية والإذاعية، فحكى عدداً من الحكايات الممتعة التي جمعته بالزعماء مصطفى النحاس وجمال عبد الناصر وأنور السادات ستقرؤونها الأسبوع القادم بإذن الله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard