شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
علي باي العباسي… الجاسوس الإسباني الذي خدم بيت الله الحرام

علي باي العباسي… الجاسوس الإسباني الذي خدم بيت الله الحرام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الأحد 26 فبراير 202301:19 م

علي باي العباسي… الجاسوس الإسباني الذي خدم بيت الله الحرام

استمع-ـي إلى المقال هنا

"إن التوسع الاستعماري، كان من المُحال تحقيقه إلا إذا أطلقت الأجناس البيضاء العنان، لولعها بالترحال الذي يشهد بتفوقها الفكري، في أراضي الشرق المتخلف الذي يحتاج إلى منقذ، وهذا المنقذ لم يكن سوى الآلة العسكرية". عبر هذه الرؤية الكاشفة، للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، التي حفرها في كتابه الرائد والمؤسس "الاستشراق"، دخل سعيد – بعد تفكيكه لمصطلح الاستشراق- إلى مخبأ الرحالة الجواسيس، الذين قاموا بأدوار مشينة، لتقديم الشرق على مذبح القوى الغربية. فالترحال، ياله من ستار مغر، خلفه وتحت معناه الرومانسي، كان يتم تمهيد الطريق للآلة العسكرية الغربية، عبر عدد هائل من الرحالة الذين لم يكونوا سوى جواسيس يعملون مع أجهزة الاستخبارات الغربية، وفي نهاية الطريق، لم يعد الشرق مكاناً أجنبياً بالنسبة لهم بل أصبح موطناً للاستعمار الرسمي.

يبرز اسم الرحالة الإسباني دومينغو باديا إي ليبليش، كأحد أخطر الرحالة الجواسيس الذين عاشوا وتنقلوا في بلاد المغرب والشرق العربي، ولم يكن هذا الرجل، ينتظر الأوامر من الجهات الاستخباراتية٫ بل كان مغامراً وطموحاً، ومجازفاً.

في أوائل القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت التكالب الأوروبي على المنطقة العربية، عرض دومينغو، على الحكومة الإسبانية، أن تقوم برحلة استكشافية سياسية إلى بلاد المغرب العربي. تحمس رئيس الوزراء الإسباني للفكرة، وكلفه بالسفر إلى المغرب، على أن يقوم بتنفيذ إحدى المخططات الاستعمارية.

وهكذا بدأت رحلة دومينغو إلى المغرب العربي عام 1803، مدعومة بحماس كبير من الملك الإسباني كارلوس الرابع. ومن المغرب انطلق إلى تونس، وليبيا، ومنها إلى قبرص واليونان، حتى وصل إلى الإسكندرية في 27 أبريل/نيسان 1806، ثم انتقل إلى القاهرة، وحظى هناك بصداقات واسعة مع شخصيات مهمة، على رأسهم السيد عمر مكرم نقيب الأشراف.

يبرز اسم الرحالة الإسباني دومينغو باديا إي ليبليش، كأحد أخطر الرحالة الجواسيس الذين عاشوا وتنقلوا في بلاد المغرب والشرق العربي، ولم يكن هذا الرجل، ينتظر الأوامر من الجهات الاستخباراتية٫ بل كان مغامراً وطموحاً ومجازفاً  

وفي نهاية عام 1806، بدأ رحلته العجيبة إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج، ليكون بذلك أول إسباني غير مسلم يضع قدمه في هذه الأرض بعد الإيطالي لودوفيكو دي فارتيما، الشهير بـ"الحاج يونس المصري"، والذي دخلها في عام 1503.

دومينغو باديا وعلي باي العباسي

خلال حياة دومينغو، صدرت طبعات متعددة لهذه الرحلات، في شكل كتب منفصلة، كان أولها "رحلة عبر المغرب"، ثم "رحلات علي باي العباسي إلى أفريقيا وآسيا"، ثم صدرت بعد ذلك مجمعة في ثلاثة أجزاء، صدرت الطبعة الأولى منها باللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية. أما الطبعة الكاملة باللغة الإسبانية فقد صدرت عام 1836 في مدينة فالنسيا في ثلاثة أجزاء، وصدرت بعدها طبعات متتالية لا يُعرَف عددها باللغة الإسبانية.

