منذ أن دبّ البشر على الأرض، لا يزال الإنسان في بحث مستمر عن الأمان، وحتى اليوم لا يزال الخوف من المجهول يغلب عليه، ويدفعه للبحث عن تفسيرات ماورائية تبث الطمأنينية في قلبه.
وعلى رأس ما أنتجه العقل الديني يقبع مفهوم المنقذ، هذا المفهوم الذي تداولته أغلب الثقافات والأمم منذ القدم، فلكل أمة منقذها المعني بتخليصها من الظلمات والمآسي.
وما زالت بعض الشعوب تنتظر منقذها الذي سيأتي عاجلاً أم آجلاً، ومنها الشيعة الذين ينتظرون المهدي المنتظر، وهذا محور حوارنا مع المفكر والباحث العراقي فالح مهدي المعني بالحقل الديني، ومؤلف كتاب "البحث عن منقذ/ دراسة مقارنة بين ثماني ديانات"، بجانب روايات وقصص وكتب كثيرة منها "صلوات العالم/ قراءة نقدية في ثقافات العالم الروحية"، "استقراء ونقد الفكر الشيعي"، "تاريخ الخوف/ نقد المشاعر في الحيّز الدائري" و"مقالة في السفالة/ نقد الحاضر العراقي".
للمهدي المنتظر أهمية كبيرة ومفصلية في حياة الطائفة الشيعية، ويعتقد البعض أن انتشاره بالشكل الذي هو عليه كبَّل مساعي الناس إلى بناء مستقبل أفضل، وعطلهم من رفع الضيم عن واقعهم، على أساس أن كل الأمور معلّقة على قدوم المخلّص.
وهنا نص الحوار:
كتبت كتابك "البحث عن منقذ" في بداية سبعينيات القرن الماضي. ما هي الدوافع التي دعتك إلى خوض غمار هكذا بحث في مسألة حرجة وإشكالية؟
انتهيت من دراستي الجامعية ونلت بكالوريوس في القانون عام 1970، وكان سنّي آنذاك بين 22 و23 عاماً. ومع أنني كنت أمارس مهنة المحاماة وكان لي مكتب في شارع المتنبي، كنت أقضي معظم وقتي في المكتبة المركزية في منطقة الوزيرية. لم يكن لي أي مشروع في ذلك السن إنما كنت مولعاً بثورة الزنج وبالحركة القرمطية. لذا، وبعد تراكم معرفي عن هذه الحركة المتطرفة، وجدت الرغبة في الكتابة عنها. ولمّا كنت بعيداً عن وسائل البحث والكتابة (كنت قارئاً نهماً)، ذهبت ودون تردد وطرقت باب الطيب الذكر الدكتور فيصل السامر، وهو مؤرخ مرموق وقامة ثقافية. كان ذلك في نهاية عام 1970. تحدثت عن ذلك في المقدمة الطويلة للطبعة الأخيرة لهذا الكتاب القديم والصادرة عن دار النهضة العربية في بغداد عام 2020. كي أختصر، أشار عليّ ذلك الرجل الحكيم بالخوض في موضوع المهدي المنتظر في الأديان، ولما أدرك إنني لا أفقه شيئاً في هذا الموضوع، تكرم وطلب من أستاذ التاريخ القديم في كلية الآداب، الدكتور سامي سعيد الأحمد، بالأخذ بيدي والإشراف على بحثي الذي لا أنتظر منه درجة علمية. وهكذا بدأتُ الخطوة الأولى.
كتابك لا يزال حاضراً في أسواق الكتب والمكتبات. إذا أردنا رسم صورة عن علاقة المجتمع العراقي والعربي بـ"مفهوم المنقذ"، بين زمن صدور الكتاب واليوم، ماذا تقول؟
مضى على تحرير هذا الكتاب 50 عاماً وعلى نشره للمرة الأولى 41 عاماً ولا زال المجتمع العراقي والعربي يبحث عن منقذ! بين صدور الكتاب واللحظة الراهنة نشهد وبأم أعيننا تدهور الوعي وتردي الشرط الإنساني. شهدنا ولم نزل انحطاط الأيديولوجيات الشمولية القومية والشيوعية، وصعود وانحطاط الإسلام السياسي.