ومؤخراً صدرت الترجمة العربية لمذكرات دومينغو الكاملة، والتي تجاهلها المثقفون والمترجمون العرب لسنوات عديدة٫ عن مشروع كلمة للترجمة بمركز أبو ظبي٫ حيث عكف الكاتب والمترجم المصري طلعت شاهين على ترجمتها معتمداً على النص الأصلي المكتوب باللغة الإسبانية، وهو كمترجم مخضرم، قد أجرى تحقيقاً واسعاً حول حياة هذا الرجل العجيب الذي لا يزال ملهماً لعدد كبير من الكتاب الإسبان.

بالنسبة لطلعت شاهين، فإن "دومينجو باديا مواطن إسباني فريد، وضعه القدر أو صنع قدره ليكون من أوائل من قرروا التعلق بهذه المنطقة في وقتٍ كان فيه الشرق حُلماً رومانسياً للبعض، وطريقاً للثروة والشهرة للبعض الآخر. دفعه حسه المغامر إلى أن يتخذ من اعتناق الإسلام ستاراً لعمليات تجسسية لصالح القوى الأوروبية الكبرى في ذلك الوقت. تَشبَّه بكل ما يفعله مسلم ملتزم، بدءً من الهندام وإكرام اللحية، حتى التفاصيل الدقيقة التي لا تخطر على بال، واختار له اسماً عربياً هو (علي باي ابن عثمان العباسي)، مُدعياً أنه من أحفاد بني العباس الهاربين إلى أوروبا خلال فترة الصراعات المذهبية".

مخططات علي باي الاستعمارية

وُلد دومينغو باديا في برشلونة عام 1767، ثم انتقل مع والديه إلى غرناطة، وهناك بدأ شغفه بالعالم الإسلامي، حيث تأثر بما شاهده من الآثار المورسيكية المنتشرة في تلك المنطقة. عُرف عنه أنه كان موسوعي الاطلاع، حيث تميز بثقافة عالية في علم الفلك والعمران والجغرافيا والطب. وكذلك كان على معرفة كبيرة بعددٍ من اللغات مثل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية (لغته الأم)، بالإضافة إلى اللغة العربية.

وغير ثقافته الواسعة وذكائه الحاد، عُرف دومينجو بتهوره وعشقه للمغامرات والأعمال الجاسوسية وإثارة الفتن، حتى أنه حلم في وقت من الأوقات أن يجمع العالم تحت سقف إمبراطورية غربية موحدة. عند وصوله إلى المغرب، حاول إقناع السلطان المغربي مولاي سليمان بن محمد بقبول الحماية الإسبانية دَرْءاً لخصومه الطامعين من الفرنسيين والإنكليز، وعندما فَشِل في تنفيذ هذا المخطط لجأ إلى دعم بعض الثوار هناك، وحرَّضَ على فتنة داخلية تساعد في إضعاف المغرب وتُسهل احتلاله على يد الإسبان.

وبحسب المُترجم فإن دومينغو قد عرض مشروعه لاحتلال المغرب على نابليون بونابرت، وكان ذلك في عام 1808، لكن الإمبراطور الفرنسي تَشكك في نواياه وبعَثَه مع رسالة توصية إلى شقيقه جوزيف بونابرت حاكم إسبانيا الفعلي، للتخلص منه.

أنت أحد خُدام بيت الله

بجانب التجسس، والتقارير التي كان يُقدمها دومينغو لجهة استخباراتية تابعة للتاج الإسباني، فإن هذه المذكرات التي بين أيدينا، تُقدم وصفاً دقيقاً وعلمياً في جانب كبير منه لحقبة تاريخية فارقة في العالم العربي، ولعل رحلة علي باي العباسي إلى مكة متخفياً تحت ستار هوية عربية إسلامية مزيفة، هي الأكثر شهرة وإثارة من بين جميع رحلاته، حتى أنها ألهمت الروائي الإسباني رامون مايراتا، لكتابة رواية عنها بعنوان "مسيحي في مكة".