الانتفاضات الشبابية وأولها انتفاضة تونس عام 2010، ومن ثم انتفاضات مهمة في ليبيا ومصر وسوريا، وأخرى في العراق والجزائر إلخ، كلها باءت بالفشل.
الانتفاضات عبّرت على نحو عفوي وفذ في آن عن أن الإنقاذ لا يأتي من السماء ولا تحمله الأساطير والحكايات التي تعبّر عن إحباط، بل من ثورة على الواقع السياسي الاجتماعي. خرجت هذه الشعوب من أغبى استعمار واحتلال تمثل في الهيمنة العثمانية ووقعت في استعمار الجماعات المفترسة في الداخل، فتسيّد الحكم السلطوي بل القبلي والعائلي في كثير من الأحيان.
ومع فشل هذه الانتفاضات، أدرك الشباب أن لا حل من السماء ولا حل بالاعتماد على قوى أجنبية. في مقدمة "البحث عن منقذ" كتبت التالي: "الشعب الذي تزداد درجة وعيه بنفسه وبظروفه الموضوعية يستطيع أن يدرك جيداً أنه أعظم منقذ لنفسه، أما الشعب الجاهل فينتظر النصر من الخارج". ومع صغر سنّي وقتها، لا أخفي عليك إعجابي بهذه العبارة التي تستجلي المستقبل. الجهل هو الآفة الكبرى. متى ما تم ردم مستنقع الجهل ستجد شعوب المنطقة طريقها نحو التحرر والانعتاق.
ثورة الشباب التي بدأت في تونس عبّرت عن إدراك الشبيبة أن الاستبداد مرتبط بالجهل الذي تغذية المؤسسات الدينية بكل أطيافها.
كلما ضاقت بالناس المشاكل واشتدت عليهم الأزمات، قذفوا بالحل على شماعة "المهدي المنتظر" والاتكال عليه. "راح يطلع أبو صالح ويصفيها"، كما يقول الشيعة العراقيون. لماذا يبحث الناس عن منقذ بمواصفات خارقة وعجائبية؟
أشك في أن الناس، وحتى عند الشيعة في العراق، تنتظر المهدي لحل مشاكلها وأزماتها.
لا يؤمن بهذه الأساطير والحكايات إلا المؤدلجون ومَن لم يبرحوا جحور الظلام. مرة أخرى، لو اكتفينا بالعراق، سنجد وبسهولة أن شباب الانتفاضة التي قامت في عام 2019 جلهم أي أكثر من 90% منهم من عوائل شيعية.
هذا الجانب الوحيد المضيء. خرجوا من عباءة السلطات الدينية التي دأبت على تخديرهم وأفينتهم (من أفيون) فوجدوا طريقهم لوحدهم. والسبب أن الانتفاضة لا تدّعي الانتساب إلى أية أيديولوجية قائمة (قومية، شيوعية، أو إسلامية).
سلطة الشيعة في العراق ومنذ عام 2003 وبما فيها من فساد معمم وانعدام الكفاءة والشرف، أدّت ودون قصد إلى اندحار الأساطير الشيعية. لو كان الناس مؤمنون بعقيدة المهدي المنتظر لما خرجوا وعرّضوا حياتهم لكل تلك المخاطر. ستبقى تلك الانتفاضة في كل تاريخ العراق الذي تعيه الذاكرة علامة فاصلة. فهي لم تنتمِ إلى أيديولوجية قائمة وعبّرت وبكل وضوح عن أن ما من حل مع الدين، بل يجب إبعاد الدين عن الشأن السياسي.
لظهور مفهوم المنقذ أسباب تاريخية ودينية، وللتمسك به في الحاضر أسباب لها علاقة ربما بالحاجة إلى تعويض نفسي عن صعوبات العيش والأزمات... ماذا سينتظر الناس برأيك إذا توفرت لهم حياة كريمة؟
هذا السؤال امتداد للسؤال السابق. كلما توفرت الشروط المادية، أي اقتصاد قائم على الإنتاج، وتعليم يسمح بالتفكير بدلاً من التلقين، وثقافة سياسية تسمح بتبادل الأفكار والآراء دون الخوف من تعرض صاحبها للتهديد والسجن بل الاغتيال، سيسير أي مجتمع وأي بلد في العالم مهما كانت درجة تخلفه نحو مستقبل واعد. لنا أمثلة حية في كوريا الجنوبية التي كانت في ستينيات القرن الماضي من الدول المتخلفة بل تعرضت إلى مجاعة شديدة الوطأة، ولكنها تمكنت وبفضل نظام سياسي قائم على مفاهيم الديمقراطية والتعليم على التفكير لا التلقين واقتصاد حر أي رأسمالي في أن تصبح بمصاف الدول العظمى تقنياً وتكنولوجياً. عندما فُصل الشمال عن الجنوب، أصبحت كل البنية التحية من حصة شمال كوريا، في حين بدأت كوريا الجنوبية من الصفر. وعندما نتأمل نجد أن كوريا الشمالية تحكمها سلطة تدّعي أنها شيوعية، إنما تتوارثها نفس العائلة ولم تتمكن أن تبرع إلا في الصناعات الحربية شأنها شأن روسيا السوفياتية أو البوتينية. ولنا مثل ساطع في تجربة ماليزيا وهي دولة مسلمة، إنما تمكن رئيس وزرائها محمد مهاتير من انتشالها من الفقر والعوز بفضل حنكته ودخوله العالم المعاصر.
بشكل ما، مفهوم "المنقذ" حالياً هو من منتَجات السلطة، بصورة غير مباشرة، إذ يساهم بعض رموزها في تعزيزه بين الناس عبر خطب ورعاية طقوس وأمور أخرى، وتاريخياً كان من منتجات القيادة الدينية على أٌقل تقدير... هل الاستثمار فيه هو محاولة لتخدير الناس بمفهوم ينال من عاطفتهم ويكبل مسعاهم لنيل الحرية الآن؟
لو تسمح لي، أود القول أن السلطة لا تنتج أفكاراً ومفاهيم، لا سيما في المجتمعات التي تبنى فيها مفاهيم المواطنة والواجبات والحقوق ودولة المؤسسات. لو اكتفينا بالعراق، سنجد أن السلطة ذات طبيعة طفيلية، ليس لديها ما تعطيه بل هي تسلب المجتمع أعز ما يملك. السلطة لا تنتج مفهوم المنقذ ولا أي مفهوم آخر بل توظف هذه المفاهيم البالية. السلطة في العراق وهذا هو موضوعنا في هذه اللحظة لها علاقات متشابكة مع المؤسسة الدينية وهنا أقصد بالذات ما يطلق عليه "المرجعية".
"سلطة الشيعة في العراق ومنذ عام 2003 وبما فيها من فساد معمم وانعدام الكفاءة والشرف، أدّت ودون قصد إلى اندحار الأساطير الشيعية. لو كان الناس مؤمنون بعقيدة المهدي المنتظر لما خرجوا وعرّضوا حياتهم لكل تلك المخاطر في انتفاضة 2019"
هذا الترابط والتشابك بين الديني والسياسي نجده حاضراً في الأيديولوجية الإيرانية. في العراق الأمر مختلف قليلاً. مرجعية النجف لا تأخذ بمفهوم ولاية الفقيه الذي قامت عليه الجمهورية الإسلامية في إيران، إنما ساهمت المرجعية بدمار العراق. مع ذلك، فقد ساهم وكيل المرجعية أحمد الصافي وهمام حمودي في صياغة الدستور بل كان هذا الأخير رئيس اللجنة المكلفة بصياغة الدستور وهو لا يفقه شيئاً عن هذا الأمر.