رحلة علي باي العباسي إلى مكة متخفياً تحت ستار هوية عربية إسلامية مزيفة، هي الأكثر شهرة وإثارة من بين جميع رحلاته.

في التاسع عشر من ديسمبر عام 1806، انطلق علي باي في رحلته إلى مكة، وخلال رحلته الشاقة، لم يترك أي صغيرة أو كبيرة إلا وسجلها في دفتر ملاحظاته، وبالتحديد الملاحظات الفلكية والبيئية، وفور وصوله استقبله السلطان شريف مكة، ودار حوار مريب بينهما، حيث كان الشريف غالب، يسعى إلى معرفة الهوية الحقيقية لهذا الرجل الإسباني، لكنه قد خُدع هو الآخر، حتى أنه قد دعاه للمشاركة في تنظيف الكعبة في تلك الأيام التي تُفتح فيها أبوابها: "قام السلطان شريف شخصياً بكنس الفناء، وقدموا لي حزمة من المكانس أخذت بعضها في كل يد، وبدأتُ في الكنس من النقطة التي ألقوا فيها الماء، كنستُ بكلتا يدي بحمية إيمانية، بالرغم من أن الأرضية كانت نظيفة قبل أن أبدأ وتلمع كالمرآة. وحينها قال لي السلطان شريف: أنت أحد خُدام بيت الله. وتلقيت التبريكات من جميع الحاضرين".

ارتبط علي باي بصداقة قوية مع كبير سقائي بئر زمزم، وكان شاباً في الثانية والعشرين من عمره، يحظى بثقة كبيرة من جانب شريف مكة، غير أنه كان يقوم بالكثير من الأعمال المشبوهة، حيث لاحظ الرحالة الإسباني أن هذا الشاب يُراقبه في جميع تحركاته في الحرم المكي، وأثناء أدائه للطقوس الدينية، وتوصل علي باي إلى أن هذا الشاب كان يتلصص على جميع الشخصيات والباشوات الذين يذهبون إلى مكة ومع أي شبهة ولو قليلة، كان الشريف يأمره بالتصرف، وبعدها يختفي هذا الشخص.

يقول دومينغو: "من أزمنة سحيقة كان السلاطين يعتبرون أن شريف مكة (سماوي) العرش، وكان الباب العالي يُرسل الكثير من الباشوات وشخصيات أخرى إلى مكة للتخلص منهم وإبعادهم عن طريقه". من خلال أصدقائه المغاربة، كان دومينغو على علم بكل هذه المكائد، ومن ثم كان دائماً ما يأخذ حذره، فلم يكن يتحرك إلا وفي حوزته ثلاث نقاط من الزنك المصفى، الأكثر دفعاً للإنسان إلى القيء ويبدأ مفعوله على الفور في التطهير، ودفع السموم.

مكة في بدايات القرن التاسع عشر

صورة قاحلة ومُجدبة، تلك التي رسمها دومينغو لمكة في مذكراته، حيث وصفها بالمدينة الأكثر جهلاً بالفنون، فهناك –على حد قوله- لم يسمع صوت أي آلة موسيقية، وكذلك لم ير فيها رجلاً واحداً يستطيع أن يصنع مغلاقَ أو مفتاحَ باب، ولا يوجد أي حداد يُمكنه أن يصنع مسماراً أو يصنع قطعة من بندقية أوروبية، ولا يوجد نحاسون لجلي النحاس، أما العلوم فكانت في حالة سيئة٫ كل علاقة الناس بها محصورة فقط في قراءة القرآن والكتابة ولكن بحروف سيئة جداً.

ومن ثم وصف الرحالة الإسباني أهل مكة بـ"الأكثر جهلاً في العالم"، لكنه أرجع هذا الجهل إلى الموقع الجغرافي للمدينة التي تقع في عمق الصحراء الأمر الذي عزلها عن باقي العالم، وحرم سكانها من التواصل مع الآخر، ولذا بقي شعبها غارقاً في سكونه في أعماق الضباب. ومن هنا يتساءل دومينغو: "مكة فقيرة وبائسة للغاية.