بعض المرجعيات الدينية قلبت مفهوم "المهدي المنتَظَر" وتلاعبت باللغة فتحول إلى "المهدي المنتَظِر"، فبعد أن كانت الفكرة أن الناس ينتظرونه ليخلصهم من الظلم صارت الفكرة أن المهدي هو مَن ينتظر استعداد وتهيؤ الناس لكي يخرج لهم. فهل هذا مدخل لتسخير مفهوم المهدي للسيطرة أكثر على المجتمع بحجة تهيئته الظروف للظهور؟
يمثل هذا السؤال الدخول في قلب الأزمة السياسية والاجتماعية التي تعصف بالمنطقة ولا سيما العراق. نعم، وكما تفضلت، تم التلاعب بهذا المفهوم من "منْتَظَر" إلى "منْتَظِر". هذا الانتقال يعبّر عن عدة أمور أولها أن مفهوم المنقذ الذي ينتظره البائسون في لحظات الدمار وانعدام الأمل، يمكن التلاعب به حسب ما تقتضيه اللحظة المعاصرة.
في إيران، مرشد الثورة والذي هو علي خامنئي، يمثل ويمهد الطريق لظهور المهدي. والمفروض وبعد مرور أكثر من أربعين عاماً على تلك السلطة الجائرة والمستبدة والقائمة على الدجل والكذب والافتراء أن المجتمع أصبح مهيئاً لاستقبال هذا الوهم المسمى بالمهدي المنتظر.
ثانياً، أخذ هذا المفهوم طريقه الفعلي في القرن الرابع الهجري (العاشر من التقويم المعاصر)، أي بعد موت الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر (عند الشيعة الاثني عشرية). أصبح مفهوم المهدي المنتظر وعبر كتاب الكُليني، "الكافي"، معبراً عن الإحباط الفارسي بالذات وعن الأمل بعودة الإمبراطورية الساسانية.
كل المفاهيم الشيعية الاثني عشرية وُلدت في القرن الرابع الهجري وعلى يد "الكافي" ومَن جاء بعده وهم كلهم فرس ومن إيران بالذات. الغريب بل الشديد الغرابة إن الكليني عاش في نفس اللحظة التي عاش فيها السفراء الأربعة (أي أولئك الذين يلتقون سراً بالمهدي المنتظر ويستلمون رسائل منه!) وفي نفس المدينة والتي هي بغداد، بيد أنه لم يلتقِ بهم ولم يشر إليهم في كتابه "الكافي" الذي يعادل كتاب "صحيح البخاري" عند السنّة!
أما الملاحظة الرابعة والتي أثارها سؤالك المهم، فقد تحوّل المهدي المنتظر من فاعل إلى مفعول به ومن مانح إلى شحاذ.
فعندما نتأمل في عبارة "منْتَظَر"، نجده متعالياً ومتحكماً وفاعلاً. فهو مَن يقرر مع أخذ إذن ربه برجوعه وعودته لإنقاذ شيعته من الدمار الذي تعرّضوا له. تلك الأيديولوجية كانت ولا زالت قائمة على مفهوم "المظلومية"، جاءت في كتاب الكليني ومن ثم تمكن (محمد باقر) المجلسي، الفقيه الأول في الدولة الصفوية من الخروج من مفهوم "التقية" الذي برع فيه الشيعة الاثني عشرية، والإعراب عمّا يكمن في نفسه المريضة، فأصبحت أولى مهمات المهدي المنتظر إعادة الحياة إلى الخليفتين أبو بكر وعمر والقيام بشنقهما وحرق جثتيهما وبلا نهاية.
في "بحار النوار" (كتاب أحاديث جمعها المجلسي) لهذا الدجال الكبير ثقافة تعبّر عن فرسنة التشيع. فكما نلاحظ، لا يبحث المهدي عن ثأر مع عثمان علماً أنه مؤسس الخلافة الأموية ولا يشير إلا لماماً إلى معاوية الذي يطلق عليه الكليني في كتابه الكافي وصف "ذلك النكرة"...
لا يشكل معاوية ولا عثمان من قبله كابوساً في المخيلة الفارسية، كل الكراهية والغضب انصبت على عمر بن الخطاب والسبب يأتي من أنه قضى على الإمبراطورية الساسانية.
في اللاوعي الفارسي، وهذا اجتهاد منّي، عودة المهدي تمثل عودة الإمبراطورية الساسانية.
فكرة المهدي الفاعل وباعث الأمل في النفوس والمتكرم هي ما ساد خلال ما يقارب 1000 عام. ومع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران تحول المهدي من مُنتَظَر إلى منتَظِر. خلال كل تلك الفترة من القرن الرابع الهجري (العاشر من التقويم المعاصر) والى لحظة قيام الجمهورية الإسلامية في إيران في عام 1979، كانت الجموع الغفيرة تصحو وتنام على أنغام المفهوم الأفيوني (أي التخدير الجماعي) القائم على مظلومية الشيعة، وأصبحت بعد تلك الثورة الإسلامية البائسة هي الفاعلة. فالمهدي سيكون بانتظار صلاح شيعته وسيرها في الدروب الساسانية. أي أن هذه الجموع الغفيرة هي مَن يقرر اللحظة التي سيخرج بها المهدي.
لقد حوّلت أيديولوجية الدولة الإيرانية المعاصرة المهدي المنتظر من متكرم، إلى متكَرم عليه، ومن مانح (الأمل على نحو خاص) إلى شحاذ!
فكرة المنقذ موجودة في أديان كثيرة وفي تراث أمم كثيرة. هل هي برأيك من جوهر الدين كدين، بمعنى أن لا دين بلا منقذ؟
نعم وكما تفضلت فكرة المنقذ والمخلص موجودة في كل الأديان عدا الصين. ففي الفلسفة الدينية الصينية ليس هناك من حيّز لمفهوم الخالق بل المنظِم.
كل الأديان التي كانت على درجة من التطور وردت فيها مفاهيم الخلاص. الدين تفسير للعالم والكون والطبيعة، لذا فإن النظرة إلى الكون والخلق والحياة والموت ستؤدي حتماً إلى الدخول في عالم الخلاص. فمن غير المعقول أن يوجد هذا الكون من دون خالق على ضوء مدونات كل الأديان (عدا الصينية) ومن غير المنطقي والعقلاني أن يموت الإنسان ويذهب إلى العدم.
في الديانات القديمة في الشرق القديم، ولا سيما المصرية والعراقية، نجد وعبر كتاب الموتى المصري، أن قدامى المصريين كانوا من رواد مفهوم الخلاص، بل يمكننا اعتبارهم أول مَن فكر بالحياة الأخرى بعد الموت. في كتابي "تاريخ الخوف" قراءة متأنية لهذه المفاهيم لذا يمكن الرجوع إلى ذلك الكتاب. في العراق القديم ولا سيما السومريين، نجد أن لا مستقبل للموتى، إنما شكلت ملحمة جلجامش، وهي أعظم ما كتب الإنسان القديم في تقديري، والتي كانت تتداول شفهياً قبل أن يقوم الشاعر البابلي سين-لقي-ونيني بصياغتها، حيث تعود هذه النسخة إلى القرنين الثالث عشر أو الرابع عشر قبل التقويم المعاصر (قبل الميلاد)، من أهم المدونات للكشف عن عقائد القوم آنذاك.
"معتقدات الناس ستتغير مع انحسار الجهل، لذا تبذل السلطات القائمة في العراق المرئية وغير المرئية قصارى جهدها في أن يبقى الجهل مستعراً. والسبب هو أن رأسمالها قائم على ديمومة نار الجهل، فمتى ما انطفأت تلك النار، انتهت بضاعة الطفيليين"
توصل السومريون عبر تلك الملحمة العظيمة إلى مفهوم الزمن السهمي. وأقصد بذلك أن الحياة تبدأ بنقطة تتمثل بالولادة وتنتهي بنقطة تتمثل بالموت. وعلى ضوء تلك الفلسفة، نجد أن القوم توصلوا إلى مفهوم الزمن الملموس، وهو الزمن الذي يعيشه ويدركه الإنسان عبر مسيرته من لحظة ولادته إلى لحظة موته، والزمن الافتراضي أي الزمن الذي قام به جلجامش بطل تلك الملحمة بعبور الزمن الملموس واللقاء بأتونابشتم الذي كرمته الإلهة ومنحته الحياة الأبدية مع زوجته.