فما المصادر التي تَبقَّت لدى أهلها ليستمروا على قيد الحياة؟ أعتقد أنها قوة السلاح، لإجبار الشعوب الأخرى على اقتسام جزء من إنتاجهم كغنائم، أو التطرف الديني لإجبار الأجانب على القدوم وترك جزء من أموالهم في البلاد. لم تكن هذه المدينة عظيمة إلا في فترة الخلافة، وبعدها لم يعد أمام المدينة للاستمرار في الحياة من مصدر غير التطرف الديني، وللأسف فإن هذا لا يزال يزداد يوماً بعد يوم وهو ما يجعل الحياة في مكة شيئاً رديئاً، كما هو بارز للعيان حالياً، وكما كان حالها قبل بعثة النبي".

صورة قاحلة ومُجدبة، تلك التي رسمها دومينغو لمكة في مذكراته، حيث وصفها بالمدينة الأكثر جهلاً بالفنون، فهناك –على حد قوله- لم يسمع صوت أي آلة موسيقية،أما نساء مكة، فهن من وجهة نظره يتمتعن بحرية كبيرة مقارنة بأي مدينة مسلمة أخرى 

في ذلك الزمن البعيد، كان الحج هو مصدر الرزق الوحيد لأهل مكة، فالمدينة لا تعود الحياة إليها إلا خلال تلك الفترة، حيث تنتعش التجارة ويتحول عدد كبير من السكان إلى مؤجري بيوت وتجار وسائقين وخدم، وهناك من يعتمد على العمل في خدمة بيت الله الحرام، ويعيش على ما يُقدمه لهم الحجاج من هدايا وصدقات، وامتداد لهذه الصورة البائسة التي رسمها دومينجو لمكة، فهو يرى أنه لولا وجود بيت الله الحرام في هذه المدينة، لانحسرت وتحولت إلى مجرد بقعة أو قرية صغيرة لا ترى على الخريطة.

أما نساء مكة، فهن من وجهة نظره يتمتعن بحرية كبيرة مقارنة بأي مدينة مسلمة أخرى: "هن متحررات كثيراً، بل يُمكنني القول إنهن جريئات، لا يلتزمن إلى حد ما بالتقاليد الإسلامية. وهن أيضاً سليطات اللسان ويَسِرن بدلال، أنوفهن محدبة، ولكن أفواههن كبيرة. كنتُ أراهن بشكلٍ متكرر يتطلعن من النوافذ حاسرات الرأس".

في أثناء رحلته٫ كان دومينغو مُقدراً له أن يكون شاهداً على سيطرة الحركة الوهابية بقيادة السلطان سعود على مكة وجميع أراضي الحجاز، وبحسه المغامر، تعرف الرحالة الإسباني على عدد من القادة الوهابيين، وكان مؤيداً لهم حيث كان يراهم على حق في الكثير من أفكارهم، ومعتدلين في حوارهم مع من يتحدث معهم، وقد تنبأ لهم بلعب دوراً محورياً في قلب الموازين بين القوى المحيطة بهم، إن خففوا من تشددهم الديني، عبر اعتناقهم نظاماً آخر أكثر ليبرالية.

بعد رحلته إلى مكة، عاد الرحالة الإسباني مرة أخرى إلى القاهرة، ومنها انطلق إلى دمشق، أقام فيها وتزوج وأنجب تحت اسمه المستعار. ووفقاً للعديد من المصادر -بحسب المترجم- وقع خلاف بين دومينغو وأجهزة الاستخبارات الإنكليزية في دمشق، فقاموا باغتياله بدس السم في فنجان قهوة تناوله بعد دعوة على العشاء من قِبل أحد باشوات دمشق. وهكذا مات الجاسوس والرحالة الإسباني مسموماً، تاركاً خلفه ذرية تناسلت في بلاد الشام، والكثير من الحكايات الأسطورية عن غرائب حياته.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image