هذا الزمن الذي أطلقت عليه في كتابي "تاريخ الخوف" تسمية الزمن السهمي، يبدأ بنقطة يمكن رسمها على النحو التالي: ولادة-حياة، عمل ونشاط، شيخوخة-موت.
لم يكتف السومريون بذلك، بل ربطوا الموت بولادة جديدة تمثل الأمل والخروج من العدم لذا ما إن يسقط السهم الزمني بعد الموت حتى يقوم مجدداً لإتمام مسيرة الأمل. هذا الزمن الذي ابتكره السومريون هو الزمن الذي أخذت به كل الديانات التوحيدية بل قام عليه الزمن المعاصر.
هناك زمن آخر وهو ما يطلق عليه الزمن "الدائري" الذي أخذت به الهندوسية ونجده عند الإغريق وأبناء الصين. في الهندوسية لم تلغِ دائرية الزمن مفهوم الأمل والخلاص بل نجد تلك المفاهيم في قلب ذلك الدين.
ليس هناك من تعريف دقيق لمفهوم "جوهر الدين". قناعتي أن جوهر الدين يتمثل بالإيمان بخالق لهذا الكون، أي أننا لم نوجد فوق هذه الأرض بالصدفة. هذه قناعة ذات طابع عقلاني توصل إليها الإنسان وفي زمن مبكر جداً. إنما ونتيجة عوامل كثيرة لا يسمح المجال لطرحها هنا تتمثل بالتعقيد الحضاري الذي شهدته الإنسانية في العصر الزراعي، تم تحويل ذلك المعتقد السليم إلى أيديولوجيا ربطت ما بين السياسي والديني. وبقت تلك الأيديولوجيا قائمة إلى عصر النهضة الأوروبي، حين توصّل غاليلو (غاليلي) إلى أن الأرض ليست مركز الكون بل هي تدور حول الشمس. في الغرب وفي عصر النهضة تم الفصل بين الدين والدولة بعد أن كانت الكنيسة تتحكم بكل مفاصل الحياة.
ما هو الأثر السلبي الذي يقع على الشيعة وهم ينتظرون منقذاً إلى زمن غير معلوم، إذا فكرنا بالمسألة بلغة الحداثة، بما فيها العيش كمواطنين في دولة والطموح لحياة أرضية أفضل؟
في جوابي السابق تكلمت عن الزمن الملموس والزمن الافتراضي، هنا يمكنني اللجوء إلى نفس المصطلحات فهناك الحقائق الملموسة والحقائق المفترضة.
بعد أن استلم الشيعة السلطة في العراق برزت إلى السطح الحقائق الملموسة والمتمثلة بالسلطة والمال. بعد ما آلت إليه الأمور من هيمنة العصابات الموالية لإيران، بل احتلال العراق عن طريق هذه العصابات، أدرك مَن له درجة من الوعي حقيقة بديهية وهي أن العراق محتل من قبل إيران وعن طريق عملائها في الداخل بما يطلق عليه الحشد الشعبي. معتقدات الناس ستتغير مع انحسار الجهل، لذا تبذل السلطات القائمة في العراق المرئية وغير المرئية قصارى جهدها في أن يبقى الجهل مستعراً. والسبب هو أن رأسمالها قائم على ديمومة نار الجهل، فمتى ما انطفأت تلك النار، انتهت بضاعة الطفيليين.
السلطة لا في العراق فقط بل في كل المنطقة تقريباً قائمة على المفاهيم التي جاء بها ابن خلدون، أي مفاهيم التغلب والتي عبّر عنها نوري المالكي بعبارته الشهيرة "ما ننطيها" أي من المستحيل أن نتخلى عن السلطة والجاه والمال. السلطة الحالية فقدت رصيدها وهي قائمة بفضل العنف والقتل والاختطاف. شباب الانتفاضة في غالبيتهم العظمى جاؤوا من عوائل شيعية، إنما أدركوا أن لا خلاص دون الخلاص من الأوهام والأساطير والأكاذيب الكبيرة.
مع تحول العلوم إلى ثقافة شعبية بدرجة كبيرة لم تكن موجودة في أزمنة سابقة ربما، انحسر الكثير من الغيبيات... برأيك، ما هو مآل المنقذ عند الشعوب الكثيرة المنتظرة له بحال استمرار هذا التحوّل؟
لم تتحول العلوم إلى ثقافة شعبية بتقديري، إنما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي وبعض القنوات التلفزيونية الجادة بتبسيط هذه العلوم عند تقديمها للمشاهد.
المؤسسة الدينية كما ذكرتُ سابقاً لا تقوم وتتلاعب بوعي الناس بالاستناد إلى أصحاب الوعي أو مَن خلقت لدية ذرات من الشك البّناء. رأسمالها قائم على الجهل. مَن يقرأ ويتساءل من أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون خرج من "الإيمان" الذي رسمته هذه المؤسسة الطفيلية سلفاً.
مرة أخرى، اسمح لي أن أعود إلى تلك العبارة العفوية التي وردت مقدمة كتابي "البحث عن منقذ"، أي كتبت قبل 52 عاماً. في تلك العبارة العفوية ورد التالي: "أما الشعوب الجاهلة فتنتظر النصر من الخارج". في العالم المعاصر وعند الشعوب التي واكبت السلّم الحضاري ليس هناك مَن ينتظر المنقذ الذي سيأتي في آخر الدنيا لإنقاذ الأبرار من البشر كما تقول كل أيديولوجيات العالم القديم. لقد وجد الإنسان وبفضل البنية الثقافية والاجتماعية ونمط الإنتاج الاقتصادي أنه أعظم منقذ لنفسه.
ثمة كتابات شيعية، وهنا تحضرني كتابات أحمد الكاتب، ولا سيما "الإمام المهدي حقيقة تاريخية أم فرضية فلسفية؟"، سفّهت تلك الثقافة القائمة على أوهام، الغرض منها ديمومة المؤسسة الدينية الطفيلية. تلك الكتابات دونت من قبل كتّاب يدينون ويعتبرون أنفسهم جزءاً من المؤسسة الشيعية أي الحوزة، لكنها لاقت معارضة شديدة مع أنها كتبت من داخل دائرة الإيمان.
المتتبع لمشروعك الفكري سيجد أن كتبك وأبحاثك تركّز على تناول الحقل الديني وأثر الأفكار الدينية في الواقع. هل عملك هو تصديق لما قاله كارل ماركس عن أن نقد الدين هو أساس كل نقد؟
نعم، لقد صدق ماركس، فنقد الدين هو أساس كل نقد. في كتابي "البحث عن جذور الإله الواحد" عدت إلى هذا القول المتميز لماركس، فهو أصاب كبد الحقيقة في ما ذهب إليه.
لم تخرج أوروبا من ألف عام من الظلام إلا بقيامها بنقد الدين وبفصلها الدين عن الدولة. وحتى أكون أميناً، فإن كتابي الأول، "البحث عن منقذ"، كان بمثابة البذرة التي نمت وتطورت ولم تفارقني أبداً.
نقد الدين، وهنا لا نعني ما ترمز إليه هذه العبارة في الثقافة الشعبية، بل الكشف عن جوهره والبحث في مدوناته، عن المخفي والمتستر خلف تلك النصوص، كما فعلتُ في كتابي الأخير "استقراء ونقد الفكر الشيعي"، ذلك أني قمت بل أخذت على عاتقي مطاردة الكليني، وعبر كتابه "الكافي"، باعتباره مؤسس للأيديولوجية الشيعية في القرن الرابع الهجري، ويطلَق عليه لقب "ثقة الإسلام"، ولا زلت. وعندما نبحر في مؤلفه ذاك نجده بعيداً كل البعد عن الثقة وأمانة الكلمة.
المؤسسة الدينية (سنية وشيعية) طفيلية ولا تتمكن من نقد ذاتها بأمانة وتجرد على ضوء العلوم المعاصرة. فلو عدنا إلى كتابات أحمد الكاتب مثلاً سنجد وبكل سهولة أنه يكتب وفق منطق المؤسسة الدينية ولم يخرج من تلك الدائرة، مع أنه تعرض للكثير من سوء الفهم والنقد الشديد. لن تخرج هذه الشعوب مما هي فيه دون عقلنة الدين والرجوع إلى جوهره وهنا أقصد الإيمان دون وسطاء. فقد أثبتت التجربة وخلال ما يقارب 1500 عام أن الوسطاء مخربون للإيمان.
ليس هناك مَن هو أكثر دجلاً من هؤلاء الوسطاء، غالبيتهم العظمى عدا الشرفاء منهم ممن تخلوا عن مهمة الوساطة التي تخدع العبد المسكين وتقترف أكبر الجرائم وذلك بادّعائها معرفة الخالق وفبركتها لأيديولوجية تؤكد أن الائمة الأثنا عشر يحيطون بالله.
وعلى المستوى المحلي، كلنا نعلم أن صغار رجال الدين في النجف وكربلاء والكاظمية يلعبون على سذاجة العبد الفقير، كذاك الذي ينذر خروفاً للحسين لو خرج ابنه مما هو فيه من علة. يقوم رجل الدين الطفيلي بتطمين ذلك الكائن البائس من أن نذره وصل، في حين يقوم هو بالاستيلاء على ذلك الخروف. هذا مثل بسيط إنما أكاد أن أقول إن كل الأمثلة تودي بنا إلى نتيجة مفادها أن الوسطاء من أكثر الناس إجراماً بحق الله والإنسان. بل أصبح مفهوم الوساطة مادة لغنى بعض رجال الدين فكما نعلم، يمتلك ورثة المرجع الخوئي ثروات طائلة، وعلي السيستاني الذي يبدو عليه التواضع من الأغنياء أيضاً، وبفضل مفهوم الخمس والذي هو كما نعلم ريع طفيلي.
في السابق كان الشيعة يؤمنون بعدم إمكانية قيام حكم أرضي عادل، بل كانوا يرفضون فكرة وجود سلطة دنيوية شرعية قبل عودة المهدي. كيف يتصادم هذا التراث مع واقع باتت فيه غالبية الشيعة تلحق سياسياً بنظرية ولاية الفقيه المطلقة؟ وما تأثيرات ذلك على حياة الناس وعلى العقيدة الشيعية نفسها؟
تاريخياً، وكما تفضلت، لا يؤمن الشيعة بحكم أرضي عادل، إنما الأمور تبدلت مع بروز الصفوية كسلطة وعقيدة في القرن السادس عشر من التقويم المعاصر.
ما كتبه المجلسي باعتباره الفقيه والمفكر لهذا النظام أقامه على موازاة الكتابات السنّية التي تدعو إلى طاعة ولي الأمر مهما كان جائراً وسافلاً ومنحطاً ما دام يؤمن بالله ورسوله! قام المجلسي وعبر كتاباته، ولا سيما موسوعته الشهيرة ''بحار الأنوار"، بالأخذ بما ورد في الموروث السنّي. ومع صعود الإسلام الشيعي في إيران مع الخميني، أُعيد النظر بتلك المفاهيم. فهم على يقين من أن الحكم العادل تحقق مع الخميني.
هناك حقيقة لم يفكر بها الخميني ولا كبار مفكري الشيعة المعاصرون، بما يمكننا أن نطلق عليه مكر التاريخ، فقد قدم الخميني دون إرادته خدمة جليلة لأبناء هذه المنطقة، إذ تراجعت أفكار الثورة الإسلامية في إيران وأصبح الناس وهنا أقصد الشيعة بالذات في إيران والعراق على سبيل المثال على يقين من أن ما جاء به الخميني كان من أجل إعادة "أمجاد" الإمبراطورية الساسانية! وهي متخيلة وتكشف عن أمراض مزمنة في النفس الفارسية الجماعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي